عادات وتقاليد الجزائر بمنظور المستدمر الفرنسي
أعظم هدية تصل الأب من الابن هي الكتاب، والأب يعرض هدية ابنه الأكبر “وليد” المتمثّلة في كتاب، وكلّه فخر واعتزاز بالهدية وبما يقدّمه للقرّاء والنقاد من هدية: Eugène Daumas “Mœurs et coutumes de l’Algérie”, Editions ANEP, Algérie, Contient 257 PAGES، فكانت هذه القراءة:
أوّلا: الخصائص العامة للكاتب الضابط
بالإضافة إلى هذا الكتاب الذي أضعه بين أيدي القرّاء الكرام، سبق لي أن قرأت لنفس الكاتب الضابط الفرنسي دوماس الكتب التالية:
Professeur GEORGES YVE " LES CORRESPONDANCESEUGENE DAUMAS "Abdel-Kader en Kabylie" الكاتب الضابط الفرنسي يتقن جيّدا اللّغة العربية ويدخل في نقاش مع علماء الزوايا الجزائرية العارفين المتقنين للّغة العربية، ويعرف القرآن الكريم حتّى أنّه قال لأحد الفقهاء: ليس هذا هو الذي يقوله الله تعالى لأنّي أقرأ القرآن ولم أجد ما تتحدّث عنه. ويعرف أشعار العرب، ويعرف الشعر الجزائري الملحون وقد نقله عبر بعض صفحات الكتاب كما هو بالعامية وترجم بعض النصوص المطوّلة أحيانا إلى اللّغة الفرنسية. الكاتب دوماس يتقن جيّدا اللّغة العربية، ويكتب الأسماء والأماكن العربية باللّغة الفرنسية كما تنطق باللّغة العربية الفصحى. من شدّة اتقانه للّغة العربية يكتب حرف "الخاء" وحرف "الضاد" كما تنطق باللّغة العربية الفصحى، بينما بعض العرب لا ينطقون ولا يكتبون هذه الأحرف. يستعمل الكاتب مصطلح العربي بشكل كبير ودائم لكنه يقصد الجزائري ، ونادرا ما يستعمل الجزائري، لأنّ القارىء العربي المنتمي لإخواننا في الدول العربية الأخرى يعتقد أنّه يتحدّث عن المجتمع العربي وليس الجزائري فيختلط عليه الفهم، فوجب شرح هذه النقطة وتوضيح المبهم. كلّ قول أو فعل إلاّ ويذكر الكاتب ما يقابله من مثل جزائري شعبي أو باللّغة العربية الفصحى ويكتبه كما ينطق بالعامية أو الفصحى ثم يكتبه باللّغة الفرنسية، ما يدل على إتقانه للموروث الجزائري الشعبي وعن قرب وتجربة. الكاتب الضابط يعرف المجتمع الجزائري معرفة جيّدة وعن دراية وعلم، باعتباره تغلغل في عمق المجتمع الجزائري، واقترب منه وعرف عن قرب عاداته وتقاليده طيلة سنوات، فتمكّن من معرفة أسراره وحسناته وعيوبه. الكاتب الضابط الفرنسي بالإضافة إلى كونه مثقف متعلّم متمكّن إلاّ أنّه جاسوس بطبعه، والجاسوس ينقل أدقّ التفاصيل إلى قادته ليتّخذوا قرار استدمار الجزائر ونهبها واستغلالها عن علم ودراية، وهذا مافعله وهو ينقل تفاصيل دقيقة وجدّ دقيقة عن المجتمع الجزائري إلى قادته العسكريين الفرنسيين المجرمين. ما يجب قوله كشهادة قارئ متتبّع أنّ الكاتب الضابط الفرنسي كان عبر صفحات الكتاب أمينا في النقل، صادقا في الوصف، بغض النظر عن الغاية الاستدمارية التي كان يهدف إليها ويسعى إلى تثبيتها ونشرها. تتمثّل غاية الكاتب والكتاب في كون معرفة عقيدة وتقاليد المجتمع الجزائري معرفة علمية وميدانية تسمح للمستدمر الفرنسي أن يضمن البقاء والهيمنة بأيدي جزائرية وعقول جزائرية. واضح جدا النزعة الاستدمارية المحتلة المجرمة للكاتب الضابط لدوماس. اعتمد الكاتب على البدو دون سكان الحضر في فهم الجزائر والسيطرة على الجزائر، باعتبار البدو أصل العرب، ومن أراد أن يفهم العرب عليه أن يعيش مع البدو ويدرسهم جيدا14. . سبق لي أن قرأت كتابا وعرضته لأستاذ يابانيأتذكر أنّي قرأت وأنا طالب في الجامعة لفرنسي كتابا باللّغة الفرنسية بعنوان " La psychologie des peuples " (نفسية الشعوب)، وغاية الكتاب كيف تسيطر على الشعوب ومنها الجزائر من خلال فهم الحالة النفسية وعاداتها وتقاليدها. يعرف الكاتب الفرنسي القرآن الكريم واستشهد به لعدّة مرات، ويتقن جيّدا وببراعة فائقة استحضار الحكم القرآني الكريم حين يريد
ثانيا: محتوى الكتاب
جاء الكتاب عبر ثلاثة فصول كبيرة، منها: التل 19-110، و منطقة القبائل 111-162، والصحراء 163-254.
