التحقيقات بواسطة القبلات

من الحياة اليومية لمواطن سوري

هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت معي شخصياً وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.

 كما ذكرت في قصص سابقة، فقد عملت قبل سفري في الثمانينيات كمهندس متدرب في مؤسسة عسكرية تنفذ مشاريعاً هندسية، وتم تعييني رئيساً لدائرة في فرع المؤسسة في إحدى قرى الغوطة الشرقية. هذا المنصب كان مخصصاً لمهندس ميكانيك، كما أن منصب معاون رئيس الدائرة كان أيضاً مخصصاً لمهندس من نفس الاختصاص. حين استلمت الوظيفة تفاجأت بأن معاوني والمعين قبلي، كان رجلاً لايحمل الشهادة الاعدادية ولايفقه شيئاً في الشؤون الفنية لا من قريب ولا من بعيد. كان في الثلاثينات من عمره، فارع القامة حالك وكثيف الشعر، مع شارب عريض يملأ كامل المساحة بين أنفه وشفته ويكاد يصل إلى أذنيه. كان للرجل مسدساً على مؤخرته يتقصد دائماً إظهاره، كما ويرتدي باستمرار بذلة عمل خضراء كتلك التي يلبسها العسكريون علماً بأنه لم يكن كذلك، ولكنه كان يفعل هذا ليضفي على نفسه هالة السلطة التي اعتاد العسكريون ورجال الأمن إضفائها على أنفسهم. طبعاً لن يحتاج القارئ للكثير من الذكاء ليستنتج أن هذا الرجل كان من (الطائفة الكريمة) وبالتالي كان أيضاً مستلماً لسيارة من المؤسسة في حين أن الكثير من المهندسين والمدراء كانوا بلا سيارات. كان معاون (الغفلة) هذا مثالاً نموذجياً على قوة الواسطة ودور الطائفية في بلادنا والتي لاتعير أي اهتمام لوضع الشخص المناسب في المكان المناسب من جهة وعلى الانحطاط الأخلاقي الذي قد ينحدر إليه أي إنسان عموماً من جهة ثانية.

 حين استلمت الوظيفة وتعرفت على هذا الرجل، عرفت سريعاً أنه لن يفيدني في أي ناحية من نواحي العمل، وتأكد لي ذلك حين كلفته بعدد من المهام الفنية وفشل بها فشلاً ذريعاً كما توقعت، فقررت أن أتجاهله وأعتبره في حكم الغير موجود. ماكان يقلقني من جهته أنه كان يحتفظ بصورة عملاقة على جدار مكتبه لسيئ الذكر (رفعت الأسد) شقيق رئيس النظام حينها وقائد ميليشيات سرايا الدفاع ونجم تهريب الدخان والمخدرات والآثار، وكان يتباهى باستمرار بأنه من رجاله ومحبيه، في حين كان المذكور في ذلك الوقت مغضوباً عليه ومطروداً من البلد لمحاولته الانقلاب على أخيه. سبب قلقي أن تصرف معاوني هذا قد يلفت نظر الجهات الأمنية إلى دائرتنا وبالتالي يؤدي للتحقيق مع جميع الموظفين فيها باعتبارهم لم يبلغوا عنه، وقد صارحته مرة بقلقي هذا ونصحته بلباقة بأن الوقت ماعاد مناسباً لوضع هذه الصورة في مكان العمل، وأنه من الأفضل أن يضعها في بيته إذا كان مصراً على الاحتفاظ بها. طبعاً لم يصغ لنصيحتي المهذبة ولكنه قام في النهاية بازالتها بعد أن استدعاه المدير الذي ينتمي لنفس الطائفة، ولكن الذي فب نفس الوقت لم يكن يرغب بتحمل مسؤولية الصورة، وأسمعه كلمات بذيئة كان أصغرها حسب ماعلمت (ياكر)، وقال له أيضاً: (إذا كنت بدك تروح على الحبس، روح لحالك).

