مذكرات كلب (3)
عكاب يحيى
أفكار في: الحب والزواج والأولاد..
ولأني حريص على إفادة قارئ مذكراتي.. فقد رأيت من المفيد وضعه بصورة بعض حواراتنا في مسائل حيوية.. وربما محرجة.. حول: الحب.. والزواج.. والتشارك.. والأولاد في حياة الكلاب..
الكثير منا يعتبر الحب والزواج من الأمور الحسّاسة –المحرّمة.. أو من الخصوصيـات شـديـدة الذاتية.. التي لا يجوز الاقتراب منها علنياً (عديد البشر يعتقدون كذلك.. بينما هناك من يخالفهم، وهناك من يتّطرف في مساحة الحرية التي يجب أن تكون في هذه المسائل)..
* الحب سرّ الحياة.. شريان العطاء والخصب والنماء.. علاج القلوب والأمراض..
الحب الذي أقصده ليس ما يرتبط بالطرف الآخر فقط.. وإن كان الأكثر خصوصية.. وإنما كل شيء: حب الآخر والإخلاص له، حب الطبيعة والبشر والحيوانات، حب العمل والواجب، والأصدقاء والأطفال والأبناء.. وبني جنسك جميعاً، وكافة المخلوقات.. إن استطعت..
الحب بذل وتضحية لا يعرف الشحّ والمنّ والبيع.. والأثمان.. إنه نزعة ذاتية تسبغ على صاحبه التسامح والرحابة، واللطف، وحسن المعشر..
فكيف إذا كان لطرف آخر يستحقه ويقدره؟..
الكلاب محبّة بطبعها دون تصنع.. غزيرة متأصلة جبلت عليها.. ولئن اضطّرنا الإنسان إلى التصنع والكذب والتمظهر أحياناً لكسب عطفه، أو اتقاء شرّه، أو نيل رضاه وعطاياه.. فلا يعني ذلك أننا انتهازيون بطبعنا. والنفاق على العكس.. أعطينا، ونعطي بلا حدود وحساب، وأحببناه من قلوبنا البريئة التي لا تعرف المتاجرة، والغشّ والنفاق.. لكن ماذا نعمل ونحن محاصرون، مقموعون؟
* كان الصديق (جو) الذي تعرفت عليه، وهو يقوم بأحد المشاوير أثناء دورتنا التدريبية، يبدو لي معقداً، رغم مظاهر النعمة التي تبدو عليه.
لم أعرف –في بداية علاقتنا- سرّ التناقص هذا، وتصورت أن من يكون مرفهاً سيكون، ولابدّ، سعيداً.. لأن رغباته محققة، يأكل ويشرب فاخر الطعام والشراب، وينام في حجرة داخل قصر منيف، يخرج في رحلات ومشاوير دائمة مع أسياده، بل يرافقهم سفرهم إلى الخارج.. ويلبس أفخر الثياب وأغلاها، ويتجمل بأطواق فيها ذهب وفضة، وخلاخل في الأرجل.. ويعامله أسياده بكرم ولطف.. فماذا ينقصه؟ ولماذا تمرّ عليه حالات تتصور فيها أن مآسي الأرض حطّت عليه؟..
* كان (جو) يتنازق، ويتبرم باستمرار، يرتبك إذا ما مرّت كلبة.. أية كلبة، فتراه وقد ارتعش خجلاً، وجحظت عيناه، واهتزّ ذيله دون توقف، واضطرب كلّية.. دون أن يقدر على فعل أكثر من ذلك.
* مرارا داعبته.. وأنا أقترب منه محاولاً الولوج إلى عالمه الداخلي وفهم سرّه.. وأخال أني أمسكت برأس خيط أزمته، أو عقدته.. فصرت أحاول مساعدته، بدءا من إلزامه على مصارحتي بما يحّس ويعاني.. وفتح نقاشات جريئة –نسبياً.. وعرفت أن الأنثى هي السرّ الأكبر..
- قلت له، في واحدة من جلساتنا الصافية: وماذا يعني أن هربت (جيلي) منك؟ (وجيلي اسم عشيقته).
- المشكلة يا شفق أكبر من (جيلي) وعشقي لها.. إنها في علاقتي بالكلبات جميعاً.
- هل توضح لي؟
- قل لي لماذا نعيش نحن؟..
- أنت الكلب المرفّه من يسأل؟..
- نعم.. ولعلك تستغرب.. فخلف المظاهر التي تراها: كلب مريض، يعاني الكثير، محروم، مكبوت..
- على رسلك صاحبي.. ما ظننتك تعاني شيئاً..
- لا تغرّنك المظاهر.. إن أردت معرفة دواخل الكلاب فعليك الغوص..
- هذا محتمل..
- بل حقيقة..
- يمكن.. ولكني اعتقدت عبر احتكاكي العام بك، أنك كلب محظوظ، وقعت عند عائلة تحسد عليها..
- بهذا المعنى كلامك صحيح..
- إذاً.. أين مشكلتك؟ وممّ تعاني؟..
- أجبني أولاً عن سؤالي؟..
- لماذا نعيش؟
- نعم؟!!..
- لعلنا نختلف في فهم الحياة ومبرراتنا فيها، وفي الإجابة عن سؤالك.. لأن لكل منا نظرته وقناعته وخصاله.. البعض يرى أننا نعيش لنأكل فقط.. فيكثر من لذيذ الطعام وشهيه.. حتى إذا ما أصيب بالتخمة عرف خطأه.. والبعض يضيف إلى الأكل ملذات الحياة الأخرى كالرحلات والمشاوير واهتمام الآخرين به..
والبعض طمّاع.. يريد كل شيء.. فلا يشبع مهما توفر له من مأكل ومشرب ومسكن مريح وسفر ونزهات وكلبات وأولاد. والبعض قنوع بما تهيأ له من أسباب الحياة، فيكتفي بالقليل منها.
- ما تقوله عام.. ولا يجيب عن سؤالي.