تحدّث وبالتفصيل عن خصائص كلّ منطقة من حيث الجغرافيا، والتّاريخ، والعادات والتّقاليد، وما ميّز المنطقة، وكذا حياة سكانها، والمأكل، والمشرب، والملبس، والاعتقادات، والحروب، والتجارة، والحيوانات، والصيد، وعلاقاتهم مع القبائل المجاورة، وسلوكاتهم اليومية تجاه القرآن الكريم والشريعة الإسلامية. راح الكاتب عبر كافة الفصول يقارن بين العٙر۟بِي والقبايلي والصحراوي. تحدّث عن "الزواوة" الذين يميّزون منطقة القبائل، وعن "التوراڨ" الذين يميّزون الصحراء. تحدّث عن الغنم والإبل والخيول، و وقف مطوّلا عند الخيول، وسنفرد لها نقطة خاصّة بها لأهميتها حين نتطرق للأمير عبد القادر. تحدّث وبشكل مفصّل عن عظمة الزوايا التي تميّز الجزائر كلّها، وعبر التل، ومنطقة القبائل، والصحراء.6. على مدار صفحات الكتاب راح الكاتب الضابط يقارن بين سكان وعادات التل، ومنطقة القبائل، والصحراء من حيث النقاط المذكورة والتي تميّزت بها كلّ منطقة.7. تحدّث بإعجاب شديد عن أخلاق الجزائري العظيمة، كإلقاء السّلام، وحلاوة اللّسان، وحسن الأدب، واحترام مقام الآخرين، والصدق، وكيفية تعامله مع المرأة من حيث الأدب والتوقير والاحترام، وأنّه رجل لا يكتفي بالأقوال بل يدعمها بالأفعال، واعتماده على الله تعالى في كلّ صغيرة وكبيرة، وذكره للأذكار النبوية الخاصة بكلّ قول وفعل، والجزائري عزيز النفس، وشهم، ولا ينحني لأحد إلاّ لله تعالى، لا تغرّه الدنيا ولو رأى قصور ملوك فرنسا.8. يتحدّث في نفس الوقت عن بعض العادات السيّئة التي سادت المجتمع كالأنانية وعدم الاهتمام بالغير واللاّمبالاة التي يوليها للغير، ويذكر في هذا الصدد أمثلة شعبية تؤكدّ ذلك.9. الكاتب والجاسوس الفرنسي يعرف المجتمع الجزائري معرفة علمية ومعرفة ميدانية، وواضح جدّا أنّه يعرف عن أسرار المجتمع الجزائري ما لا يعرفه الجزائري عن نفسه.10. الجزائري كان متدينا بالفطرة السّليمة، وكان يذكر الأذكار النبوية الشريفة الخاصّة بالأقوال والأفعال بالفطرة وعن علم ودراية، وقد انبهر بها الفرنسي وتأسّف لكون الفرنسي لا يعرف مثل هذه الأذكار.11. ظلّ الكاتب يقارن السّلوك الجزائري الرّفيع بالسّلوك الفرنسي فكان يصل في كلّ مرّة إلى أنّ السّلوك الجزائري أفضل ويتمنى لو أنّ الفرنسي يصل للمستوى العالي الذي وصل إليه الجزائري إلاّ في بعض الحالات النادرة جدّا.12. ما لم يذكره الكاتب الجاسوس علانية هو: فرنسا الاستدمارية سعت لمحو واستبدال العادات والأخلاق الجزائرية الحسنة العظيمة التي أعجبت بها بأخلاق سيّئة تمكّنها من السيطرة والاستغلال والنهب والسّطو والتمكّن طويلا في الجزائر وبأيدي وعقول جزائرية.13. قال: اللّغة البربرية ضاعت. لا يوجد في منطقة القبائل كتاب مكتوب بالبربرية. وكلّ الوثائق والآثار الخاصة بالكتابة ضاعت أثناء احتلال بجاية من طرف الإسبان سنة 1510.14. في أيامنا هذه (سنة1853، سنة تأليف الكتاب) البربرية تكتب بحروف عربية فقط. وزاوية سيدي بن علي الشريف تضم وثائق كثيرة من هذا النوع. 15. قال: كلّ سكان القبائل يدرسون اللّغة العربية لأجل قراءة القرآن والتجارة، و يتحدثونها بطلاقة. ولا يوجد شيخ قبيلة في منطقة القبائل لا يعرف اللّغة العربية.
