ميج وميراج -6
ميج وميراج -6
د. خالد الأحمد
( 4 )
بعد أن عرف (شحاتة عبد العظيم) أن (سوزي) ستفارقه لا محالة، وقد تلحق (آرام) في القاهرة وتُصبح من إماء (لطفي حبيب) منافسه الأبدي، بدأ ينفر من (آرام)وتتحرّك شكوكُه فيه، ولكن ماذا يقول وهو الذي زكّاه للمخابرات المصرية سابقاً، وأخذه على عاتقه، وماذا يفعل بعد أن ذاع صيتُه في مصر وأصبح مفتّشاً عاماً للسلاح الجوّي المصري، ومع كل ذلك رَفَعَ تقريراً يطلب من المخابرات الحذرَ من (آرام).
* * *
كانت المخابرات المصرية مشغولةً إلى أقصى إمكاناتها بالإخوان المسلمين، تبحثُ عنهم وتطاردهم وتُحصي أقاربهم حتى الدرجة الثالثة ، بعد أن افتعل (عبد الناصر) حادثةَ المنشيّة التي ارتدى فيها ثوباً واقياً من الرصاص وطلب من أحد رجاله إطلاق النار باتجاهه، ثم ادَّعى أن الإخوانَ المسلمين يحاولون قتله والانقضاض على الثورة لِيُعيدوا الإقطاعَ والرأسمالية إلى البلد، وجعل ذلك ذريعةً للقبض عليهم ومطاردتهم وإعدام القافلة الأولى من شهدائهم، وأراد (عبد الناصر) القضاءَ على الفكرة تماماً، فعمد إلى اعتقال كلِّ مَن له صفة إسلامية، وأَوْكَلَ هذا إلى (صلاح نصر) مديرِ المخابرات العسكرية.
ولمعت أسماء كثيرة كانت من أهمّ منجزات (عبد الناصر) مثل سجن القلعة، وسجن أبي زعبل، وأهمها السجن الحربي، وليمان طرة ...إلخ، ومن أجل القضاء على أفكار الإخوان المسلمين سُلِّمَتِ المخابراتُ المصرية للملحدين والزنادقة ، كي لا تبقَ شفقةٌ ولا رحمة في صفوف المخابرات المصرية بشتّى أصنافها، وأصبح سلاحُ المخابرات مُوَجَّهاً ضدَّ الشعب، يحصي عليه أنفاسه، وَجُنِّدَ آلافُ المخبرين المتسكِّعين في الشوارع بسبب البطالة، وَحُوِّلُوا إلى عُملاء قذرين يتجسسون على أقاربهم وجيرانهم لإذلال الشعب واحتقاره.
لذلك دخل (آرام نوير) كأجنبي تركي يبيع السلاح، جاء من باريز، يجيد الرقص ويشرب الخمر، ولم يُرَ يوماً من الأيام يُصَلِّي أو يدخل مسجداً، حوله جيشٌ من العشيقات الفاتنات، كلُّ ذلك جعل المخابرات المصرية لا تَشُكُّ في عدالته ونزاهته الثورية منذ اليوم الأول، ومع ذلك عندما طلبت من (شحاتة عبد العظيم) تقريراً عنه، كتب التقرير وهو في أحضان (سوزي)، فكان (آرام) من قادة الثوار والتقدميين في العالم، وكان يداً رحيمةً ساقتها العنايةُ الربانية لمصر.
وبما أن المخابرات المصرية كانت متأكدةً أن (آرام) لا صلةَ له بالإخوان المسلمين لذلك وثقتْ به أيـما ثـقة، فما دام لا صلة له بالإخوان فهو تقدميّ وثوريّ ووطني، حسب مفهوم المخابرات المصرية.
من جهة أخرى كان معظم قادة المخابرات المصرية بشتّى فروعها من نموذج (آرام) يشربون الخمر،ولهم عشيقاتهم أو إماؤهم كما يقول (لطفي حبيب)، ويلعبون القمار، وينهبون الأموال من الشعب، لذلك لم يكن (آرام) شاذاً عنهم، بل كان واحداً منهم تماماً، لم يلفت انتباههم في شيء، وهم الذين اعتادوا أن ينتبهوا إلى رواد المساجد وأصحاب اللِّحَى وإلى الذين لا يشربون الخمر ولا يلعبون القمار ولا يدخلون الكباريهات، والذين يُسَمُّون العِشقَ زنى ...إلخ، وبكلمة موجز ة كانت المخابرات المصرية مجندة ضد المسلمين فقط.
* * *
- من هي المرشَّحة لهذه المهمة الصعبة ؟ . قال (صلاح نصر) مدير المخابرات العسكرية.