- ماذا تقصد إذاً؟
- الحياة يا عزيزي ليست أكلاً وشرباً ولباساً ومشاوير فقط.
- وما هي إذاً؟..
(بخجل شديد.. وارتباك..) يقول: الجنس الآخر..
وبتخابث أردت (توريطه) بل تشجيعه.. فقلت له:
- ماذا تقصد بالجنس الآخر؟..
جو، وقد سكنه الحرج:
- أقصد.. الحب.. الزواج.. الأولاد.. كل شيء.. كل شيء..
- أفهم أنك لم تحب وتكوّن أسرة؟
- وهل نملك قرارنا حتى نحب ونكوّن أسرة؟..
كان الجواب مفاجئاً لي، وخاصة أنه يصدر عن (جو) الذي لم أكن أتصور أنه ناقم، أو ثائر، أو غير راض عمّا هو فيه، وبالوقت نفسه لامس وتراً حسّاساً داخلي، ففتّح جروحي التي طالما حاولنا نسيانها.
قلت له:
- إيه.. (جو) العزيز.. لماذا لا تملك قرارك؟..
- عجيب أمرك يا شفق.. وكأنك تحدثني من عالم آخر لا يعرف واقع الكلاب والمحظورات عليهم، ولا كيف يعيشون ويعانون.. ويتعذبون..
- على العكس.. فأنا أتفهم جيداً واقعنا، ومرارتنا، وحرماناتنا.. لكني أردت إيضاحات أكثر، أمثلة واقعية..
- هل نحن كلاب نحسّ وينبض قلبنا. أم أننا حجارة؟..
- أكيد، نحن نحبّ ونهتزّ.. ونرتبك.. ونرغب.. ونتمنى..
- وإن مُنعتَ أن تحب وتعشق وتتزوج ماذا ستفعل؟..
- لماذا أُمنع من الحب؟ فالحب لا يعرف القيود والحدود، ويمكنه تخطّي كل الحواجز.. إن شاطرك الآخر..
- هذا للبشر وليس لنا..
- ولماذا ليس لنا؟..
- لنفرض أن كلبة ما أعجبتني، وبادلتني الإعجاب.. وحدث والتقينا.. ثم أحببنا بعضنا (ولو من النظرة الأولى) هل نملك حرية أن نستمر في هذا الحب؟ أن نتواصل، أن نكوّن أسرة؟ أن ننجب جِراء؟ أن نعيش مستقلين كما يحلو لنا؟..
أم أن كل ذلك ملك سادتنا الذين يحددون لنا كل شيء، ولو استطاعوا رسم عواطفنا لفعلوا..
- نملك هوامش يمكننا استغلالها..
- هوامش ماذا هذه التي تقول عنها؟.. لقد التقينا صدفة هنا، ولولا الدورة التدريبية ومشوار أصحابي إلى هنا، هل كان بالإمكان أن نتعارف ونكوّن صداقة؟ (هذا مثال صغير) ثم بعد ذلك.. هل بإمكاننا أن نلتقي إن أحببنا؟ قد يكون.. ربما لن أراك ثانية.. إلا في صدفة ما قد تقع، وقد لا تحدث.
هذا عن الصداقة.. فماذا أقول عن الحب الذي يحتاج المزيد من التفاهم والتواصل والاحتكاك.. ثم المزيد من الإرادة والاستقلالية للزواج، وتكوين أسرة، ناهيك عن الأولاد ومسؤولية تربيتهم وتنشئتهم..
- سادتنا يتكفلون بتزويجنا، وتربية أولادنا.. وهم خير منّا في ذلك، (كنت أستفزّه لأخرج ما بداخله)..
- كل شيء يمكن قبوله بالفرض.. إلا الحب والزواج.. فما من أحد يستطيع إجبارك على حبّ مالا تريد، مهما فعل وحاول.. والزواج علاقة مقدسة، خصوصية جداً، يجب أن يكون لنا حقّ اختيارها.. أما أن يمنعوك من لقاء من تحب، وفرض كلبة ما عليك، قد لا يكون بينك وبينها أي شيء مشترك، وقد تقرفها، أو تكرهها.. سوى أن مزاجهم المتقلب يرغب بذلك.. وقد يحرمونك طوال حياتك من الزواج، أو اللقاء بكلبة.. فتعيش مكبوتاً، متحسراً.. وعندها فكل ما تعتبره دلالاً ورفاهية وسفراً.. لا يساوي شيئاً..
- هل زوّجوك رغماً عنك؟
- يا ريتهم فعلوا.. إني لم أقرب كلبة.. لقد حاولوا مرة.. ورفضت..
- لماذا رفضت؟..
- أواه يا شفق.. إنك تحرجني بأسئلتك.. وتقلّب عليّ مواجعي التي طالما حاولت نسيانها، حتى وإن تقرّحت داخلي، وانتشر قيحها في شراييني فاختلط مع دمي.
نعم.. صدف وأُعجبت مرة، أثناء سفرنا إلى أوربا، بكلبة شقراء لطيفة (أجنبية) ناعمة، تسيل لعاب أمثالي لمجرد رؤيتها.. فكيف إذا ما أبدت نحوك شيئاً من الإعجاب؟.. خاصة وأننا نحن الكلاب الشرقيين ننبهر بكل ما هو أجنبي، ونتصوّر أنهم من طينة أخرى.. فنتزلف، ونتدانى..
- لماذا نظرة أو عقدة الدونية هذه تجاههم؟..
- أسبابها كثيرة يا صاحبي.. ربما تخلفنا، أو شعورنا بتفوقهم، وربما الاختلاف يدفعك لمعرفة الآخر.. وربما مجمل التراكم المدفون فينا.. يجعلنا نتراكض خلف كلبة، لمجرد أنها شقراء، أو أجنبية، قد تكون مثلنا، وأقل ثقافة ووفاء ودفئاً وحميمة والتزاماً من كلباتنا، فنترامى عليها، وقد نتنازل عن كرامتنا، والعديد من مبادئنا ومكوناتنا.. ونعتقد أننا ملكنا شيئاً خارقاً، متميزاً..
