فوضى الفصول(5)

فوضى الفصول(5)

“ مقدّمات “

محمد باقي محمد

[email protected]

- 1 -

بعد طول انتظار جاءت حرب تشرين، لكنها لم تمسك بمجامعك كما فعلت حرب حزيران التي وُسمت في ما بعد بالنكسة! طبعاً أنت لم تجرؤ على إلقائها خلف ظهرك تماماً، ربّما لأنك كنتَ تخشى أن تُفاجأ بنتائج لا تخرج كثيراً عن تلك التي تمخّض عنها حزيران في ذلك الصيف الكئيب، لأن النفس ما كانت لتحتمل أنباءً أخرى من النسيج ذاته! غير أنك ـ في مستوى آخر ـ كنتَ تعي بأنها تظلّ حرباً، وعليه فلا بدّ ـ في النهاية ـ من رابح في طرف، وخاسر في طرف آخر، ثمّ أنها لم تكن حرباً بين طرفين غريبين لا تربطك بهما صلة، فالطرف الأساسي فيها هو بلدك، وخسارته سيكون لها وقع الكارثة عليك، لاسيما إذا تعدّت تلك الخسارة هزيمة الجيوش على جبهات القتال إلى ما هو أخطر، إلى ضياع أرض جديدة مثلاً، ولذلك فلقد أخذتَ تتابع الوقائع بحذر، من غير أن تتقبلّها على عواهنها، بل أنشأتَ تتحرّى في جذورها بالمقارنة بين ما تسمعه من هذه الإذاعة أو تلك، وذلك في محاولة لقراءة ما بين السطور!

كانت الأخبار التي تواردت من ساحات القتال ـ في الأيام الأولى ـ مشجّعة، فلقد نجحت القوات السورية والمصرية في إيهام العدو بأنّها بعيدة عن الحرب، في الوقت الذي راحت تستكمل فيه جاهزيّتها، ولمّا أزفت الساعة تمكّنت القوات المصرية من قطع "قناة السويس"، مخترقة "خطّ بارليف"، الذي كان العدو يراهن عليه كثيراً، بينما اجتاحت القوات السورية تحصيناته في "خطّ آلون"، وأعادت بسط سيطرتها على جبل الشيخ ذي الموقع الهام، وكان لتلك الأنباء وقع حسن عليك، فأخذتَ تنسى نفسك بالتدريج، وتشلح عن كتفيك رداء الحذر، متوغّلاً في تتبّع الحدث الذي راح يلصّك، ويضعك في سياقه العام! وفي انتظار فصل الختام أنشأ القلق يستبدّ بالنفس شيئاً فشيئاً، فهل كان ذلك القلق نذيراً، أم أنه كان يتعلق باللغط الذي أُثير ـ على حين غرّة ـ حول ثغرة صغيرة كان العدو قد فتحها في منطقة البحيرات المرّة!؟ لغط راح يعلو، وينثر من حوله أنباءً متضاربة، ممّا أثار ردود أفعـال شتّى! وفـي الوقت الذي كـانت القيـادة المصريـة تهّون

ـ فيه ـ من شأن تلك الثغرة، مُتخوّفة من تزايد القلق الشعبي في الداخل، راحت القوّات الإسرائيلية تندفع عبرها، وتطوّق الجيش المصري الثالث!

آنها ربّما لم يكن الزمان الذي تخشاه قد اتضّح تماماً، لكن الصورة ستتوضّح فيما بعد، وذلك عندما يُقدم أول رئيس عرّبي على زيارة القدس بعدالحرب بسنوات ، فتتابعه الملايين عبر أجهزة التلفاز، وهي تكذّب ما تراه على الشاشة لتناهيه في الغرابة والعبث واللامعقول! ومع تلك المحادثات التي ستشتهر باسم "كامب ديفيد"، ثمّ محادثات "الكيلومتر مئة وواحد"، التي ستنتهي إلى خروج مصر من الحرب، بل من المواجهة مع إسرائيل ككّل، ستأخذ دورة أخرى من الزمن العربي تنغلق على ما يشبه الدخول في نفق مظلم لا يُرى فيه شيء!