ثالثا: الزوايا
1) ركّز دوماس على أهمية الأسرة الجزائرية والزوايا والقبيلة في بناء الدولة الجزائرية، فلا عجب أن يبدأ الاستدمار بتحطيم الأسرة والزوايا التي ساهمت في نشر العلم والفقه.2) وصل الكاتب الضابط إلى نتيجة مفادها أنّ عظمة الجزائر في الزوايا العلمية التي كان يأتيها طلبة العلم من المغرب وتونس ومصر، ولا يوجد في الجزائر وعبر التل ومنطقة القبائل والصحراء قوّة تضاهي قوّة الزوايا ناهيك عن أن تنافسها.3) تكمن عظمة الزوايا حسب الكاتب الضابط الفرنسي في العلم الذي تنشره بين أفراد المجتمع الجزائري، وإقامة الصلح، وتوزيع الزكاة و الع۟شور۟، وردّ المظالم، وردّ الظّالم، وجبر الخاطر، وإقامة العدل، واستقرار المجتمع، ونشر الفضيلة، وتثبيت القيّم العالية السّامية، وعدم الركون للمستدمر الغازي الفرنسي. 4) يرى أنّه لا يمكن بحال قضاء أمر من أمور الجزائر صغيرا كان أم كبيرا دون الرجوع إلى الزوايا للفصل فيها لما أوتي علماؤها والطۡل۟بٙة من حكمة وبعد نظر وسداد فكر وحبّهم للمجتمع والدفاع عنه.5) حين تأكّد الضابط الفرنسي من عظمة الزوايا عبر القطر الجزائري، وأنّ فرنسا لن تقوم لها قائمة إلاّ بهدم الزوايا فكريا واستبدالها وتمييعها، قال وبصريح العبارة: علينا أن نزيل قوّة الزوايا لتقوم لنا قيامة دائمة بالجزائر، أو تمييع شيوخها، أو إرهاق كاهلهم بالضرائب التي لا يطيقون دفعها عبر وسائل ذكرها، وحينها يمكن لفرنسا أن تثبّت أقدامها بالجزائر بمحو الزوايا أو بتمييع الزوايا. 6) يبدو لي أنّ المقارنة الماكرة التي تتبّعها الضابط الكاتب وهو يقارن بين زوايا التل وزوايا منطقة القبائل وزوايا الصحراء تدخل في إطار الوقوف على قوّة الزوايا ثمّ محوها واستبدالها وتمييعها.7) ما يجب ذكره أنّ الضابط الكاتب الفرنسي اعترف بقوّة ومكانة وعظمة الزوايا العلمية في الجزائر وسعى بكلّ ما لديه لسحقها واستبدالها بما يخدم الاستدمار الفرنسي، وعليه فكلّ من يحارب الزوايا العلمية التي اشتهرت بنشر العلم والفقه والفضيلة والعلماء والفقهاء والأخلاق الحسنة فهو امتداد للاستدمار الفرنسي، ومعول هدم لكلّ قيمة فاضلة، بلسان وقلم ويد جزائرية تنوب عن الاستدمار فيما عجز عنه وهو يتمنى سحق الزوايا العلمية واستبدالها.8) تحدّث بإعجاب كبير عن عظمة الزوايا وعلماء الزوايا لما يقومون به من دور عظيم، وكان يهدف إلى زعزعة الزوايا وعلمائها وفقهائها في نفوس الجزائريين، وقد أعلن ذلك صراحة عبر صفحات الكتاب.9) الكاتب جاسوس، والجاسوس صادق في النقل والوصف حتّى إذا قدّم معلوماته ونصائحه لأصحاب القرار اتّخذ القرار المناسب لضرب الجزائر وتحطيم زواياها وتثبيت الاحتلال عن علم ودراية وتجربة.