- هي حالة سائدة للأسف.. لكن أكمل لي قصتك؟..
- كنت مستعداً لأي شيء في سبيل إرضائها، معتقداً أن نظرة الإعجاب، أو لا أدري ما هي.. حبّ جارف مشترك.. رفض سادتي أن أتصل بها حين أقاموا عليّ ما يشبه الحجر، ولعلهم أحسّوا بنواياي.. فهربت حيث مقيم.. هائماً في الشوارع بحثاً عن المكان الذي حددته للقائنا..
وبعد عناء طويل.. وضياع في الطرق المتشابهة.. وأنت تعرف أن البشر لا يساعدون كلباً هائماً في الوصول إلى عنوان يريده، بل يطاردونه ويلقون الحجارة عليه، وإذا كان سوء حظه عاثراً التقطته دورية شرطة.. خاصة تلك المختصة بمكافحة المشردين (لها أسماء كثيرة)..
المهم.. أنني وصلت وأنا ألهث، ولعابي يسيل بقوة، وقلبي يخفق.. وأنا غير مصدّق لقياها.. ولمحتها من بعيد تهمّ بالمغادرة.. فأسرعت إليها والفرح يكاد يجعلني أطير..
كانت صدمتي قوية حين قابلتني ببرود شديد.. خاصة بعد أن عرفت قصة هروبي.. التي اعتبرتها تضحية كبيرة مني.. بينما استخفّت بها، وتوترت أعصابها وهي تزعق: "لقد قمت بعمل أحمق.. إنك تجاوزت القوانين، وتريد توريطي.. وهذا لن يكون.. عدْ من حيث جئت!!.."
وعندما استفسرتها عن هذا الخرق للقوانين، (كنت أجهل أني فعلت ما يخرق القوانين) اعتبرت هربي، أو مجرد خروجي دون إذن أو معرفة أسيادي عملاً فاضحاً.. وأنها لا تقبل بكلب هارب، خارج عن القانون!!. عدا عن أنه يستحيل تأمين إقامة لي في بلد أجنبي، وقد أتعرض للطرد إن صادفتني دورية للشرطة..
- حتى الكلاب بحاجة إلى إقامة شرعية في بلد أجنبي؟..
- نعم يا صاحبي.. حتى الكلاب.. ولعلّ إقامتنا أصعب من البشر.. فهؤلاء قد يتدبرون أمورهم بطريقة ما، يتهربون فيها من أعين الشرطة، وقد تدافع عنهم جمعيات، ومنظمات.. أما نحن.. فإن تنقلنا إلى مكان أي مكان يحتاج إلى موافقة ومرافقة أسيادنا.. فكيف إذا كان الحال قصة هرب في بلد أجنبي؟!..
- شدّتني قصتك.. أرجو أن تواصل كا جرى معك..
- تضرّعت كثيراً لمعشوقتي الأجنبية، ركعت عند أرجلها، تذللت.. لتبقيني معها، وعلى الأقل أن تقدر تضحيتي الكبيرة من أجلبها.. وقد صرت الآن بلا مأوى وسيد..
لم تشفع عروضي وتوسلاتي.. بل انتفضت كالوحش الكاسر تهمّ بإيذائي.. وانطلقت في سباب مقذع، وبالهزء بي، وتوجيه سيل من الإهانات.
- مثل ماذا؟..
- اعتبرتني متخلفاً، ساذجاً، وغير حضاري، ووسخ، وانتهازي، وأني لا أعرف الحب، وأكذب عليها كي أتزوجها لتأمين إقامتي.. ثم أرميها (كالكلاب..) مثلما يفعل آلاف البشر من الشرقيين.. وأني كومة من الأوبئة بما فيها السيدا.
- لا أستغرب إن جاء يوم واعتبرونا فيه السبب في كل الأوبئة والمصائب. ولكن وضّح لي ماذا تعني بالانتهازية هنا؟..
- تعرف أن الظروف الصعبة لملايين البشر فيما يسمونه العالم المتخلف.. تضطرّهم للهجرة إلى الخارج بحثاً عن عمل، أو هرباً من الفقر والذلّ والإذلال والقمع والديكتاتورية، أو عشقاً وانبهاراً بأوربا..
ولآن الحصول على الإقامة صعب، وليس متيسراً للجميع، يلجأ الكثير إلى أساليب احتيالية (اضطرارية) لتأمين الإقامة، ومنها الزواج بأجنبية (من أهل البلد) لأن وجود وثيقة زواج تسهّل الإقامة..
- وما هو وجه الخطأ في الزواج من أجنبية؟..
- المشكلة ليست في الزواج إذا كان صادقاً، لكن معظم عقود الزواج شكلية، أو غائية.. ينتهي مفعولها مجرد حصول الأجنبي على الإقامة، فيطلّق (شريكته) وقد يكون ذلك بالاتفاق المسبق معها.. بل هناك اليوم جهات، وشركات تختص بالتزويج مقابل عمولة: (تجارة) فتأخذ (الزوجة المزعومة) مبلغاً مسبقاً من المال جرّاء توقيعها على العقد، الذي لا يدوم أياماً.
وقد نجمت عن هذه الزيجات مشاكل كبيرة، صارت الجهات المختصة تعرفها فصعّبت منها..
- (مقاطعاً) وما يجبر هؤلاء الأجانب على قبول الإذلال، والتحايل؟..
- كما قلت لك: الأسباب كثيرة.. وللأسف فإن في مقدمتها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة.. خاصة لجهة امتهان الإنسان، واحتقاره، ومصادرة حقوقه، وآلاف المشاكل التي يعانيها في بلده.. فيهرب، وهو يأمل بحياة أخرى.. وقد يصطدم بما هو أقسى.. وأكثر إيلاماً.. إنه نزيف مرعب.. لن يجد حلّه بسهولة..
- وماذا حصل لك بعد تلك المقابلة.. الشرسة؟..
