الهجمات العشوائية على المدنيين
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
بموجب القانون الدولي الإنساني، يتمتع المدنيون والأعيان المدنية بالحماية من التعرض لأي هجوم، وأطراف النزاع ملزمون بعدم استهداف المواقع غير العسكرية، وتحظر الهجمات المباشرة على المدنيين والهجمات العشوائية التي لا تمييز بين المدنيين والمقاتلين، وتحظر أيضا الهجمات التي يتوقع أن تلحق خسائر عرضية في أرواح المدنيين أو إصابات بين المدنيين، أو تضر الأعيان المدنية على نحو مفرط مقارنة بالميزة العسكرية المباشرة المتوقعة، والهجمات التي تخترق تلك المعايير ترقى إلى مستوى جرام حرب؛ يمكن محاكمة مرتكبيها أمام المحكمة الجنائية الدولية.
تُعرف (الهجمات العشوائية) بأنها تلك (الهجمات التي لا تميز بين العسكريين والمدنيين، والتي من شـــأنها أن تحـــدث خســـائر مفرطـــة بـــين الســـكان المـــدنيين.) وفي تعريف آخر لـ (الهجمات العشوائية) هي تلك (الهجمات التي لا توجه إلى هدف عسكري محدد، والتي تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن حصر آثارها، ومن ثم فإن من شأنها أن تصيب الأهداف العسكرية أو الأشخاص المدنيين أو الأعيان المدنية دون تمييز).
ويعرّفها البند (ب) من المادة (51 فقرة 5) من البرتوكول الأول الإضافي، على الشكل الآتي: (الهجوم الذي يمكن أن يتوقّع منه أن يسبّب خسارة في أرواح المدنيين أو إصابة بهم أو أضرارًا بالأعيان المدنية، أو أن يُحدث خلطًا من هذه الخسائر والأضرار، يُفرط في تجاوز ما ينتظر أن يسفر عن هذا الهجوم من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة).
ومن أمثلة الهجمات العشوائية تلك الهجمات التي "لا توجه إلى هدف عسكري محدد"، أو التي تستخدم وسيلة قتالية "لا يمكن توجيهها إلى هدف عسكري محدد". ومن صور الهجمات العشوائية أيضا الهجوم الذي يخالف مبدأ التناسب لأنه "يمكن أن يتوقع منه أن يسبب خسارة في أرواح المدنيين أو إصابة بهم أو أضرارا بالأعيان المدنية،... [مما] يفرط في تجاوز ما ينتظر أن يسفر عنه ذلك الهجوم من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة".
وقد عدّ البروتوكول الأول من قبيل الهجمات العشوائية:
1. الهجوم قصفاً بالقنابل، أياً كانت الطرق والوسائل التي تعالج عدداً من الأهداف العسكرية الواضحة والمتباعدة، والمميزة عن بعضها البعض الآخر، والواقعة في مدينة أو بلدة أو قرية أو منطقة أخرى، تضم تركّزاً من المدنيين أو الأعيان المدنية على أنها هدف عسكري واحد.
2. الهجوم الذي يمكن أن يتوقع منه أن يسبب خسارة في أرواح المدنيين، أو إصابة بهم، أو إضراراً بالأعيان المدنية. أو أن يحدث خلطاً من هذه الخسائر والأضرار يفرط في تجاوز ما ينتظر أن يسفر عنه ذلك الهجوم من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة.
غالبا ما يكون من الصعب تحديد ما إذا كان هجوم ما عشوائيا وتحديد الطرف المسؤول عنه، بيد أن المعلومات المتاحة تشير إلى وجود نمط من الهجمات تستخدم فيها أسلحة غير دقيقة في مناطق سكنية مكتظة بالسكان، وهي عوامل قد تصل مجتمعة إلى مستوى الهجمات العشوائية، فالأسلحة غير الدقيقة، أو التي تترك آثارا واسعة النطاق، قد تكون غير ملائمة لمهاجمة اهداف عسكرية تقع في مناطق مكتظة بالسكان والألغام والفخاخ المتفجرة والمتفجرات من مخلفات الحرب هي أيضا ذات طبيعة عشوائية.
