صفحات من روايتي "أميرة"
صفحات من روايتي "أميرة" التي صدرت عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس عام 2015
وسط الذّهول والمرارة جاءهم من يخبرهم بأن عبد القادر الحسيني قائد الجهاد المقدّس قد سقط شهيدا بمعركة في قرية القسطل غربيّ القدس...فزادت همومهم هموما...بكاه الرّجال والنّساء نصبن حلقات نواح على من فقدن من أحباب، وعلى القائد الشّهيد...اجتمع الرّجال بين الخيام التي يحيطها الدّرك من جميع الجهات...بعضهم قرّر العودة مشيا على الأقدام...والبعض ارتأى التّريّث حتى تنجلي الأمور.
عمّ الاضراب جميع المدن والبلدات الفلسطينيّة...هاجم الثّوار الكثير من المعسكرات البريطانيّة والتجمعات اليهوديّة...العصابات الصّهيونيّة المسلّحة تهاجم البلدات العربيّة...يركّزون هجماتهم على المناطق التي خصّصها قرار التقسيم لاقامة دولة اسرائيل، المندوب السّامي البريطانيّ يعلن أنّ بريطانيا ستسحب قوّاتها، وستعلن انهاء انتدابها على فلسطين في 15- أيار –مايو- 1948.
عمّت الفوضى البلاد...الجامعة العربيّة أعلنت أن القوّات العربيّة ستدخل فلسطين فور انسحاب القوّات البريطانيّة منها.
لم يعرف النّوم طريقا لعيون من ألقت بهم السّفن في ميناء صيدا... نقص في الماء وفي الطّعام وفي الأغطية...نسيم البحر لم يعد عليلا...يلفح الوجوه الملتاعة...ويصفعها في ليل تكاثرت فيه المصائب...بزغ فجرهم على أخبار مفزعة...فقد اقتحمت العصابات اليهوديّة قرية دير ياسين في القدس وقتلوا من فيها...وحملوا بعض نسائها في سيّارات...جابوا بهنّ الشّوارع كسبايا؛ ليبثّوا الرّعب في قلوب الآخرين...ألقوهنّ في باب العامود في القدس...ليحدّثن عمّا شاهدن...كي يهرب المواطنون العزّل من بيوتهم؛ ليتركوها للمستوطنين اليهود.
مهيبة خورشيد تجتمع بعضوات "جمعيّة زهرة الأقحوان" تشرح لهنّ صعوبة الموقف، وأنّ ساعة الحسم قد اقتربت...توزّع عليهن المهام لحماية يافا...تؤكّد بأنّ مجزرة دير ياسين هدفها إثارة الرّعب كي يترك الأهالي ديارهم بدون حرب.
النّساء في مختلف البلدات نصبن حلقات نواح وبكاء على القائد الشّهيد عبد القادر الحسيني، ففقدان قائد مجاهد صادق يعني أنّ كلّ بيت فقد ابنا، وأكثر من بكينه هنّ بنات قرى القدس حيث كان يقيم:
صار ع القسطل هجوم*** تلقى القتلى رجوم رجوم
اشاهد فيها هالبطل*** عبد القادر انقتل
عبد القادر انقتل**** لرحمة الله انتقل
راح الخبر لاسرائيل*** هجموا ع دير ياسين
عملوا عمال الشياطين*** خصوصا قائدهم بيغين
سمعت سوريا والعراق*** دير ياسين تحت الهلاك
تشوف الجيش والدّبابات*** يا لطيف شو بخيفوا
********
والقسطل ريتك مردوم قتلت بيك العموم
ولشهداء فلسطين غنت نساؤها
يا لابسات التّبيت *** حدّين والبسن صيني
حدّين على الشهداء***** قتّالهم هالصّهيوني
فايز اجتمع مع عدد من الثّوّار...حذّر من أنّ الانجليز قد أعدّوا طبختهم جيّدا، وأنّهم يوزّعون أسلحتهم على اليهود...وأكّد بأن لا خيار أمامهم سوى الصّمود أو الشّهادة...طلب من عبّاس أن يرحل إلى رام الله أو أريحا بصحبة النّساء والأطفال...في حين يبقى هو وسعيد للدّفاع عن القصر والبيّارة...عبّاس رفض الفكرة وقال:
حياتنا ليست أغلى من حياة الآخرين.