- كنت أبكي، أجلس وحيداً.. تعصف بي هواجس شتى، والندم عمّا فعلت يأكلني.. فيهيّج ما بقي من أعصاب.. تمالكت نفسي أجرجر جسدي بحثاً عن لا شيء.. تائهاً.. ضائعاً.. مشرداً..
وحلّ ظلام بارد، وأخذت أعضائي تصطكّ، والجوع ينهشني، وما من شعاع أمل.. أين أتّجه؟ أين أنام.. ماذا فعلت بنفسي.. آلاف الوساوس والأفكار تغزوني وما من معين أو أفق.. فسرت في الشوارع مترنحاً، وكنوع من التحدّي لهم.. وأوهام تلاطمني بمغامرة أنتزع فيها حريتي.. فأعيش كما يحلو لي.. ومن شارع لآخر.. ماذا أروي لك يا صديقي..
تجولت كثيراً، وشاهدت مآسي، ومناظر تقشعرّ لها الأبدان:
بشر مرميون في الشوارع كخرق بالية.. وسكارى على الأرصفة.. وعشرات يفترشون الأرض، جوعى يتضرعون، وبعضهم –مثلنا- ينقّب في القمامة علّه يجد ما يأكله (لقد تشابه هؤلاء معنا).. وفي الزوايا المعتمة كنت أرى أشياء مخجلة: أناس يختلون ببعضهم دون حياء، على المكشوف (حتى نحن الكلاب نخجل من ذلك).. وبأوضاع وأشكال مختلفة.. ذكور وإناث.. وشبه عراة، بل عراة يتكوّمون كتلاً متلاصقة..
كرهت هذه الحياة اللقيطة، والندم مما فعلت يعضّني.. بينما لا أعرف ما أصنع، فتنتابني أفكار كثيرة لا أستطيع طردها، أو الاستقرار على أي منها.. تارة يذهب خيالي بعيداً.. فأحلم بالحرية.. وبمكان فسيح.. جميل.. لا وجود فيه (سوى لبني جنسنا.. كلاب من كل الأنواع.. ننعم بحياتنا التي اخترناها، ننجب أطفالاً كثراً (أجيالاً إثر أجيال) متكاتفين، متحابين.. كل يعرف واجبه، ويقوم بعمله، والعدل سيّد، وقانوننا سائد على الجميع.. لا فرق بين كلب وكلبة، كبير أو صغير، بيرجي أو كانيش.. أو كلب صيد، أو رعي.. أو سباق.. أو غير ذلك.. لا أحد يأخذ أكثر من حاجته (وما حاجة الكلب إلا للأكل الذي يسدّ رمقه)..
أشياء كثيرة حلمت بها في جزيرتنا الخيالية.. ثم أستفيق على واقعي الصعب.. فتلاحقني وساوس.. مصير أسود ينتظرني. ماذا لو جاءت دورية مكافحة الكلاب؟.. قد أقتل قبل أن يصلوا لي.. وقد.. وقد..
هكذا أمضيت أياماً ثلاثة، أو أربعة في تشردي.. إلى أن قبضت عليّ دروية شرطة عادية.. ويبدو أن شكلي أقنعهم بأني لست من الكلاب الضاّلة المشردة.. فاقتادوني معهم إلى المخفر، ووضعوني في مكان خاص، كانت فيه بضعة كلاب تشبه حالتي.
- إنها مغامرة شيّقة يا جو..
- أية مغامرة.. إنها مجازفة..
- وماذا صار بعد ذلك؟..
- يبدو أن أسيادي، وقد انتبهوا لغيابي، اعتقدوا أن أحداً ما سرقني، أو أني تهت لسبب ما.. قاموا بإبلاغ الشرطة عن فقداني مع تحديد مواصفاتي وصورة لي، ولم يكتفوا بذلك، بل نشروا صوري في الصحف..
وهكذا وصل سادتي إلى مخفر الشرطة.. وهناك استلموني بمحضر رسمي..
- كيف كان استقبالهم لك؟..
- الحق يقال أنهم كانوا ملهوفين، حتى بدوا وكأنهم غير مصدقين رؤيتي، فأسرعوا نحوي يحضنونني، ويقبلونني.. وبكيت من أعماقي.. خاصة إن منظري المتّسخ كان يضفي على اللقاء حزناً خاصاً.. فبكت سيدتي.. وهي تحمد الله أن وجدتني.. كان ذلك درساً كبيراً لي..
- جو، كنا نتحدث عن الحب والزواج والكبت.. وإذا بك تأخذني بعيداً، حتى أنسيتني جوهر الموضوع..
- لم أبتعد يا شفق.. نحن في صميمه.. لأن ما حصل لي كان نتيجة طيشي العاطفي.. أو قل: نزوتي العاصفة..
- بعد ذلك ألم يعرف قلبك الحب؟ ألم ترتعش فرائصك، ويتعثر نطقك، وتغلي الدماء في شرايينك؟..
- مرات قليلة متقطعة.
- حدثني عن بعضها..
- عندما رجعنا من سفرنا (لحسن حظي لم يعرف سادتي أسباب هربي) عشت وقتاً عصيباً، عانيت فيه آثار ذلك الحب المغامر، وما آل إليه من مهانة.. فانزويت لبعض الوقت.. كنت أراجع فيه سلوكي لأعرف هل أخطأت.. لم أن صدقي وانبهاري.. وربما غرامنا بكلاب الأجانب.. هو من قادني إلى نسيان من أكون.. والفوارق القائمة في أمور عدة.
ولا أكتمك القول أني أصبت بعقدة تجاه الجنس الآخر، جعلتني شديد النفور منهن، أتحاشاهن حيثما أٍستطيع، وأهرب، أو أتعالى إن فرض عليّ لقاء إحداهن. وكثيراً ما تحولت إلى استفزازي وعدواني. أستهزئ بهن، وأضخم نقاط ضعفهن، وأفصّل في طباعهن وخبثهن، وطرق إغوائهن للكلاب، وعشقهن للمظاهر، أو لامتلاك الكلب وسجنه في قفصهن.. وتحت إغراءات متعددة..