رابعا: المقارنة بين التل ومنطقة القبائل و الصحراء
يقسّم الضابط الكاتب المجتمع الجزائري إلى: العربي والقبايلي والصحراوي. ظلّ الكاتب عبر كلّ صفحات الكتاب وهو يقارن بين التل، ومنطقة القبائل، والصحراء. بقدر ما وصف الكاتب ونقل لما رآه وشاهده وعاينه ولمسه من المجتمع الجزائري، إلاّ أنّه أيضا قارن بين المناطق الثلاث. الضابط الكاتب الفرنسي كان صادقا في الوصف، وأمينا في النقل، لكنّه ماكرا و خبيثا في المقارنة. تحدّث وبشكل مفصّل ودقيق جدّا عن دور الزوايا في التل، ومنطقة القبائل، والصحراء وقارن بينها من عدّة جوانب. قارن الكاتب الضابط من حيث: الموقع الجغرافي، وماضي كلّ منطقة، والعادات والتّقاليد، وما ميّز المنطقة، وكذا حياة سكانها، والمأكل، والمشرب، والملبس، والاعتقادات، والحروب، والتجارة، والحيوانات، والصيد، وعلاقاتهم مع القبائل المجاورة، وسلوكاتهم اليومية تجاه القرآن الكريم والشريعة الإسلامية، والنساء، والرجال، والزواج، والمهر، والقادة، وكيفية التعامل مع الأسرى، ونوعية الأسلحة، والضرائب، والكرم، والضيافة، والمروءة، والرجولة. قارن أيضا من حيث المساوئ كـ: التعدي على النّساء وقد أطال في الوصف والمقارنة، وقطع الرؤوس، والاعتداء على القبائل المجاورة، والسطو، والسّرقة، والرشوة، واستغلال النفوذ، والغدر، والخيانة، وقطع الرؤوس في الحروب. قارن أيضا بين نوعية الحيوانات التي تملكها كلّ منطقة، كالغنم، والجمال، والخيول، والمهاري، وكلّ منطقة بما امتازت وبما تفوّقت على غيرها. قارن بين نوعية الأكل الذي ميّز كلّ منطقة كالشعير، والقمح، والزيتون، والتين، وزيت الزيتون، والحليب، واللّبن.ما لفت انتباهي أنّ الكاتب الفرنسي وهو يقارن سنة 1853، تفنّن في ذكر عيوب العٙر۟بِي ووصفها بدقّة بالغة واعتبرها من الأوصاف التي تميّزه، وفي نفس الوقت تفنّن أيضا في ذكر محاسن إخواننا من سكان القبائل بدقّة بالغة ولم يذكر المساوئ واعتبرها من خصائصه وميزاته، حتّى أنّه لم يذكر سيئة للعٙر۟بِي إلاّ وأردفها بحسنة لأخيه القبايلي.وصل إلى نتيجة وهو يقارن طيلة صفحات الكتاب بين العادات والتقاليد والسّكان بدقّة بالغة: التل، ومنطقة القبائل، والصحراء، والتوارڤ، أنّ الع۟رٙب۟ هم الأسوء والأحط طيلة عملية المقارنة التي قام بها، وذكر أمثلة عديدة كثيرة لمن أراد أن يعود إليها.ظلّ يقارن المناطق الثلاث من حيث الأقوال، والأفعال، والنصوص، والسّلم، والحرب، والمصاهرة، والحيوانات، والشكل الخارجي للرجال والنّساء، وما تفعله النّساء والرجال خارج أعين القبيلة وتحت جنح اللّيل وقد أمعن الكاتب الضابط في وصفه ونقله.وصف المحتلّ والكاتب الفرنسي للمجتمع الجزائري مبني على مشاهدة ومعرفة بعمق المجتمع التي دامت لسنوات بغض النظر عن الطابع الاستدماري الحاقد على الجزائر والرامي للتفرقة بين الإخوة.الضابط والكاتب الفرنسي كان صادقا في وصف الصفات السّيئة التي ذكرها عن الجزائري أي العربي بتعبيره ولا يمكن إنكارها. لكن كان في غاية الخبث والدهاء حين تفنّن في المقارنة بين العربي والقبايلي وركّز على مساوى العربي وركّز في نفس الوقت على محاسن القبايلي.فيما يخص استغلال التنافر العرقي فقد ذكره بالتفصيل عبر الفصل المعنون بـ: "المؤسسات القبايلية"، حيث ختمها في صفحة 152 حسب ترجمتي بقوله: "القبايلي يكره العربي، والعربي يكره القبايلي".