وكان أن استمرّت "سورية" لوحدها في المعركة، بعد أن تذرّعت "مصر" بجيشها المحاصر في" الدفرسوار"، وسطّرت اتفاقها الذي يقضي بوقف إطلاق النار بينها وبين "إسرائيل"! لتشهد الجبهة الأخرى، جبهة "الجولان " معارك طاحنة سلاحها الدبّابات والمدفعية، بعد أن نجحت شبكة الصواريخ السورية في لجم طيران العدو إلى حدّ كبير، وراحت تلك المعارك تطال الأخضر واليابس في حرب مضنية، ثقيلة الخطو، بدت بلا نهاية!

استغرقت حرب الاستنزاف ثلاثة أشهر بطيئات، أنهكت الطرفين، وغبّ ضغوط شتّى مورست شرقاً وغرباً، تمكّنت هيئة الأمم المتّحدة من التدخّل، فتوقّفت العمليات القتالية، وانتشرت القوات الدوليّة على طول الجبهة بين "سورية" و "إسرائيل"، وعادت "القنيطرة"، لكنّها عادت مُهدّمة تماماً! رجعت المدينة الجنوبية ـ التي احتضنت أبناءها بحنّو، وكانت شاهداً على أحلامهم وآمالهم وصراعاتهم وشهواتهم و أوجاعهم ـ إلى الحضن الكبير، إلا أنّها رجعت على شكل أكوام من الحجارة والأتربة والأزقة المُحفّرة، بحيث صار من الصعب استحضار تلك الأبنية الشامخة، والشوارع التي كانت تضجّ بالحركة والحياة يوماً، وأقفل الطرفان دفترهما الساخن إلى حين!

فهل هذه هي النتائج التي كنتَ تنتظرها!؟

لكن الحدود التي أُغلقت بين "سورية" و" العراق" إثر تلك الفترة، شغلتكَ عن أسئلتها قليلاً، ثمّ استجدّ في الحيّ ما استأثر باهتمامك، إذ أنّ "حوّاجي" زقاقكم راحوا يغادرون البلدة فرادى، بعد أن يممّوا وجوههم شطر "نبّل" التي جاؤوا منها! كانت السنوات الطويلة قد وطّدت بينكم علاقات جوار دافئة، ارتفعت في بعض الأحايين إلى مستوى صداقة حميمة، بيد أنك ما كنتَ لتستطيع أن تعوضّهم عن لقمة عيشهم التي ارتبطت بتجارة محدودة بين ريف المنطقة، وريف المناطق المحاذية لها في الجانب الآخر، فداخلك الأسى لمفارقة بعضهم، بما أنساك شجون الحرب وشؤونها إلى حين!

- 2 -

أخذت البلدة تتمّرد على حدودها في السنوات الأخيرة، لكي لا تصاب بالإحتشاء، بعد أن ابتلعت أعداداً متزايدة من الناس الذين تركوا قراهم خاوية أو تكاد! وبدا الأمر ـ في مجمله ـ كصراع مع الزمن لا يعرف أقطابه إلى أين يقودهم صراعهم ذاك، ولا لماذا قُدّر لهم أن يخوضوه! فكانت فوضى عظيمة؛ أخذ "تل حجر" ـ في غمارها ـ ينمو ويتّسع بغير حساب، متناسياً ثلّة البيوت الترابية التي كانها، فامتدّت قدماه جنوباً حتى لامستا التخوم الشمالية للبلدة ذاتها، بحيث أصبح من الصعب فرز هذه من تلك، بينما راحت الرأس تزحف شمالاً، وتدفع بالذراعين غرباً وشمال غرب، ليحتضن بإحداها قرية "خطّو" وبالأخرى حيّ "الناصرة"، من غير أن يسأل نفسه عمّا إذا كان يفعل ما يفعله وفق رغبته، أم أنه مُكره عليه لا بطل!

أمّا "الناصرة" الذي بدا كشامة صغيرة في ظهره، فلقد راح ينمو بشكل سرطاني لا يمكن السيطرة عليه، أو تنظيمه، حتّى كاد أن يلتفّ على المدينة من جهة الغرب، فيما وصلت حدوده الغربية إلى تخوم "مركز المجرجع للبحوث الزراعية"، بعد أن اغتال في طريقه حقول القمح والقطن التي كانت تفصله عن البلدة لسنوات قريبة خلت، ولم يكن في نيتّه أن يتوقّف، لكن المركز حال بينه وبين ما يريد! ولم ينسَ أن يتسلّل شمالاً، ليتعمشق بساحة "خطّو" التي راحت تمور بحركة دؤوب!