- أنت تبالغ كثيراً يا صاحبي، وتظلم بنات جنسنا، وتطلق أحكاماً تعميمية.. وتنسى فظاعة الكلاب وميولهم الاستعبادية، وغرورهم بتفوقهم وقوتهم.. وما يمارسونه من قمع على الأنثى.. التي لولاها لما استمرت الحياة. إني لا أوافقك الرأي، فالأنثى، في جنسنا، وفي معظم الحيوانات، أهم من الذكر.. وأكثر تضحية.. فهي التي تعاني الحمل، والولادة.. وتربية الصغار ورعايتهم حتى يكبروا، في حين يهرب الذكور من مسؤولياتهم، وكأنه لا علاقة لهم بأولادهم.. والبعض يكتفي بقضاء ليلة... ثم يرحل متنقلاً من أنثى إلى غيرها.. وقسم لا يكتفي بواحدة أو اثنتين.. أو أربعة.. بل يحوي قبيلة إناث، ويمكن أن يخوض معركة مميتة في سبيل الوصل مع أنثى..
- ربما أبالغ، خاصة أني أتعرض لتلك الفترة التي كنت مصاباً فيها بالتشنج، وردة الفعل.. وقد فتحت لي جروحي.. مع ذلك.. فبعض خلاصاتي ما زلت مؤمناً بها.. ولذلك أعاني نفوراً من الجنس الآخر.
- لعلك مريض وتحتاج إلى علاج.. فالفشل يقود إلى الإحباط.. الذي بدوره يؤثر على أحكامنا ونظرتنا وعلاقاتنا. والكبت أيضاً خطير، يفعل فعله الداخلي فينا.. وقد تظهر آثاره بشكل غير مباشر، وعبر تصرفات حادّة، نحاول العناد والتمسك بها، واعتبارها الحقيقة الكلية.. وما عداها: هراء..
- أي كبت هذا الذي تحدثني عنه وكأنك طبيب نفسي.. يحلل عقدة مزمنة لمريض عنده؟..
- علينا أن نعالج الأمور بشجاعة، وأن نتكاشف بصراحة. الكبت ظاهرة عامة منتشرة بقوة، ولا تخصنا فقط.
- ماذا تقصد بالكبت؟..
- الكبت هو –كما أعرف- ينجم عن عدم تحقيق الرغبات والحاجات الضرورية.. بفعل القمع والمنع، أو عوامل المحيط، أو لأسباب داخلية نتيجة صدمة ما، أو تكوينة معينة، فيحس صاحبها بالنقص، وقد يتصرف بوحي من نقصه، فتغلب ردات الفعل..
- بهذا المعنى: جميعنا مكبوتون.. لأن الأغلبية مقموعة، محرومة.. ثم من منّا حقق، أو يحقق ما يريد؟..
- يمكنك قول ذلك، خاصة جنس الكلاب العامل تحت سيطرة الإنسان، حيث لا يستطيع ممارسة حياته كما يريد ويشتهي، وقد يمنع –طوال حياته- من الاتصال ولو بكلبة.. أية كلبة. ناهيك عن حريته في الحب، واختيار شريكته، وتكوين الأسرة، وتربية الأولاد، والاحتفاظ بهم..
- لذلك اعذرني إن عكفت عن جميع الكلبات، وانزويت.. أسلّي نفسي بأشياء أخرى..
- هذا ليس حلاً، أو علاجاً. الحل في أن نمارس حياتنا –كالبشر- فنتزوج من نريد..
جو (مقاطعاً): وبالعدد المفتوح؟..
- هذه مسألة أخرى.. على الأقل كلبة واحدة.. وأسرة منتظمة..
- لكن الكلاب كثيرو التوالد.. ويمكن لكلبة واحدة أن تلد حتى المئة كلب.. فهل نترك هذا لتمتلئ الدنيا كلاباً.. ويصبحوا عبئاً علينا، وعلى الجميع؟..
- لا أقول لك أن نترك الأمور للفوضى.. وللرغبات الذاتية.. إذ لابدّ من التنظيم والتحديد.. ويمكن أن تكون كلبة واحدة كافية.
- إنك كثير الأحلام يا صاحبي.. ولذلك ستكون صدماتك كبيرة.. حين ستعترك بالحياة، وتعرف مدى الفسحة الضيقة المتاحة لنا.. خاصة في هذا المجال الحساس، الذي سيبقى تحت تحكم سادتنا.. الذين لن يسمحوا لنا -أبداً- التصرف كما يحلو لنا ونشتهي.
- المهم أن نحاول.. وأن لا ننزوي فنضمر، ونضعف، ونقتل روح الحياة والعمل فيها.
- حاول أنت.. فأنا قانع بحياتي..
- لا أظنك قانعاً.. لكنك تكابر، وتكذب على نفسك..
- ألسنا جميعاً نعيش في كذبة كبيرة.. فما المانع أن أحيا كذبتي الخاصة؟..
- تلك مأساة..
- مأساة أم ملهاة... لا فرق.. فنحن أسرى.. ولكن بقيود حريرية، وداخل قضبان مذهبة..
- لا فائدة من استمرار الحوار معك.
- قد تصبح مثلي يوماً، فلا تتعجل، وخفف حماستك..
لقاء مع أخي
مشاقُّ الدورة، والزمن.. كادا ينسياني مأساة تشتت أسرتنا وما حلّ بها.. فالإرهاق لا يجعلك تفكر بشيء سوى النوم. مع ذلك كانت تنتابني في لياليّ الطويلة كوابيس مزعجة، بعضها مخيف، فأنتفض مذعوراً..