السؤال الذي يطرحه القارىء المتتبّع: لماذا أمعن الكاتب الضابط في المقارنة بين مناطق الجزائر التي ذكرها رغم أنّه كان أمينا في النقل وصادقا في الوصف؟. الإجابة واضحة وجلية تتمثّل في سعيه وهو الضابط الجاسوس العارف بأسرار المجتمع الجزائري إلى استمالة منطقة القبائل إلى فرنسا من خلال التركيز فقط على محاسنها وكأنّه لا توجد سيّئات لها كما توجد لغيرها سيّئات، والتركيز في نفس الوقت على عيوب العٙر۟بِي وكأنّه لا توجد له حسنة تذكر رغم أنّ القارىء المتتبّع يقر أنّ له عيوبا كما للآحرين عيوبا.المقارنة التي اعتمدها الضابط الفرنسي وهو يقارن بين التل ومنطقة القبائل والصحراء لم تكن أبدا سليمة بريئة بل كانت لأغراض استدمارية، والغرض منها بثّ الشحناء والبغضاء والعنصرية بين سكان الجزائر، والتفريق بينهم على أساس الماضي والعرق واللّون، واستغلال كلّ صغيرة لتنفصل عن الجزائر وتكون أكثر ولاء وحبا ودعما ونصرة للاحتلال والاستدمار الفرنسي، وجعل كلّ جزائري يفتخر على الآخر بما بثّه الفرنسي من تفرقة بغيضة وهو يعتمد على المقارنة التي بثّها عبر كامل صفحات الكتاب.
خامسا: الأمير عبد القادر
ما يجب التركيز عليه والإشارة إليه أنّ الكاتب الضابط الفرنسي دوماس متخصّص في حياة الأمير عبد القادر رحمة الله عليه. في كلّ فصل من فصول الكتاب أفرد الكاتب الضابط جزء للتحدّث عن الأمير عبد القادر. كان في كلّ مرّة يذكر مساوئ الأمير عبد القادر، وفي كلّ فصل يخصّص جزء للأمير عبد القادر، ونقل أشعار المتعلّقة بحبّه للصحراء وبالخيول ونقاط أخرى. نقل أشعار الأمير عبد القادر عبر صفحات 251-254، وترجمها إلى اللّغة الفرنسية. كان كلّ شغل الكاتب الضابط الفرنسي أن ينقل ما يراه عيوبا لدى الأمير عبد القادر. وصل الحقد وبغض الكاتب الفرنسي للأمير عبد القادر أن يقول أنّ خيول العربي الواقعة في التل أضعف من الخيول المتواجدة في الصحراء وفي منطقة القبائل، ليصل إلى نتيجة مفادها أنّ خيول الأمير عبد القادر ضعيفة هزيلة. إذن كما قلنا من قبل المقارنة لم تكن أبدا بريئة بل كانت لأغراض استدمارية. من الملاحظات التي لفتت انتباه القارىء المتتبّع، أنّه لفهم الكتاب الذي وضعناه بين أيدي القرّاء ونحن الآن بصدد عرضه يعتبر الجانب النظري لفهم الأمير عبد القادر، لابد أيضا من قراءة ولنفس الكاتب كتابه: "Abdel-Kader en Kabylie" الذي يعتبر الجانب العملي لفهم الأمير عبد القادر. بعبارة أخرى الكتاب “Mœurs et coutumes de l’Algérie”، يبيّن فيه الكاتب وحسب رأيه خصائص منطقة القبائل التي رفضت استقبال الأمير عبد القادر وكذا الصحراء التي وجد فيها صعوبة للتأقلم وجذب القادة والنّاس، بينما القارىء لكتاب "Abdel-Kader en Kabylie"، يقف على الجانب العملي لهذا الرفض من طرف منطقة القبائل ويعدّد تلك المظاهر ويقف عليها مطولا، وكأنّ هناك تكاملا بين الكتابين من حيث الجانب النظري والجانب العملي. لفهم علاقة الكاتب الضابط الفرنسي دوماس والأمير عبد القادر على القارىء المتتبّع أن يقرأ الكتب الثلاث التي ذكرناها من حيث المقارنة والأمانة والصدق والثقافة الاستدمارية التي ميّزت الكاتب الضابط الفرنسي. للأمانة، الكاتب دوماس كان أمينا وصادقا في النقل عن الأمير عبد القادر، ورغم بغضه الشديد للأمير عبد القادر إلاّ أنّه في كتبه يشيد وبشكل كبير ودائم بشجاعته، وبطولته، وأمانته، وصفائه، ورجولته، ومعاملته الحسنة للأسرى، و وفائه بالعهود والمواثيق.