- ولماذا صعبة ؟
- صعبة لأننا نَثِقُ به ولا نرى ضرورةً لهذه المغامرة التي قد نخسر بها هذا المناضل الممتاز.
- من يطلب ذلك ؟
- (زكريا محيي الدين) وصل إليه تقرير (شحاتة عبد العظيم) الأخير وطلب أن يوضع (آرام) تحت المراقبة.
- لكن كيف يصدِّق (زكريا محيي الدين) (شحاتة ) وهو الذي زكّاهُ لنا سابقاً ؟
- هذه أوامر لابُدَّ من تنفيذها.
- (صوفي ياسين) هي الأفضل لمثل هذه المهمة.
- نعم .. أحسنت، إنها (صوفي) ولا أحد غيرها.
- ذكّرني بملف (صوفي) لو سمحت.
- حاضر.
ويقرأ مديرُ العمليات مذكرةً من أحد الملفات تقول:
(صوفي ياسين) قبطية لامعة الجمال والذكاء معاً، تخدم معنا منذ سنتين، وتقاريرها ممتازة، تدرس علم النفس في عين شمس، نجحت في جميع المهام التي كُلِّفَت بها حتى الآن.
- إذن هي (صوفي)، ولتبدأ المراقبةَ بحذر.
* * *
الجمال والذكاء والمال والجاه، كل ذلك ابتلاء من الله عز وجل، فإما أن يشكر الإنسانٌُ أو يكفر، إمَّا أن يطيع خالقه ويُسَخِّر هذه النعم في طاعة الله، وإما أن يركبه الغرور والكبرياء في الحياة الدنيا فتورده الذُّلَّ والهوان في الآخرة.
كانت (صوفي) تتعالى على أترابها وتتباهى بجمالها وذكائها عليهن، وكان ذلك يدفعها للبحث عن المجد والتسلّق السريع لهضبة المجتمع، وكانت مطاردةُ المتسكعين لها في الشوارع تُؤَجِّج هذه الشهوةَ لديها، حتى إذا دَخَلَتِ الجامعةَ تسابق الطلابُ إلى خدمتها والفوز برضاها من أجل نظرة رضى وابتسامة سرور منها، وكانت بحاجة إلى المال تنفقه على جمالها وزينتها وفساتينها، وقد وجدته لدى المخابرات المصرية.
* * *
- إنه عازب، وهذا يسهّل عليك القيام بالمهمة، كما أنه ثَـرِيٌّ جداً وذو مكانة عالية في المجتمع وهو أحد المسئولين، لذلك احذري أن يكشف أمرك، لأنه قَدَّم خدمات عظيمة لمصر، ونريد مراقبته دون الإساءة إليه قيد أنملة، ولعلّ دراستك لعلم النفس تساعدك على ذلك.
- ما سِــرُّ ثرائـه ؟
- إنه تاجرٌ كبيرٌ عالَمِيّ، واحذري أن تغاري عليه لأن له عشيقتات على مستوى العالم وإن كان لا بد من إظهار الغيرة.
- سأكون عند تقديرك لي يا سيدي.
كانت (صوفي) ترتدي كلَّ فتنتها، وتمر في هيلو بوليس أمام بيته تنتظر خروجه عند موقف التاكسي أو الحافلة يميناً، حتى إذا خرج (آرام) من بيته رفعت رأسها ونظرت إلى السماء كأنها تتأفف من أهل الأرض، وقد عرفت من دراستها وتجاربها أن الرجال الكبار تعجبهم المرأة المتكبرة، ويدفعهم غرورُهم إلى تحدِّي غرورها.
كان (آرام) في الأربعين تقريباً، لكنه يبدو وكأنه في الثلاثين، يحب التأنق بالثياب، لكنه لم يكن مغرماً بالنساء مثل عملائـه العرب، وقد أوصاه (فيشل) أن يحذر من النساء، وقال له : إن بقاء دولة إسرائيل يتوقف على نجاح مهمتك.
ولما فشلت في لفت نظره عدَّلتْ خُطَّتها وصارت من أوائل النساء المصريات اللائي يسقن سيارات الأجرة، وقد عرفت أن (آرام) يستعمل سيارات الأجرة كثيراً، وزادها بنطال الكاوبوي جمالاً وفتنةً، وحصرت مجال عملها في شارع إبراهيم باشا، حيث يسكن (آرام).
وذات يوم قُطع الهاتفُ عن (آرام)، فطلب من البوَّاب أن يُوقِفَ له أوَّلَ تاكسي يراها، وكانت (صوفي) قريبةً من الباب تنتظر، فناداها البوَّابُ، فصادت السنارة.
- صباح الخير.. ما شاء الله، همة وفتوَّة ونشاط.. وسيارة نظيفة أيضاً!
- لكنها فيات لا تليق بمقامكم سعادة الباشا الذي اعتاد على المرسيدس.