كانت المسافات قد تدانت، فتوحدّت الرقعة، ومابدا نائياً ـ بالأمس ـ لم يعد اليوم كذلك! أمّا بيتكم الذي كان يتمسّك بالحافة الشرقية من "العزيزية" خوف أن ينزلق جنوباً بسبب الانحدار، فلقد أضحى اليوم يتوسّطها، إذ أن العمران راح يزحف شرقاً حتّى اتصل "بالمسلخ"، ثمّ تجاوزه على حساب الحقول والبساتين المجاورة، حتى تاخَمَ قرية "أبو عمشة"، التي تربّعت على كتف تلّة صغيرة تنحدر نحو "الخابور" في النقطة التي ترفده فيها مياه "الجغجغ"! كما لم يألُ جهداً في دفع البساتين التي كانت تحدّه جنوباً إلى تخوم النهر، وأخذ يتلفّت يميناً وشمالاً باحثاً عن موطئ قدم لم يطله البناء بعد، لكن حي "الصالحية" كان له بالمرصاد، ففي المثلث الواقع بين "العزيزية" في التقائها بجسر "الجغجغ"، وبين قرية "المفتي" تحرّكت "الصالحية" مدفوعة بالغيرة ربّما، وراحت تتّسع شمالاً وشرقاً، ثمّ كان أن أنجب الحيّان في التقائهما حيّاً وليداً، شرع يتسع شرقاً حول الطريق الذاهب إلى جبل "كوكب"، فأطلق عليه أهلوه اسم "الغزل" تيمّناً بحجر الأساس الذي تمّ إرساؤه بغية إقامة معمل للغزل هناك! أمّا الطريق الفاصل بين "العزيزية" و "الصالحية"، فلقد أخذ يكتسب أهمية متزايدة يوماً بعد يوم، بعد أن أضحى طريقاً حّيوياً ينتهي إلى ساحة شبيهة بساحة "خطّو"، وطفقت الدكاكين من كلّ نوع ولون تغزو جانبيه، حتّى كاد أن يشكّل سوقاً مستقلة بذاتها!

وما كان "لغويران" أن يسكت على ما يجري، فتوسّع هو الآخر، بعد أن راود ـ ثلّة البيوت التي ترامت إلى الجنوب الشرقي منه تحت اسم "الآغاوات" ـ عن نفسها، وأخذ يرنو بكلّ عين ماكرة إلى "حوش الباعر"، على أمل أن يتّصل بها، فيتخفّـف من الضغط الكبير الذي يعانيه، ثمّ زحف جنوباً حتى تداخل "بالليليّة"، وأطلّ من خلالها على "النشوة"! أماّ "النشوة" نفسها، فلقد انقسمت إلى قسمين، قديم ارتمى بإهمال إلى الجنوب من ضفة "الخابور"، واتّصل بالبلدة بوساطة جسر كبير، وآخر رثّ بدأ يتناثر إلى الغرب من شقيقه حول الطريق الجنوبي الذاهب إلى "تل تمر"، حتى كاد أن يتّصل "بالمقاسم الخمسة"، مشّكلاً حالة نموذجية لزنّار الفقر الذي يحيط بالمدن عادة!

وذات مساء وصل خطّ السكة الحديدية إلى البلدة، كان السعال قد أنهكه لكثرة ما أدمن على الدخان، فاستراح في محطة إلى الغرب منها، ثمّ أكمل دربه شمالاً، وقد ترسّخ في وهمه أنّ الأوان قد آنَ لترثي البلدة وسائل النقل التي تقادم بها العهد، وترسلها إلى مقابر خاصة بها! وبخبث شديد، أو بمحض مصادفة ربّما، مرّ ذلك الخط بين "النشوتين"، ليضع حدّاً نهائياً بينهما، ثمّ عبر "الخابور" من معبره الخاص، ليرسم الحدود الغربية للمدينة، وذلك في محاولة يائسة لحمايتها من الالتفاف المريب الذي كانت "الناصرة" تخطّط له، فاصلاً بين تلك البيوت المشاغبة، الفارة من التنظيم، ثمّ رحل بعيداً نحو شمال لاهث ومُغّبر!