مراراً حضرت أمي في منامي.. تلثم وجهي، تشجعّني على مواجهة الحياة.. تودعني بابتسامة أقرب إلى البكاء.. وتتالت أكثر من مرة صور إخوتي.. وفي أحيان اختلطت عليّ الأحلام بالذكريات.. إلى درجة خلت معها وكأني أمام واقع، وليس في حالة حلم أو تخيل.. هي أحلام اليقظة إذاً.. تلك التي تستعيد ذكرى، صورة، حالة.. حالة وتذهب في تخيلاتك.. ترسم لها واقعاً تريده أنت كما تشتهي.. حتى إذا ما تلفّت يمنة أو يسرة لم تر سوى الفراغ، والوحدة..
* وفي أحد أيام دورتي.. وبينما كنت في استراحتي، أنتظر دوري في جزء آخر من التدريب.. لمحت عن بعد كلباً يشبهني، حتى خلت أنني نفسي، وشممت رائحة مألوفة، دخلت بقوة إلى داخلي فاحتلت كياني الذي انتفض وكأن أفعى لسعتني..
وبحركة لا إرادية، كنت أجري بكل قوتي، غير عابئ بقوانين المدرب، وما قد يوقعه من عقوبات.. إنه أخي.. اقتربت منه وقد تأكدت.. وباستدارة رأسه كانت قفزتي هائلة (نادراً ما قفزت مثلها).. وهجمنا على بعضنا: عناقاً، وحمحمة، ولحساً، ودموعاً، ورقصاً (على طريقتنا)..
فوجئ المدرب بما يحصل قبالته، ولخبرته الطويلة بالكلاب، عرف أننا إخوة، فغضّ نظره، فاسحاً المجال لنا لنأخذ حريتنا في اللقاء..
* عشرات الأسئلة والاستفسارات تهاطلت متقاطعة بيننا، يتسابق أحدنا في طرحها، فيجيب الآخر بسؤال متلهف عن الأحوال، والمعيشة.. عن الأم، وبقية الاخوة..
وبدأت أخي مستفسراً عن إقامته الجديدة، وإذا ما كانت مريحة أم لا.. فأجابني باختصار:
- ما شي الحال.. وأنت؟..
- أنا لا بأس.. أقرب إلى الجيد.. ولكن أنت.. كيف هي أحوالك؟..
- ماذا أقول لك يا أخي (قاطعته.. اسمي كما يطلقون عليّ: شفق)..
- أخي، معلقاً، اسم جميل يناسبك.. أما أنا فأسمي: دودي..
- دودي!!! أي اسم هذا؟ وما هو معناه؟..
- لا أعرف، يقال انه اسم أجنبي.. هذا ليس مهماً، فالأسماء عندنا شكلية، يكفي أنك كلب..
- أعود للسؤال عن أحوالك؟..
- سادتي عائلة كبيرة، نحو عشرة، بما فيهم الجد والجدة، وزوجة أحد الأولاد. يسكنون بيتاً ريفياً كبيراً في مزرعة لهم، وهم خليط، فيهم الطيب، الكريم، العطوف.. والشرس، واللئيم.. من يحبنا ومن يبغضنا وكأنه حاقد علينا..
أصواتهم كثيرة، عالية يتشاجرون باستمرار، بينما نتفرج نحن الكلاب ونصمت..
- إذاً تعيش مع كلاب عدة؟..
- نحن أربعة: كلبان وكلبتان.. لأن مهامنا كثيرة، والعمل كبير: في الحقل، ومع أبقارهم وخيولهم وأغنامهم، في حوشهم الواسع، ومعهم.. لذلك نتعب يومياً، ولا نكاد نعرف إلا قليلاً..
- هل يطعمونكم بشكل جيد؟..
- أحياناً.. وأحياناً نجوع.. أو نضطر لالتقاط طعامنا من هنا وهناك..
- كيف ذلك؟..
- إذا جاءهم ضيف عزيز، أو مرّت مناسبة عيد.. نأكل بعض اللحم والعظم.. وعدا ذلك علينا تناول بعض طعامهم، أو ما يبقى منه، والذي لا يُشبع، مما يؤدي للشجار فيما بيننا.. وقد نتعارك على قطعة خبز، أو لقمة طبيخ.. أو عظمة مرمية.. مما يدفعنا للبحث هنا وهناك.. حتى في المزابل، أو في بعض بيوت الجيران.
- أي تسرقون؟..
- ليس تماماً.. إنها فضلات يلقيها جيران لنا، يبدون أكثر ثراء وكرماً..
- تقول يا دودي: إن في أسيادك عدداً من الطيبين.. فلماذا لا يطعمونكم جيداً؟..
- مشاغلهم عدة، ومشاكلهم أكبر.. والكل غارق بهمومه، أو شؤونه الخاصة.. إلى درجة أنهم في مرات ينسوننا، فلا يقدمون الأكل لنا.. مما يدفعنا للنباح المتواصل، والتضرع أحياناً، أو المخاطرة بتلقي لسعات سوط، أو حجر، أو صفعة.
- حديثك يؤلمني.. أخي..
- تعودنا على هذه الحياة المختلطة.. فمرة تكون حلوة.. وأخرى مرّة.. هذا نصيبي..
- وما حاجتهم لتدريبك.. إذا كانت لديهم هذه الخبرات، والأعداد من الكلاب؟..
- يقولون إن نوعنا لابدّ له من تدريب على يد اختصاصي لاكتساب مهارات متنوعة في شتى الأعمال التي سنقوم بها، خاصة منها ما يرتبط بعملنا في الحقول والمزارع ومع القطعان..
- إذاً، تدريبك يختلف عن تدريبي؟..
- وعلى ماذا تتدرب أنت؟..
- أنا كلب حراسة، بشكل رئيس، يسكن بيتاً في (فيلا) لعائلة صغيرة نسبياً..
- إذاً أنت مرتاح؟..
- في هذا الجانب، وقياساً بك، يمكن أن أقول: نعم. ولكن قل لي على ماذا تدربت؟..
- أشياء متنوعة، أهمها كيفية حراسة القطيع من الضياع أو الهرب، أو من أي لصّ، أو عابث.. وتجميعه وتوجيهه نحو زرائب المبيت، أو الشرب..
