أعطاب الجامعة المغربية هي نتيجة أعطاب سوق الشغل في بلادنا
تابع المغاربة مساء أمس عبر نشرات الأخبار خبر توقيع المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي اتفاقيات تعاون مع المندوبية السامية للتخطيط، ومع الجامعات بغرض الحصول على معلومات محيّنة عن واقع التعليم العالي ، وبغرض إحداث ما سمي بمرصد لتتبع وتقييم اندماج خريجي الجامعات في سوق الشغل .
والغريب في هذا الخبر أن هذا المجلس بعلو مكانته ، كان من المفروض أن يكون على علم جامع ما نع بواقع التعليم العالي منذ نشأته ، وهو لا يحتاج إلى توقيع اتفاقيات تعاون للحصول على تلك المعلومات التي هي من صميم اختصاصه الموكل إليه دستوريا ، وهو العمل على إصلاح التعليم ليكون رافعة تنمية شاملة تنقل الوطن من وضعية مزرية قد أشبعت تشخيصا ، و توصيفا ونقدا إلى وضعية مأمولة تكون واضحة المعالم مع وجود وضعيات دول أخرى قابلة لأن تكون مقاسا يقاس عليه وقدوة يقتدى بها . وكان من المفروض أيضا أن يكون رصد تتبع وتقييم اندماج خريجي الجامعات في سوق الشغل قد حصل منذ زمن بعيد . ودون هذا الرصد ، ودون إحداث مرصد خاص يتولى الرصد لا يوجد أوثق من واقع الحال الذي يكشف عن غياب سوق شغل بالمعنى الصحيح في بلادنا ،مع كثرة الخرجين العاطلين بشواهد عليا صارت تثار حول قيمتها العلمية أحاديث لا ندري أنصدقها أم نتثبت في أمر ما توصف به من تدن علمي فاحش، لأنه مع انعدام سوق شغل بالمعنى الصحيح يمكن أن تختلق مبررات وذرائع للطعن في الشواهد الجامعية وذلك لصرف الأنظار عن حال تلك السوق . ومما جعل الكلام يدور حول التشكيك في قيمة هذه الشواهد أيضا ابتذال أصحابها لها تحت ضغط البطالة ، وعرضها على وظائف دون قيمتها العلمية ، الشيء الذي يثير الريب فيها إذ لا يعقل أن يتهافت أصحاب الشواهد العليا على وظائف لا تحتاج إلى مثل شواهدهم ، ومع ذلك تظهر الجهات المسؤولة عن تلك الوظائف العادية والبسيطة هدها فيهم لكثرة عددهم ، ولإقبالهم عليها فرارا من الحاجة والبطالة ، وتخضع ملفاتهم للانتقاء التعجيزي ،فلا تختار منها إلا القلة القليلة جدا ، وتلقي بالكثرة الكاثرة في سلال المهملات تبخيسا لها، وطعنا صريحا، وتشكيكا في قيمتها العلمية . وتوجد حالات كثيرة لحاملي الشهادات الجامعية العليا الذين يمارسون أعمالا منحطة لا داعي لسردها، والتي يأنف من القيام بها من لا شهادة له أصلا ، وفي هذا أكبر ابتذال لتلك الشهادات وللتعليم عموما .
ويبدو أن استعمال كلمة عطل، وهي تعني في اللسان العربي البقاء بلا عمل مع القدرة عليه تعتبر شهادة أو إقرار من المجلس الأعلى للتربية نفسه بأن المشكل يكمن في سوق الشغل، وليس في التعليم العالي . وكان من المفروض أن يوقع هذا المجلس اتفاقيات مع سوق الشغل إذا كانت موجودة بالفعل لمعرفة إمكانياتها التشغيلية أولا ، ثم معرفة حاجياتها التي توجد لا محالة بين جيوش الجامعيين المعطلين المتطلعين للشغل وقد امتد العمر بالكثيرين منهم وبلغوا سن اليأس التشغيلي .
ولا أظن أن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي يحتاج إلى توقيع شراكات مع الجامعات لتمده بمعلومات محيّنة حول وضعية البحث العلمي فيها، فيكفي استنطاق النسبة المئوية المخصصة لتمويله في الميزانية العامة لمعرفة حاله، ولا يوجد أصدق من تلك النسبة حين تقارن بالنسب المعتمدة في الدول ذات الباع في ميدان البحث العلمي .
وإذا كان من دور لمرصد ينوي المجلس إحداثه ،فليكن جهاز إشراف ومراقبة محدثة بموجب قوانين، ويكون خاصا بمراقبة التعليم العالي الذي لا زال لحد الآن خارج أية مراقبة على غرار ما يوجد في أنواع التعليم الأخرى، وذلك لما يعرفه هذا التعليم من ممارسات يشتكي منها الطلاب ، ومنها ما يعود إلى انعدام التكوين البيداغوجي عند أطر التعليم العالي الذين يكتفى بتكوينهم التخصصي مع قطيعة تامة ـ حتى لا أصف ذلك بوصف آخر غير لائق ـ مع الممارسة البيداغوجية التي تجعل تلك الأطر ترعى لطلاب العلم كرامتهم ، فلا يعاملون بالفظاظة السائدة حاليا في معظم الكليات والمعاهد ،والتي تروى عنها حكايات مؤسفة ، ومخجلة في نفس الوقت ، ومسيئة إلى سمعة مؤسسات علمية هي قمة هرم التعليم في بلادنا ونربأ بسرد نماذج كما رويت من طلاب وطالبات ضحايا لحقتهم بهم أنوا من الإساءة لأسباب في منتهى التفاهة ، لو حضر مثقال ذرة من بيداغوجيا لأغنت الواقعين فيها عن ذلك.
وأخيرا نختم بالقول إن أعطاب الجامعة المغربية واضحة وضوح الشمس في واضحة النهار ، وتشخيصها مضيعة للوقت والجهد ، وربما هدر للمال أيضا ،ذلك أن تلك الأعطاب يتوقف إصلاحها بالضرورة على وجود سوق شغل نافقة لا سوق كاسدة يكسد بسبب كسادها البحث العلمي ، وتبتذل الشواهد العلمية ، وتفقد قيمتها ، ويتعطل بذلك قطار التنمية بسبب عطل قاطرة التعليم عموما ،والتعليم العالي خصوصا .
ونأمل أن يصغي المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لأصوات الرأي العام الناصحة ، ولا يتجاهلها بركوب أعضائه غرورهم بالظن أنهم وحدهم من يملكون العصا السحرية التي من شأنها أن تصلح أعطاب التعليم في بدلادنا.
وسوم: العدد 761