كانت الأمكنة تبدّل جلودها، وهاهي البلدة ذاتها تخلع ثوبها القديم، وترنو إلى الجديد بعين راغبة، متجاهلة المصاعب الجمّة المطلوب تجاوزها، ربّما لأنها لم تكن قد حسبت حسابها على هذا الأساس، فاختطّت لنفسها شوارع ضيقة وقصيرة، ستظلّ عائقاً في وجه كثير من الأفكار والمشاريع التي كانت تُرسم على الورق، أو في الأذهان! وابتداءً بدار البلدية التي كانت عبارة عن غرفتين ترابيّتَيْن وبهوٍ صغير، أخذت رياح التغيير تطال كلّ شيء، فإذا ببناء حديث يرتفع مكان هاتين الغرفتين، لتؤجّر البلدية الطابق الأرضي منه كمحال تجارية، وتترك الطابقَيْن العلويَّيْن كمكاتب لموظّفيها المتزايدين! ومن ثمّ جاء دور سوق الهال الذي ضاق بناسه، وما عاد يفي بحاجة البلدة إلى اللحوم والخضار، فكان على البلدية أن تقوم بنقله إلى سوق جديد راح يُشاد جنوباً على ضفّة "الخابور"، وقرّرت أن تبني مكانه بناءً حديثاً يُخصّص الطابق الثاني منه "لمديرية الأعمال الفنية"، و "مصرف التسليف الشعبي"، وبذلك يتسنّى لها أن تبيع الطابق الأرضي على غرار ما فعلت بدار البلدية نفسها! وإلى الغرب من الملعب البلدي الذي شُيّد مكان مطار لم يُقيّد له أن يُنفّذ؛ طرحت مقاسم بناء لذوي الدخل المحدود، فأخذ العمران يزحف غرباً نحو محطّة القطار، من غير أن يترك وراءه فسحة خالية، فيما واصلت الحارة "العسكرية" زحفها الحثيث شرقاً باتجاه "الوادي الشتوي"، فلم يبق فيها موطئ قدم بلا عمران! كانت المظاهر التقليدية قد بدأت تغيب لصالح مظاهر حديثة، فاختفت الأبواب الخشبية ذات الضلفتين اللتين كانتا تغلقان بقضيب حديدي عن واجهات المتاجر، وحلّت محلها أبواب سحّابة ذات ضجيج، وترافق ذلك بغياب الموازين التقليدية ـ المُؤلّفة من عمود خشبي يُرفع على الأكتاف، وخطّاف يرفع المادة الموزونة ـ عن كراج "الآشوريين" الشهير بخضرته، لتحلّ بدلاً عنها موازين معدنية حديثة!

كانت البيوت في الأطراف مُشيّدة من الطين، بعكس البيوت الإسمنتية التي كانت تشكّل غالبية الأبنية في المركز! وحتى تلك التي شُيّدت بالحجر، جاءت سقوفها على غرار سقوف البيوت الطينية! لأن تلك الأحياء كانت مناطق مخالفات سهت البلدية عن نموّها بذلك الشكل السرطاني، أو غضّت النظر عنه لهذا السبب أو ذاك، فغابت عنها الساحات، وانعدمت الطرق المستقيمة، وتداخلت البيوت بفوضى عجيبة يعجز عنها ـ حتى ـ المتقصّد! وعلى تلك الدروب الضيّقة وجدت مياه الاغتسال سواقي لسيرها، وحفراً لتجمعّها، فأسنَتْ، وحالَ لونها، وأصبحت مصدراً لروائح لا تطاق صيفاً، ومصائد للطين شتاءً، عداك عن أسراب الذباب الأزرق في النهار، والبعوض في الليل، إذ لم يكن ثمّة مصارف صحيّة للمياه فيها! كان الناس قد تجمّعوا في أماكن لا تختلف عن قراهم كثيراً إلا من حيث الحجم والتنوّع، ومع ذلك فإن أحداً منهم لم يتساءل عن الفرق أو الجدوى، وظلّوا على تلك الحالة من نزوح لا ينضب؛ من غير أن يقف في وجههم شيء، فلم يسلم منهم حتى الأموات الذين استراحوا في قبورهم منذ أمد، وتوهّموا بأنهم قد سلموا على عظامهم، ذلك أنّ الأحياء كان لهم رأي آخر حول الموضوع، سرعان ما عمدوا إلى تنفيذه، فنهضوا إلى المقابر القريبة ينقلونها إلى أطراف بعيدة، من غير أن يأبهوا كثيراً باحتجاجات أولئك الموتى، أو طقطقة عظامهم المستكينة! على عجل كانوا، فلم يجدوا الوقت لكي يخطّطوا جيّداً للمكان الجديد لتلك المقابر، بحيث لا يضطرهم توسّعهم العشوائي إلى نقلها ثانية في المستقبل القريب!