سادسا: خلاصة ونصائح للمهتمين
أعاد الكاتب الضابط الفرنسي نشر التراث الشعبي الجزائري ومنها الشعر الملحون باللّغة الفرنسية، وهذه فرصة للمهتمين بالتراث الشعبي الجزائري من زاوية الفرنسيين المحتلين وفي عهد الاستدمار الفرنسي لمن أراد أن يجعل من الكتاب مرجعا للفهم والنقد. أوصي بقراءة الكتاب للوقوف على المجتمع الجزائري إبّان الاحتلال الفرنسي ومن زاوية فرنسي يعرف اللّغة العربية جيّدا، ويعرف القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وأشعار العرب، والشعر الجزائري الملحون، وعادات وتقاليد المجتمع. أوصي بقراءة الكتاب لمن يملك قساوة القلب، وثبات الرأي، وحرية نقد الجميع، وعدم التبعية لأحد، وعدم الخضوع لسلطان ولا فقيه، ودون اتّهام الآخرين، ودون الاستسلام للمحتل الفرنسي. لم يترك الكاتب كبيرة ولا صغيرة عن المجتمع الجزائري إلاّ و وصفها بدقّة بالغة. يتأسف الكاتب الضابط من كون فرنسا المحتلّة لم تعرف جيّدا ولغاية 1853 تاريخ تأليف الكتاب المجتمع الجزائري، ويوصي بالتعمق في معرفة عادات وتقاليد المجتمع الجزائري، لأنّ تثبيت الاحتلال يبدأ من معرفة الدين والعادات والتقاليد ثمّ تمييعها واستبدالها بما يضمن بقاء فرنسا المحتلة. كان صادقا في وصف المجتمع الجزائري، وأمينا في النقل، لكن لغاية استدمارية تتعلّق بتثبيت الاحتلال والاستدمار الفرنسي. ذكر مساوئ المجتمع الجزائري وهو يصف ويقارن بدقّة بالغة بين التلّ، ومنطقة القبائل، والصحراء، وهذه المساوئ خاصّة فيما يجري تحت جنح اللّيل يعرفها الجزائري لكنّه يخفيها حين يتعلّق بشيخه ومجتمعه وزواياه، فأظهر الكاتب الضابط العيوب إلى العلن. وليس العيب في الفرنسي الذي ذكر العيوب الجزائرية إنّما العيب في الجزائري الذي لم يكتف بأنّه أخفاها بل زعم أنّه الطّاهر المقدّس الذي لا يرتكب تلك العيوب التي أظهرها الفرنسي. قدرة الكاتب الضابط الفرنسي في كونه استطاع وببراعة فائقة التغلغل داخل العمق الجزائري فعرفه عن علم ودراية، فأوصى قادته بالسيطرة على الجزائر واحتلالها عن علم ودراية. ذكر محاسن وعيوب المجتمع الجزائري بما فيها العيوب التي يخفيها الجزائري عمدا عن نفسه وعن شيخه وفقيهه الذي يأخذ منه وزاويته التي ينتمي إليها. الكاتب بطبعه جاسوس مثقف ثقافة متينة راسخة، يقدّم صورة عن المجتمع الجزائري لقادته صناع القرار عن علم ودراية وتجربة وصدق وأمانة، حتّى إذا وصلتهم المعلومة احتلوا الجزائر و استدمروها ونهبوها عن علم ودراية وتجربة. استعمل الكاتب الجاسوس الصدق والأمانة لاحتلال الجزائر ونهبها وإذلالها، والمطلوب من الجزائري أن يكون صادقا مع نفسه وأن لا يخفي عيوبه وعيوب من يأخذ عنهم، قصد حماية الجزائر وتثبيت أركانها والدفاع عنها وتقديمها في صورة حسنة. أفيكون المجرم المحتل صادقا لأجل الاحتلال ولا نكون صادقين