 كان مكتب الرجل مجاوراً لمكتبي، وأتتني يوماً مكالمة هاتفية حيث طلب المتكلم الحديث معه، فقلت له أنه ليس عندي وأن عليه الاتصال به على خط هاتفه، فقال المتصل أنه حاول ذلك ولكنه لايجيب ونصحه عامل المقسم الاتصال به عبر هاتفي فلعله يكون عندي. اعتذر المتصل لازعاجي وطلب مني باسلوب مهذب أن أجده وأعلمه بالمكالمة لأمر هام، فطلبت من الرجل الانتظار على الخط لحين أن أذهب وأبحث عنه. وضعت السماعة على طاولة مكتبي ومشيت إلى مكتب الرجل حيث قرعت الباب ودخلت، لأجد معاون (الغفلة) وهو في وضعية فاضحة لايحسد عليها مع إحدى موظفات الفرع في حضنه ويتبادلان القبلات. لم أفاجأ كثيراً بالمشهد، فسمعة الرجل كانت سيئة في المؤسسة من حيث علاقاته النسائية، علماً بأنه متزوج وعنده أولاد. ابتعدت الموظفة عنه بسرعة وتظاهرت بأنها كانت تراجع معه بعض الأوراق ثم خرجت من المكتب وهي تحمل تلك الأوراق وتقول له بأنها ستملأها وتعيدها له في الغد، ولم تنس أن تلقي علي تحية مقتضبة وهي تمر بجانبي عبر الباب. من جهتي، فقد تجاهلت مارأيت، وقلت له باختصار أن هناك من يريد التحدث معه من هاتفي لأمر هام، ثم خرجت وعدت إلى مكتبي.

 لحقني الرجل إلى مكتبي وأنهى المكالمة بسرعة واعداً المتصل بأنه سيعاود الاتصال به في أقرب فرصة، ثم التفت إلى وقال: أريد يأاستاذ أن أوضح لك ماكان يجري في مكتبي، وهو بالتأكيد ليس كما تظن. طبعاً عرفت حينها أني على وشك ان أستمع إلى آخر ماتوصل إليه الانسان من فنون الكذب، فحضرت نفسي لذلك وسألته: ومالذي كان يجري؟ قال بأنه، وباعتباره أيضاً مسؤول أمني، فمن مهامه التحقيق دائماً في الأمور التي فيها شبهات أمنية، وأن هذا الموظفة قد كتب فيها تقرير وكلف هو شخصياً بالتحقيق فيه من قبل رئيس الفرع، وأنه استدعاها إلى مكتبه وقام بذلك ثم أعطاها نشرة استعلامات أمنية لكي تملأها وتعيدها إليه. وقد وصلت كذبة الرجل إلى ذروتها حين قال (متجاهلاً القبل) أن وضعها في حضنه هو اسلوب في التحقيق الأمني يهدف للضغط النفسي لأخذ أكبر قدر من المعلومات. لأاعرف لماذا كان الرجل مهتماً بتبرير ماكان يفعله، فهو كان يعلم بأنه ليس لي سلطة فاعلة عليه، فمرجعيته الطائفية قادرة على حمايته من شخص مثلي، ولكنه ربما أراد تبرير وضع الموظفة ليتسنى له في المستقبل ان يتابع (تحقيقاته) معها ومع غيرها، خاصة وأن (اسلوب القبلات) يبدو وأنه فعالاً ومؤثراً ولكنه أيضاً مفيداً في نفس الوقت.

 ظننت أن القصة ستنتهي هنا، ولكنها لم تفعل ذلك، ففي نفس اليوم وقبل نهاية الدوام، قرع باب مكتبي ودخلت الموظفة إياها، وسألتني إن كنت أسمح لها بدقيقتين من وقتي؟ وقبل أن أجيبها دخلت وأغلقت الباب وبقيت تسنده من الداخل وقالت بصوت خافت: (مشان الله ياأستاذ لاتحكي هالموضوع لحدا. هادا الزلمة مو مخلي موظفة من شرو. يا الوحدة بتسايرو يا بيخرب بيتها بتقرير أمني. ولو كان الموضوع بس بينتهي بطرد من الوظيفة، فيا محلاه) وبعد ذلك فتحت الباب وخرجت. من جهتي وكما أشرت في بداية القصة، فقد كنت قد سمعت عن سوء الرجل، ولكني لم أكن أعرف أنه سيئاً لتلك الدرجة، وقد تأكد لي كلام الموظفة بعد عدة أشهر حين اصطدمت معه مباشرة في أمر يخص العمل، فطلبت من المدير استبداله بمهندس، كما ينص نظام المؤسسة، واستجاب المدير لطلبي. فما كان من الرجل إلا أن لفق لي تهمة سياسية بالتعاون مع عدة موظفين آخرين بهدف إرسالي إلى (سجن تدمر) السئ الصيت إلا أنهم فشلوا في ذلك وانقلب السحر على الساحر، ورويت تفاصيل تلك القصة في مقال سابق موجود على موقعي على (النت) بعنوان (قصتي مع المخابرات السورية).

 هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، ففي (سورية الأسد) تنقلب النزوات الشخصية لرجالات النظام مصائباً على الناس تدمر لهم مستقبلهم وقد تنتهي بهم إلى السجن، حتى ولو لم يكن للأمر علاقة بالسياسة لامن قريب ولامن بعيد.

وسوم: العدد 763