ولم يكن لتلك المناطق لسان حال، لكن واقعها المزري أنشأ يذكّر السلطات بشكل سافر وبذيء بحاجة سكانّها ـ الذين اصطحبوا معهم بعضاً من حيوناتهم الداجنة ـ إلى فرص عمل، ومستوصفات، ومدارس، وكهرباء، وطرق مُعبّدة، ومناهل للماء النظيف، وشبكات للصرف الصحّي، ووسائل عامة للنقل، وخلافه حاجة لم تستطع الحكومة معها ـ في تلك العجالة والازدحام ـ أن تؤمّن من هذه الخدمات إلا أقلّها! وكان ذلك التوسّع مع ما يطرحه من مشكلات مثار حوار لا ينتهي، لأن المواقف منها كانت تتباين باختلاف المواقع، وبنوع من الإحساس بلا جدوى الحوار كنتَ تردّد؛ أن لا جديد في المسألة،فلقد خبرتَ مثل تلك الأمور، وهي لا تبدو في طريقها إلى الحلّ!

-3-

وفي الإبّان ذاته دخل التلفاز البلدة على عجل! كان اليابانيون، أو الكوريّون، أو آخرون من تلك الأقوام التي تميل إلى القصر ـ والتي غزت العالم بعيونها المائلة المشقوقة، وبشرتها الضاربة إلى الصفرة ـ قد وصلوا إلى قمّة "كوكب"، وعلى الذروة ارتفعت الهوائيات، ثمّ سُورّت بأبنية أخفت عن العيون أجهزة غريبة ومُعقّدة، فقعد الناس إلى ذلك الجهاز العجيب بتماه تام، وصاروا يتابعون التمثيليات المُسلسلة التي يبثها باستلاب كامل، فاضطرت دور السينما إلى إغلاق أبوابها بعد أن كسدت عروضها، بينما تحوّل بعضها إلى صالات عامة في الأعراس، بحيث اختفت تلك التجمّعات المُحببّة التي كانت تحتشد لمشاهدة أفلامها الأثيرة، غابت حفلة الساعة الثالثة والنصف من يوم الأحد شتاءً، فغابت معها الفتيات الجميلات اللواتي كنّ يقصدن تلك الدور لمشاهدة عروضها الفرنسية، أو الإيطالية، أو العربية، أو الهندية، وبغيابهنّ غاب الشباب الذين كانوا يضربون عصفورين بحجر واحد، ذلك أنهم كانوا يستمتعون بمشاهدة أفلامهم المنتظرة من جهة، و يمتّعون أبصارهم بمرأى أولاء الفاتنات من جهة أخرى، فينقلب المكان إلى مهرجان من الألوان والأصوات والروائح والتجمّعات الصغيرة السابقة على العرض! كما غابت حفلة الساعة التاسعة والنصف صيفاً، حيث تكون حدة الحرارة قد انكسرت، وطاب المشي بعد مشاهدة فيلم حالم!