مع ديننا وأرضنا ومجتمعنا. ولا يطلب من الجزائري غير أن يكون صادقا مع نفسه، ودينه، و وطنه، وتاريخه، ومجتمعه، وعاداته، وتقاليده. الكتاب ثروة لمن يريد أن يعرف المجتمع الجزائري إبّان بداية الاحتلال الفرنسي ومن زاوية كاتب ضابط جاسوس فرنسي، كالوقوف على عظمة الزوايا ودورهم المشرّف في المجتمع الجزائري، وأنّ فرنسا سعت بكلّ ما لديها للإطاحة بالزوايا العلمية التي نشرت العلم والفقه والأخلاق والقيم بين أفراد المجتمع الجزائري. من الملاحظات المؤلمة المحزنة التي وقف عليها القارىء المتتبّع أنّه في الوقت الذي كانت فرنسا المحتلة تحتلّ الجزائر، يتحدّث الكاتب الفرنسي سنة 1853 عن حروب وقتل وسبي واعتداء على النّساء بين القبائل الصحراوية بالجزائر بشكل رهيب ومفزع ومخزي ومؤلم. وتفنّن الكاتب الضابط في وصف أدقّ التفاصيل المخزية. يبدو لي وأنا أقرأ الكتاب أنّ الجزائري بالغ في الضيافة والكرم وهو يستضيف الفرنسيين المحتلين ويكرمهم ويحسن إليهم، وكان هذا الكرم غير اللّائق وغير المبرّر عاملا من عوامل تثبيت الاحتلال وامتداده عبر كامل تراب الجزائر. ويكفي القول أنّ الكاتب وهو ضابط يتحدّث بفخر واعتزاز عن الكرم والضيافة التي لقيها بالتل ومنطقة القبائل والصحراء و التوارڤ وكأنّه ضيف مرحب به، وهو في الحقيقة جاسوس ضابط محتلّ مجرم، بغضّ النظر عن ما جاء في الكتاب من وصف صادق وأمانة في النقل. الكتاب فرصة للوقوف على عظمة الزوايا في المجتمع الجزائري، وكيف أنّ فرنسا المحتلّة سعت للحدّ من سلطان الزوايا العلمية والسعي لمحو تأثيرها ونفوذها عبر تمييعها واستبدالها بشيوخ يضمنون لها البقاء باسم الدين ويحاربونها باسم الدين.
سابعا: أثر الكتاب
قرأت الكتاب قراءة النّاقد المتتبّع الذي لا يلعن ولا يقدسّ، ويستفيد من ملاحظات عدوّه المحتل ويردّ عليها ويظلّ يفتخر وهو يدافع عن الجزائر وعاداتها وتاريخها ودينها.
طلبت من الزملاء أن يسرعوا لأضع تحت تصرفهم نسخة من الكتاب أو أرتجل مقاطع من النصوص أو الفصول قصد الترجمة لمن لا يحسن اللّغة الأجنبية، فكتبت لزميل قائلا:
السّلام عليكم. إذا احتجت أو أحد زملائك لنظرة فرنسا للزوايا بالجزائر والمجتمع الجزائري بشكل عام، أضع تحت تصرفهم ما جاء في كتاب: "Mœurs et coutumes de l’Algérie " لصاحبه الضابط الكاتب Eugène Daumas : ، وأنا على استعداد لأرتجل الترجمة إذا شئتم، أو ترجمة فورية لفصل أو صفحات، فأنا مستعد وكلّ الاستعداد.
أسرعوا قبل أن أعيد الكتاب لأصحابه.
[2] سنخصّص مقال بإذنه تعالى للكتاب الذي أنهينا قراءته لاحقا: "Abdel-Kader en Kabylie"، ضمن النقاط التي سجلناها عبر المسودة التي بين أيدينا الآن.
[3] أنظر مقالنا بعنوان: " العربي كما يراه الياباني"، وبتاريخ: السبت 07 ذو القعدة 1436هـ الموافق لـ : 22 أوت 2015م
وسوم: العدد 775