- لا، أبداً، الفيات جميلة ومريحة، بل رائعة.
كانت تمشي في الشارع قبل أن تسأله عن وجهته، فانتبهت وقالت:
- آسفة، أخذنا الحديثُ، أين تريد يا سعادة الباشا؟
- والله من عادتي صباح الجمعة أن أتفسَّح، وكنت أطلب سيارة من المكتب تبقى معي حتى الظهر في القناطر الخيرية، فإذا كان وقتك يسمح، وإلاَّ أوصليني إلى المكتب.
- لكن هذا يكلِّفُ كثيراً يا سعادة الباشا.
ضحك وقال :
- الدفع ليس مشكلـة.
- أين خط ســيرك؟
- كورنيش النيل حتى القناطر الخيريـة، وأتناول الإفطار في أحد كازينوهات الشــاطئ.
سارت السيارةُ ببطء مع الكورنيش، و(آرام) يُمتِّعُ نظرَهُ بالنيل الذي يتدفَّقُ حياةً وجمالاً وخصباً، ويُحَوِّلُ الوادي إلى شاطئ أخضر، وقد تزاحم الناس على ضِفَّتَيه، ثم يُغادر القاهرةَ فَيَتَفَرَّعُ إلى عدَّة فروع تشكِّلُ منطقة الدلتا، أشد مناطق العالم كثافةً بالسكان، أما (صوفي) فكانت تسرق النظر في المرآة بين الحين والآخر، فتجد (آرام) مشغولاً عنها بالنيل الخالد.
- ممكن الوقوف في هذا المقهى قليلاً؟
- حاضر.
- تفضَّلي نشرب قهوة الصباح.
- شكراً، عندي مذاكرة، سأبقى في السيارة أنتظرك، وخُذْ راحتك، أنا سأذاكر، ولمَّا تكمل القهوة أخبرني.
ثم افترشت الأرضَ بالبنطال الكاوبوي تلاعب ساقيها أحياناً، وتنشر شعرَها الذهبيَّ على العشب الأخضر أحياناً أخرى، بينما رشف (آرام) قهوتَه وهو يُمعِنُ النظرَ فيها، ثم عاد لها بسرعة، بعد أن لفتت انتباهه ... وجلست وراء المِقوَد تمشي بسيارتها مع الكورنيش.
- هل أنت طالبـة؟
- نعم، في عين شمس، قسم علم نفس سنة ثانية.
- ما شاء الله، وكيف تُوَفِّقين بين الدراسة والعمل؟
- مضطرة يا ســعادة الباشـا.
- هل السـيارة ملكك؟
- لو كانت ملكي ما اشتغلت عليها، على كل حال أنا سعيدة لأن عملي مختبر لعلم النفس.
ضحك (آرام) وقال:
- إذن أنا الآن في أنبوب اختبار؟
- ما أقصد ذلك، وإنما أستفيد كثيراً من عملي في التعرُّف على سلوك الناس، كما أتعرف على شرائحَ منهم.
بعد الفسحة الطويلة نَقَدَها (آرام) ورقةً واحدة ذات عشرين جنيهاً وهو يقول:
- الباقي من أجلك يا أمـورة.
- لا، الباقي كثـير، ما يصح هذا.
وأخرجت عدة جنيهات تزيد على العشرة لتردَّها إليه، لكنه رفض ثم مشى، فأسرعت نحوه وقدَّمتْ له بطاقةً باسمها ورقم الهاتف، ثم رَكَّزتْ كلَّ سحرِها في عينيها المُصَوَّبتين نحوه وهي تقول:
- إذا لزمتك الفيـات مـرة أخـرى فأنـا تحت أمـرك.
قالتها وعادت إلى سيارتها، بينما وقف (آرام) عند الباب تطنُّ في أذنيه كلماتها (أنا تحت أمـرك).
توطَّدت عُرَى الصداقة بين (آرام) و(صوفي) بعد أن طلب منها أن تبيع السيارة وتتفرَّغ لدراستها، وسال عليها المالُ من جيوبه المترعة بعد أن أصبحت تظهر معه في الحفلات الرسمية وكأنها خطيبته، وشغلها حبـه ومالُـهُ ثم فساتينُها وحُلِيّها عن مهمتها الأصلية، حتى وَبَّخَها مديرُ العمليات، ونبَّهها إلى هدفها الأصلي، لكنها كانت تقول :
- لا يمكن أن أشك فيه سوى ماله الكثير، وكرمه غير العادي، وصلاته الكثيرة بكبار الضباط عامةً، والطيارين خاصة.
لذلك طلب منها مديرُ العمليات أن تختفي عنه في بيته مدة يوماً كاملاً، وتراقبه لترى ماذا يفعل في غيابها.