وباستئثار التلفاز باهتمام الناس تباعدت مواعيد زياراتهم،إذْ لم يعد لديهم ما يقولونه لبعضهم البعض، ثمّ تقطّعت تلك الزيارات بالتدريج! أمّا الأمهات فقد تقاعسن في أداء واجباتهنّ المنزلية لكثرة قعودهن إليه ليلاّ، وما عدن آبهات بطلبات أزواجهن كثيراً، لاسيما إذا تزامنت تلك الطلبات مع التمثيليات المُسلسلة، البدوية منها وغير البدوية، وأهمل التلاميذ دروسهم، لأنهم لم يكتفوا بمشاهدة برامجه التعليمية، في حين راحت الفتيات تقلّدنه في أحاديثهنّ عن الحب والزواج، بعد أن انشغلت الأمهات عنهنّ باستعادة عروض الأمس مع جاراتهن نهاراً! ولم يمضِ وقت طويل حتى كانت هوائيات التلفاز تغطّي سطوح البلدة بغابة كثيفة من الأسلاك والشبكات المعدنية وأجهزة التقوية، وعمد بعضهم إلى سرقة الكهرباء من مآخذ غير نظامية حين أعيتهم السبل النظامية، حتى إذا اقترب موعد جولة الجابي المُكلّف بقراءة العدادّات، أخفوا تلك المآخذ، فبدا كلّ شيء طبيعيّاً لا تشوبه شائبة!

وراح أولادك يلحفون في طلب جهاز يعفيهم من الإحراج والتطفّل على الجيران من جهة، ويتيح لهم متابعة برامجهم المُفضّلة من جهة أخرى، لكنّك أخذتَ تتهرّب من إلحاحهم لاعتبارات كثيرة، قد يكون أهمها أنّ ميزانيتك لم تكن تسمح بتبذير كهذا، بيد أنّهم ما كانوا ليتفهّموا أيّ ظرف قد يحول بينهم وبين شراء جهاز خاص بهم! وبمراجعة صغيرة اكتشفتَ بأنّ عشرين سنة قد تصرّمت على زواجك! كان الأولاد قد تكاثروا في غفلة من الزمن؛ حتّى أنك تفاجأتَ بعددهم! ومع الارتفاع المستمر في أسعار الحاجيّات أخذ الفرح الذي ترافق بولادتهم ينقلب إلى ضدّه، صحيح أن الأمور لم تكن على تلك الدرجة من السوء آنَ التحقتَ بالعمل الوظيفي، ذلك أنّ الراتب كان يغطّي مصاريف الشهر بشكل مقبول، إلا أنّها اليوم اختلف اختلافاً بيّناً، فالراتب لم يعد ينهض بأعباء الأسرة إلاّ في حدود الأيام الأولى من الشهر! ثمّ أن أمّك كانت قد رحلت بشكل نهائي، فافتقدتَّ امرأة من طراز نادر، إذ لم يكن يمضي يوم من غير أن تحضر معها باقة من "السلق" أو "السبانخ"، أو شيئاً من "الجزر" أو "الفجل"، أو أيّ شيء آخر، وذلك إلى جانب عملها في الحقول المجاورة التي غابت ـ بدورها ـ بعد أن باغتها العمران، وأخذها على حين غرّة، فإذا عادت إلى الدار اخذت ترفو الجوارب بتلك الطريقة الخاصة بها، أو تعيد تفصيل الثياب التي لم تعد تناسب "خالداً" لتصلح "لسورية"، ربما لأنها لم تكن تستغني عن أي شيء، ولذلك كانت مشغولة دائماً بشيء ما تعيده إلى الاستعمال بعد أن بلي، وغدا رمّة! حتى صورتها كانت قد تغيّرت، فما عادت تشبه تلك الصبيّة الرقيقة الإهاب، المتخوّفة من الانتقال مع أبيك إلى المدينة، ثمّ أن اسرتك كانت صغيرة آنذاك!

في ما بعد حاولتَ أن تتذكّر كيف تأتّى لك أن تشتري تلفازاً، بعد أن أعياك الهرب من الوجوه المعاتبة، وكيف أخذ ذلك الجهاز يلتهم قسطاً وافراً من راتبك، لكن الصورة راحت تبهت لمصلحة تلك الأمسيات التي لمّتكم أمام شاشته،ولم يعد الأولاد الذين جُنّوا به فرحاً يتفكّرون في جار يقصدونه لمشاهدة هذا البرنامج أو ذاك!

يتبع إن شاء الله..