القطيع أنواع، فحراسة الأبقار غيرها مع الخيول، وتختلفان عن مهمتنا مع الغنم والماعز.. بله حتى الدجاج والأوز والديك الرومي..
وعلينا التدرب على حماية القطيع من الوحوش المفترسة.. حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بأنفسنا.. لأن ما يهم سادتنا ليس حياتنا، وإنما الحفاظ على أملاكهم.
- النغمة ذاتها كلما التقيت كلباً.. وإن تنوعت المشاكل والأشكال.. (كنت أتمتم بذلك كي لا يسمعني أخي).
- لم أشاهدها بعد.. لكن زملائي الكلاب رووا لي حكايات واقعية عن معاركهم الشرسة مع عدد من الذئاب، والضباع التي هاجمتهم عدة مرات.. ووفاة أكثر من كلب في تلك المعارك المميتة..
- تصورت أن الوحوش المفترسة انقرضت.. ولم يبقَ غير الإنسان.
- لعل ذلك في المدن. وبشكل عام قلّ عددها كثيراً عن السابق، لكنهما لم تنته.. ففي ليالي الشتاء الحالكة، والبرد القارس، ومع هطل الثلوج والأمطار، وحلول الجليد.. يندر أن تجد الحيوانات المفترسة طعاماً لها حيث تقيم في الجبال والمعاصي.. فتضطر للهبوط إلى الأرياف والقرى.. بحثاً عن طعام.. حتى وإن غامرت بدمها وروحها.. لأن عدم وجود الأكل يعني الموت.. لذلك تهاجم بكثافة، وشراسة، وسرعة (حرب خاطفة).
- أرى وكأنك متعاطف معها، مع أنها عدوة لنا..
- لست متعاطفاً، بهذا المعنى، وبالوقت نفسه فأنا غير مقتنع بأنها عدّوة لنا، لأننا نحن الذين تطوعنا لمجابهتها، وحرمانها من الأكل.. ولو لم نفعل ذلك.. لعلها لا تكون عدوة.. ثم يا أخي هي جائعة، والطعام يعادل الحياة.. فهل تنتحر جوعاً؟ أم تبحث عن قوتها في أي مكان يتوفر لها؟..
- ليس من المعقول أن يقبل إنسان يربي قطعاناً من الماشية، ويخسر عليها.. أن يضحي بها، أو بعدد منها هكذا لعيون، أو لصالح ذئب جائع، أو ضبع لم يجد طعامه.. ولابدّ أن يلجأ إلى وسائل تحميه، وتحمي أملاكه..
- تلك معادلة صعبة.. فلطرفيها الحق.. وإن كنت أميل للتعاطف مع الحيوانات المفترسة التي لا تملك سبيلاً آخر..
- لكنها.. في مرات كثيرة تهاجم في كل الفصول..
- لابدّ أن تكون جائعة، أو تستفزّ، أو يعتدي عليها.. فالحيوانات لا تعتدي على أحد حبّاً بالعدوان..
- لماذا لا يقوم الإنسان بمبادرة يحلّ فيها هذه المشكلة.. بتقديم الطعام لتلك الوحوش، فيتقي شرها؟..
- الإنسان!!.. إنه لو استطاع لما أبقى حيواناً مفترساً على وجه الأرض.. وقد قتل منها الكثير.. بل لم يكتف بالمفترس منها.. فتناولت مجازره حيوانات لطيفة، مسالمة، وغير لاحمة.. حتى أباد عدداً منها، وهدد أنواعاً مختلفة بالانقراض..
- (بتخابث) لأنها ضد مصالحه، ولأنه يحتاج لحومها، أو جلودها، أو فِراءها..
- وحتى قرونها العاجية، ودمائها، وكل شيء فيها.. إنك تخطئ يا أخي. إن مجازر رهيبة ارتكبت لا لسبب إلا لإرضاء نزوة، أو للتسلية، وقضاء الوقت.
ألم تسمع بأولئك الصيادين الذين كانوا يتباهون بقتل آلاف الغزلان والوعول.. والأرانب.. والطيور.. ليس لأكلها (لأنها تفوق حاجتهم) بل لمجرد الاستمتاع، أو المبارزة فيما بينهم، أو إرواء نزعة القتل فيهم.. فكانوا يلقون فرائسهم حيث تسقط ولا يكلفون أنفسهم حملها، أو دفنها.
- لكن الآن تغيّرت الصورة.. فهناك دول كثيرة تقيم محميات طبيعية للحيوانات، تعززها بقوانين صارمة، وتعرّض أي مخالف لعقوبات قاسية، وهناك آلاف الجمعيات والمنظمات المختصة بحماية الحيوانات والرفق بها، ورعايتها، والتعريف بأهميتها وفوائدها، وميزاتها.. حتى صار وضعها أفضل من الإنسان في أماكن عدة.. بل باتت فئات بشرية واسعة تتمنى لو كانت كلاباً أو قططاً، أو غيرها من المرفهين.. المترفين..
- ولكن بعد ماذا؟.. بعد فوات الأوان، وانقراض أنواع كثيرة نهائياً، وبعد أن تناقصت أعداد الحيوانات بشكل خطير، ينذر بتهديد البيئة.. لأن الحيوانات، جميعها، ومهما شهّر بها، أو أسيء إليها.. فإنها عامل توازن في البيئة، لا غنى للحياة بدونها..
وقد أدرك بعض البشر ذلك.. وقسم منهم انتبه إلى ما تدرّه الحيوانات من أموال، خاصة في السياحة، فأقاموا حدائق الحيوان، أو المحميات لعرضها أمام بني البشر.. ورغم ذلك، فمثل هذه الخطوات مهمة، ولعلها تخفي وتحافظ على ما بقي من حيوانات.
أما ترف، ورفاهية بعض الأنواع.. فهذا صحيح، لكن السبب يعود للإنسان وليس للحيوان، ولأهداف تخصّه وبما يحقق مصالحه..