وفي كل الأحوال، سواء استطعنا تحديد ما يمكن تسميته بالهجمات العشوائية على المدنيين أم لا، فانه يمكن القول إن تلك القواعد الإنسانية في النزاعات المسلحة كانت قابلة للتطبيق في النزاعات الدولية المسلحة، والتي تنشب -عادة- على حدود دولتين أو أكثر، وتقتصر مساحتها الحربية على تلك المناطق، وتصيب بعض المدنيين الساكنين في المناطق الحدودية بالضرورة، إلا أن الحروب والنزاعات المسلحة الحديثة ليست كذلك اليوم. ومحاولة نقل القواعد الإنسانية المطبقة في الحروب الدولية إلى النزاعات غير الدولية هي محاولة لم يكتب لها النجاح دائما.
فلم تعد الحدود الدولية ساحة للحروب والنزاعات المسلحة، كما لم تعد آثار تلك الحروب تقتصر على المناطق الحدودية المتاخمة، ولا على سكان تلك المناطق، بل أضحت المناطق السكنية والسكان المدنيون عموما ساحة مكشوفة لشن أعمال العنف الهجومية والدفاعية الموجه ضد الخصوم؛ وذلك لسببين أساسيين: الأول: توسع نطاق النزاعات المسلحة غير الدولية؛ بسبب صراعات داخلية مدعومة -في الغالب- من دول أخرى، تؤيد هذا الطرف أو ذلك. والثاني: هو التطور التكنولوجي للأسلحة الحربية، التي تتيح الوصول إلى أي منطقة يحتمي بها العدو.
إن العلامة البارزة للنزاعات المسلحة غير الدولية، والتي يمكن تسميتها بـ (حروب المدن) هي أن المدن جميعها بلا استثناء أضحت ساحة حربية للأطراف المقاتلة، وأن شن هجمات عشوائية على المناطق السكنية، وعلى المدنيين هو جزء لا يتجزأ من تلك النزاعات؛ ذلك لأن المقاتلين يتواجدون في تلك المناطق ويتحصنون فيها، بل بعض المدنيين أضحوا بحكم النزاع جزء من هذا الفصيل المقاتل أو ذلك، مضافا إلى الاحتماء بالمدنيين كدروع بشرية للحد من هجمات العدو.
هذا ناهيك عن أن الهجمـات العـشوائية وغـير المتناسـبة، في النزاعات غير الدولية، بمـا في ذلك الغارات الجوية، والقصف المـدفعي، والقـصف بقـذائف الهـاون، والـسيارات المفخخـة في المنـاطق المأهولـة بالـسكان، تؤدي بشكل مستمر إلى وقـوع أعـداد كـبيرة مـن القتلـى والجرحـى في صـفوف المـدنيين والتـشريد القـسري الجمـاعي، وإلى تدمير البنية التحتية المدنية، مما يؤثر بشكل خاص على المرافق الصحية، وشبكات المياه، والأسواق، ودور العبادة، والمدارس. فتزداد الفوضى وتتعقد الأمور أكثر، وهي قضايا ربما لا تظهر جليا في النزاعات الدولية ذات الأطراف الواضحة، والمساحة المحددة، والأسلحة المعروفة.
تأسيسا على ذلك، فإن القول بانطباق تلك القواعد والمبادئ الإنسانية على النزاعات الداخلية، والدعوة إلى التزام الأطراف المتحاربة بها هو قول لا يعبر عن الواقع، كما هو، بل هو مجرد تمنيات وشعارات؛ تشدق بها المجتمع الدولي في محاولة للحيلولة دون توسع نطاق الحروب الداخلية التي تمس المواطنين المدنيين والأعيان المدنية بشكل مباشر.
ففي الغالب، أن النزاعات الداخلية والتي تتخذ من المدن ساحة لها، يستحيل أن تتقيد بتلك القواعد أو تراعيها كحد أدنى؛ لان المتحاربين لا يجدون بدا من اللجوء إلى الهجمات العشوائية بين الحين والآخر، لتحقيق النصر أو لرد العدو. فالمدن والمدنيون كلهم معرضون لتلك الهجمات، بل هم مقصودون بالذات، مادامت حدود المعارك بين الأطراف المقاتلة ليست محددة بعلامات ما. ومادام المدنيون هم فرس الرهان في رد العدو عن تحقيق مبتغاه.
