عينان مطفأتان ، وقلب بصير(11)
عينان مطفأتان، وقلبٌ بصير
عبد الله الطنطاوي
الفصل الحادي عشر والأخير
كانت رحلة الحج ممتعة، كان كل رجل منهم يصحب زوجته، يتعبدان معاً، ويعلّمها كيف تطوف، وكيف تسعى، وكيف تحجّ. ثم عادوا وكأنّهم وُلدوا من جديد، عادوا وهم أشدّ حبّاً وتعاطفاً وتماسكاً ، وتصميمـاً على إنجـاح مشروع العمر، كما يسمّيه الشيخ صالح، الذي تضاعف بذله في سبيل إنجاحه، وكانت زوجته الحاجة (غالية) نعم المعين له في إدارة المركز، بما أوتيت من رجاحة عقل، وحُسْن تدبير، كما كانت له خير معين على الدراسة والتحصيل، وكان شعارها:
لا لليأس.. لا للفشل.. لا للتشاؤم.
نعمْ للأمل.. نعمْ للنجاح.. نعمْ للتفاؤل.
كانت تمضي الليالي معه والساعات الطوال في مدارسة المشروع، وكانت تقول له:
- لو رزقنا الله ولداً جميلاً ذكياً مثلك، لما كان أغلى عندي من مركز الأبرار، يا أيها الشاب الصالح.
لقد بثّت في نفسه روح التحدّي للمصاعب والمتاعب، وروح الفرح والتفاؤل، فكان لا يبدو للناس إلا مبتسماً، فرحاً، متفائلاً، ذا روح مرحة.. لقد تجاوز كلّ معاني العزلة النفسية والمادية، وتخلّص من عقدة العمى، وعمل جاهداً حتى خلّص تلاميذه المكفوفين من عقدة النقص هذه، وكان يروي لهم بعض نكات مشاهير المكفوفين، من أمثال الشاعر أبي العلاء المعري، والشاعر بشار بن برد، وكم كان سعيداً عندما سمع أحد المكفوفين يقول لزميله في المركز:
- حدثت مشادة اليوم بين اثنين من العاملين في المركز، ثم ارتضياني حكماً بينهما، فلمّا حكمت لأحدهما، غضب الآخر، وسبّني، وقال لي:
- وما أدراك بمثل هذه الأمور وأنت أعمى.
فقلت له:
- إذا كان الأمر كذلك، فلماذا دعوتني أنت بالذات لأحكم بينكما؟
قال:
- لتحكم لي.
- ولو بالباطل؟
- ولو بالباطل.
فتذكرت ما رواه لنا الشيخ صالح عن أحد العميان العباقرة من أمثالنا، عندما قال:
"أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر".
فلمّا سئل عن السبب أجاب:
حتى لا أراك ولا أرى أمثالك من مبصري العيون، عميان القلوب.. فهذا الشخص المفتح صاحب العيون يريدني حكماً لأحكم له، ولو بالباطل، أفليس من الخير لنا ألا نراه ولا نرى أمثاله؟
ضحك الشيخ صالح في سرّه أولاً، ثم علا ضحكه، فأحسّ بوجوده تلميذاه المكفوفان، تقدّم منهما، وسلّم عليهما بحرارة، وضغط على أيديهما، وقال:
- ذاك الشاعر الفيلسوف المعري الذي قال:
"إني أحمد الله على العمى، حتى لا أرى من لا أحبّ".
أما نحن.. فنحمد الله تعالى في سائر أحوالنا، ونحبّ سائر الناس، المحسن ندعو الله أن يزيده إحساناً، والمسيء ندعو الله له أن يخلّصه من إساءته.. نحبّ الناس، ونزهد بما في أيديهم، ونترفّع عن سفاسف الأمور، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عنهم، وسائر الرجال الصالحين، ممن سبقونا بإحسان، ومن المعاصرين، ومنهم المكفوفون مثلنا، ومنهم المبصرون.
هكذا كان الشيخ صالح لا يفوّت مناسبة إلا ويستثمرها للصالح العام، من أجل إقامة مجتمع سليم، تسوده المحبة، ويتعاون أبناؤه على البرّ والتقوى، وقد جعل من مركز الأبرار مجتمعاً صغيراً منتجاً، يعمل من فيه كخلية النحل، في الحبّ، والتعاون، والحركة، والإتقان، فقد جعلهم متحابّين متعاونين، متقنين، والشعار المعلّق في أرجاء هذا المركز، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"
كما علّقوا على جدرانه، وفي الأماكن البارزة شعارات أخرى، تحثّ على الجدّ والاجتهاد، وعلى الحب الخالص لله وفي الله، وعلى التعاون المثمر، وعلى العمل بروح الفريق الواحد، وتحضّ على التقوى وصالح النيات في سائر الأعمال، وعلى الصدق في القول والفعل، وما شابه ذلك من آيات الله العظيم، ومن أحاديث رسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم، ومن الحكم والأمثال والأشعار التي تدعو إلى الجدّ والإخلاص في سائر أحوال أبناء المركز.