البريطانيّون رحّلوا عائلاتهم...والأوامر صدرت لعساكرهم بالتمركز في معسكراتهم والدّفاع عنها...المسلّحون اليهود واصلوا هجومهم على حيفا...يحتلّون المدينة بيتا بيتا...تركوا ثغرات توصل إلى الميناء كي يهرب من يستطيع الهرب...السّفن البريطانيّة تقذف بآلاف المهجّرين في موانئ صيدا وبيروت وحتى طرابلس...استمرّ الهجوم...سيطروا على المدينة التي خلت من أهلها...لم يبق منهم سوى عدد قليل في وادي النّسناس... الهجوم امتدّ إلى أطراف حيفا...ووصل في 22 أيّار قرية الطّنطورة إلى الجنوب من حيفا...وهناك جرت مذبحة للأهالي كالتي جرت في دير ياسين...سقط فيها 230 ضحيّة من مختلف الأعمار...حلّقت غربان في سماء القرية...نهشت الجثث... نعيقها وصل إلى البلدات الأخرى حاملا رائحة الدّم المسفوك.
عبّاس عاد من القدس بعد زيارته السّريعة إلى القدس بتكليف من فايز؛ للقاء الشّيخ ياسين والتّشاور معه حول المرحلة بعد استشهاد القائد الحسيني...صلّى تحية المسجد في الأقصى...انتظر الشّيخ ياسين حتى صلاة الظّهر...سمع أقاويل كثيرة في المسجد...أحدهم قال:
البيك عاد غاضبا من اجتماعه مع القيادة العربيّة في دمشق...ولم يحصل إلا على" نُصّ كيس رصاص" فدخل معركة القسطل ليحمي البوّابة الغربية للقدس.
وقال آخر: كان للبيك-الله يرحمه- مستشاران ألمانيان يرافقانه في معاركه...ويقال بأنّهما كانا مدسوسين عليه...وهما من قتلاه.
آخر: ما كان للبيك أن يدخل المعركة...فمن سيخلفه في القيادة؟
وقال رجل عجوز - يسند ظهره إلى أحد أعمدة المسجد- بصوت أنهكته الأيّام:
لا تصدّقوا أنّ عبد االقادر بيك قد استشهد! فالرّجل في رعاية وحماية الله...بالتّأكيد هو الآن في مكان آمن يقود المجاهدين.
وهنا دخل رجل طويل القامة ذو مهابة وقال:
إن استشهد عبد القادر الحسيني- رحمه الله- ففلسطين ليست عاقرا...ومن يحبّ القائد الشّهيد عليه أن يواصل طريقه، ولن ينفع البكاء شيئا...والقائد الشّهيد بعث قبل استشهاده بيوم رسالة إلى عبد الخالق حسّونة الأمين العامّ لجامعة الدّول العربيّة كتب فيها: :"إني أحمّلكم المسؤولية، بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح" أرسلها وخرج على رأس عدد من جنوده إلى القسطل، حيث نال الشهادة.
التفت عبّاس إلى الشّخص الذي بجانبه وسأل:
من هو هذا الرّجل.
- هذا بهجت أبو غربيّة.
عاد عبّاس إلى بيت دجن دون أن يقابل الشّيخ ياسين...فالشّيخ لم يحضر ليؤمّ الصّلاة في الأقصى...حدّث فايز وصحبه عمّا سمعه في الأقصى عن استشهاد القائد الحسيني، وعمّا قاله بهجت أبو غربيّة.
فقال فايز: هذا الكلام ليس غريبا على بهجت أبو غربيّة.
عبّاس: ومن هو بهجت أبو غربيّة؟
فايز: ستتعرّف أنت وغيرك عليه لاحقا إن كتب الله له ولكم الحياة.
عبّاس: هل هو رجل مهم؟
فايز: نعم هو كذلك.
وبينما هم يتباحثون حول ما يمكنهم فعله للدّفاع عن البلدة، وصلهم صوت أزيز الرّصاص من كلّ الجهات...باستثناء الجهة الشرقيّة...فضّوا اجتماعهم...قسّموا بعضهم إلى مجموعات...كلّ مجموعة من اثنين ممّن يملكون بنادق وعددا من الرّصاصات...دبّ الذّعر بين الأهالي؛ فبدأوا يهربون شرقا...خوفا من أن يتعرّضوا إلى مذبحة كما حصل في دير ياسين...البعض هرب بملابسه التي يرتديها...لم يحمل معه شيئا...والبعض حمل قليلا من الطّحين والعدس والأرزّ طعاما لأطفاله...البعض واسى نفسه بأنّه سيعود بعد أيّام؛ لأنّ الجيوش العربيّة ستقهر العصابات الصّهيونية...النّساء يحملن أطفالهن ويبكين.
وسوم: العدد 720