هذا بالإضافة إلى الصعوبة البالغة في تحديد الأطراف التي لا تتخذ التدابير الوقائية لعدم إصابة السكان المدنيين أو تخرق تلك القواعد، بقصد تغيير المعادلة في المعركة. وعليه، يكون من المستحيل محاسبة قيادات الأطراف المتحاربة على جرائمهم بحق المدنيين مما يمنح تلك القيادات حافزا آخرا على الاستمرار بتلك النزاعات، وارتكاب المزيد من الانتهاكات فيها.
مما لا شك فيه أبدا، أن المجتمع الدولي، بكل مؤسساتها وقوانينه وإجراءاته وبرامجه، لم يتمكن من التعامل بشكل جدي ومثمر مع النزاعات الداخلية المسلحة، والتي عادة ما تكون في المدن المكتظة بالسكان، لا سيما تلك النزاعات التي تكون الدولة الشرعية أحد أطرافها، وتكون الجماعات المسلحة المعارضة الطرف الآخر، كما في العراق وسوريا، أو تلك النزاعات التي تكون الجماعات المسلحة هي أطرافها، بعد أن أسقطت الحكومة الشرعية، وفقدت قدرتها على السيطرة، كما في ليبيا. واليمن، حيث ظلت القوانين الإنسانية والقرارات الأممية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العمومية حبرا على ورق، دون أن تقدم حلولا واقعية لفض تلك النزاعات أو للحد من تأثيرها المتواصل على السكان المدنيين والأعيان المدنية.
في الواقع، أن النزاعات غير الدولية أو الحروب الداخلية أو حروب المدن هي النزاعات الأكثر شيوعا بعد تراجع واضح أمام النزاعات الدولية، وهي تعد تحديا قائما ومثيرا للجدل لا يمكن السيطرة عليه أو التنبؤ بنتائجه الوخيمة على المجتمع الدولي والمجتمعات المحلية التي تخوض غماره، وآثارها لا تقتصر عادة على ضحاياها الفعليين والبيئة التي احتضنتها بل تتعدها إلى مستقبل الأجيال القادمة.
بناء على ما تقدم، فإن المجتمع الدولي مدعو أكثر من ذي قبل إلى إيلاء مسألة الحروب والنزاعات الداخلية اهتماما واعيا قادرا على التأثير في مجرياتها وأحداثها، والتقليل من آثارها الفعلية والمستقبلية، وذلك من خلال ما يأتي:
1- تشريع قوانين إنسانية بشأن الصراعات والنزاعات الداخلية خاصة، آخذة بنظر الاعتبار ظروفها وأطرافها المحتملين، والتي يمكن أن ترسم بشكل واضح مسؤوليات الأطراف المتحاربة وحقوقها، وما ينبغي أن تقوم به مؤسسات المجتمع الدولي لوقف تلك النزاعات أو الحد منها.
2- وضع إجراءات وآليات دولية واقعية، والتي يمكن أن تضمن فض تلك النزاعات المسلحة في وقت قصير، أو تقلل من تأثيرها على السكان المدنيين والأعيان المدنية إلى حد ما دون ترك القرار للأطراف المتحاربة.
3- التأكيد على حظر استخدام الأسلحة، العشوائية الأثر، والمعاقبة عليها، كونها تصيب المقاتلين وغير المقاتلين على حد سواء، من دون تمييز فيما بينهم، وتصيب أيضًا الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ولا يمكن السيطرة على آثارها. وذلك من أجل تأمين احترام السكان المدنيين والأعيان المدنية وحمايته.
4- حث المجتمعات المحلية على نبذ الصراعات الداخلية فيما بينها، ودعوتها إلى اعتماد مبادئ الحوار والتعايش السلمي، على وفق برامج تثقيفية واجتماعية تعزز الأمن المجتمعي، لاسيما في المناطق السكانية المعرضة لتلك النزاعات، لأسباب عرقية أو دينية أو مذهبية.
5- لا يجب التهاون في محاسبة منتهكي حقوق الإنسان في النزاعات المسلحة، أطراف داخلية كانت أو خارجية، في كل الأحوال، سواء في محاكم وطنية أو دولية، لأن التهاون من شأنه، أن يوحي للمجرمين بارتكاب المزيد من تلك الانتهاكات، مازالوا بعدين عن المحاسبة القضائية.
وسوم: العدد 776