كان الوزير يزور المركز مرة أو مرتين في الأسبوع، ويقرأ في وجوه العاملين فيه، والمنتسبين إليه، وفي حيويتهم ونشاطهم، ما يسعد قلبه، ويجلو صدأ الذكريات المريرة عن المجتمعات الأخرى، في الأجهزة والدواوين العامة والخاصة، تلك التي تسودها الفوضى واللامبالاة والتقاعس والتواكل والكسل وغيرها من الأمراض النفسية والقلبية، ولا يسعه إلا أن يدعو للشيخ صالح، صاحب فكرة هذا المشروع، والذي بذل وما زال يبذل الكثير من أجله.. يدعو له باطراد النجاح، وأن يحالفه التوفيق لتطوير هذا المركز تطويراً يجعله أمثولة فيحذو حذوه الرجال المخلصون الآخرون، ففي هذه الأمة خير كثير، ولن تعقم النساء أن يلدن مثل صالح، في نظافة عقله وقلبه ويده.. وتكون هناك مراكز كمركز الأبرار، تعمل للخير العام، وتذوب مصالح العاملين فيها في المصالح العامة، وينأون عن الأنانيات والأهواء الشخصية، والمصالح الذاتية الكفيلة بإجهاض أي مشروع مهما كان عظيماً أو صغيراً، مادام القائمون عليه يقدّمون مصالحهم الذاتية على المصلحة العامة، وكان يرى أن تُكتب سيرة هذا الفتى الكفيف الذي أسس هذا المركز على التقوى، ليقتدي الآخرون به، ويؤسسوا مراكز صالحة كما أسس، ومن مجموع هذه المراكز الصالحة، يتأسس المجتمع الفاضل، ويتخلص الناس من التخلف والجهل والظلم.
وقد أفضى الوزير بهذه الرغبة إلى بعض أصدقائه من أساتذة الجامعات، فتحمس أحدهم للكتابة عن هذا المشروع البديع وعن صاحب فكرته، وقال:
- سوف أكلّف أحد طلابي النجباء، بأن يزور المشروع، ويلتقي الشيخ صالح، ثم نجلس معاً، يا معالي الوزير، لنساعد الطالب في إنجاز رسالته الجامعية عن المشروع منذ كان فكرة تطوف في نفس الفتى صالح، إلى أن تطورت الفكرة، ثم تجسّدت في مركز الأبرار.
قال الوزير:
- ولكن الجهد الأكبر، أرجو أن يدور حول الشيخ صالح، هذا الشاب الذي لم يمنعه فقدُ بصره، من أن يكون عنصراً فعّالاً في مجتمعه القروي الصغير، ثم في المعهد الشرعي الذي تعلّم فيه، ثم في كلية الشريعة، وفي هذا المركز.. لقد كان الشيخ صالح مؤثراً في كل مجتمع عاش فيه وعايشه، وسوف يرى تلميذك الذي سيكتب هذه الدراسة، أن شخصية صالح مؤثرة، آسرة، وسوف يستفيد هو منها، كما استفدت أنا.
- أنت يا معالي الوزير، استفدت من ذلك الفتى الأعمى؟
- إي والله.. استفدت من تجرّده عن مصالحه الشخصية، وعن الأنانية وحبّ الذات.. استفدت من أمانته وصدقه.. استفدت من دأبه، فهو نشيط لا يكلّ ولا يملّ ولا يتعب، يواصل الليل بالنهار لإنجاز ما يكلّف نفسه به.. استفدت من تصميمه على النجاح، بعيداً عن كل أسباب اليأس والإحباط، وما أكثرها في حياتنا.. ولو أردت أن أكتب لك ولتلميذك عن حياة هذا الشاب الكفيف، لسطرت لكما كتاباً كبيراً.
قال الدكتور:
- هل يستأهل أن تكتب عنه كتاباً؟
قال الوزير في جدّ:
- أنا لا أبالغ، وسوف تؤخذ أنت وتلميذك بما قدّمه الشيخ صالح، وبما يقدّم للمركز، والقرية، على الرغم من أنه سوف يناقش رسالة الماجستير قريباً جداً إن شاء الله تعالى.
قال الدكتور وهو يهزّ رأسه:
- سوف نرى يا معالي الوزير، وسوف نستفيد منك ومن خبراتك ومن معلوماتك إن شاء الله.
- إن شاء الله تعالى يا دكتور.
النهـــاية