- أخذتني بعيداً يا أخي.. إلى نقاشات متشعبة تحتاج وقتاً لا نملكه.. إني أشاركك معظم قناعاتك.. ولكن قل لي: هل تعرف شيئاً عن أحوال أمنا، وأخوتنا، إني جد مشغول وقلق عليهم.
- لم أشاهد أمي منذ ذلك اليوم المشؤوم، وقلبي ينفطر حزناً عليها.. أما أخوتي فقد التقيت اثنين منهم..
(باندهاش وحماس): اثنين!!.. من؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟..
- أختنا (لامي، وهذا اسمها) تسكن في مكان قريب لإقامتي، لذلك أراها دوماً..
- هل تعاني مثلك؟..
- لا.. لا.. وضعها أفضل حالاً بكثير، هي في مزرعة صغيرة، أصحابها جد طيبون، وقد أحبوها كثيراً، خاصة الأولاد منهم.. ولذلك يرفضون ذهابها إلى المزرعة كي لا تتعب، ويبقونها، معظم الوقت، في البيت، وأعتقد أنها حامل هذه الأيام، إذ عشقت كلباً، تقول: إنه يحبها كثيراً، ويعطف عليها (رأيته مرة وهو جميل، أبيّ.. كما بدا لي)..
وكلما سنحت لي فرصة أزورها.. فتشدّ أزري، وكثيراً ما تزودني بالمأكولات الشهية، والحلويات، إنها حنونة جداً.. وتسألني عنكم دوماً، وهي قلقة على أمّنا.
أما أختنا (عون) كما يسمونها،ـ فقد التقيتها مرة واحدة صدفة، بينما كنّا في مشوار إلى المدينة.. عرفت منها أنها تقيم فيها، عند عائلة صغيرة جداً: عجوز وعجوزة تركهما أولادهما.. فقررا استحصاب كلب يعينهما فيما تبقّى لهما من عمر، ويسليهما.. لذلك أعتقد أنها سعيدة..
- ألا يمكن الاستدلال على منزلها؟..
- هذا صعب.. ولكن قل لي، وقد تهاطلت أسئلتك عليّ كالمطر، وماذا عنك؟..
- أنا بخير، أعيش ضمن عائلة في (فيلا) وليست لديّ مهام خارجها، معظمهم طيبون معي، وها أنذا أتدرّب على مهام الحراسة، وعدد من حالات الطوارئ التي يمكن مصادفتها في مهمتي.
- يعني لم يدربوك على قتال الوحوش المفترسة؟..
- ولماذا؟ نحن في المدينة لا نعرف وحوشاً غير بعض البشر.. الذين يمكن أن يكونوا أكثر فتكاً وعدوانية، بالنظر لاستخدامهم عقولاً تفكر وتخطط، وتنفّذ في الوقت والمكان المناسبين، وبأسلحة وأساليب مختلفة.. فالسلاح قاتل فوري.. لا يسمح لك بالمناورة، أو المبارزة، كما هي الحال مع وحش، أو حيوان آخر.. فهنا.. يمكن أن تأتيك رصاصة أو طعنة غادرة.. لذلك نتدرب تدريبات معقدة لتحاشي غدر البشر وشيطانيتهم وتقنياتهم.. ناهيك عن الأساليب التي يبتدعونها، والتي قد تفاجئك لأنك تجهلها، أو لأنها لم تستخدم من قبل.
البشر يفكرون.. وليسوا كالحيوانات التي لا تعرف إلا ما تعوّدت عليه من فنون القتال. ولا تملك سوى فكّها وأنيابها.. بينما يلجأ الإنسان إلى وسائل متطورة، ونادراً ما يستخدم يديه.. وهذا ما يتطلب الحذر والتمرّس، والدقة في التعلّم..
- نحن نتلقى جزءاً هاماً من تدريباتكم.. ويضيفون فصولاً واسعة عن مقاومة الحيوانات الشرسة، وأساليب رعاية وحماية القطيع، ولصوص الماشية، والبيوت، وأمور عدة مرهقة..
- قل لي: هل أحببت؟..
وبدا الحرج على أخي.. وهو يرد:
- إنني في بداية علاقة طيبة مع (نسمة) التي تقيم معنا..
- حدّثني عنها..
- كلبة ظريفة من فصيلتنا.. تكبرني بقليل، لكنها شابّة، قوية، نشيطة.. تعشق الحياة الأسرية.. رغم أنها عصبية بعض الشيء. تنافست، في البداية مع زميلي (وشم) عليها.. فعشنا أياماً ملأى بالتحدّي ومختلف الاستعراضات.. التي وصلت حدود العراك.. لولا تدخلها، وزميلتنا (روض).. إذ حسمت (نسمة) ترددها باختياري.. ومن حينها تحوّلت علاقتي التنافسية مع (وشم) إلى صداقة حميمة، خصوصاً أنني قمت بدور هام بإقناع (روض) به.. وقد تمّ ذلك..
وها نحن الأربعة نعيش قصة حب جميلة، تخفف عنّا بعض أعباء العمل، واضطهاد قسم من سادتنا.
- كان حظي سعيداً أن رأيتك، وكم أشتاق رؤية بقية الإخوة، وأن نستمر في اللقاء.. على الأقل نعرف أحوال بعضنا، ونتبادل الرأي والمشورة فيما يهمنا..
- إني أكثر لهفة.. ولكن ذلك غير متاح لنا عندما نريد، لأننا لا نملك حريتناـ وقرارنا.. فاتركها للظروف.. أو للمصادفات..
عانقت أخي بحرارة.. بينما امتلأتني مرارة مُنبئة وكأني لن أراه.. ثانية.. وهذا ما كان.. ولم أعد أعرف عنه شيئاً.. وهل هو حي.. أم اختطفته معركة ما مع وحش كاسر؟.. هل تزوّج وأنجب.. وهل.. وهل.. وكان لابدّ من الوداع..