الفَهم الاقتصادي لتطوير البناء التحتي

د. أحمد ابريهي علي

مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

يتناول هذا المقال اطارا مفاهيميا لتطوير البناء التحتي في سياق الاستثمار بالمعنى الاقتصادي الكلي، بيد ان الهدف من هذه المقاربة يبقى عمليا، في محاولة البحث عن بديل للترتيبات الحالية لإدارة برامج الاستثمار ومهمات البناء التحتي التي لم يكتب لها النجاح ويمكن القول انها منيت بالفشل. وهذه المقالة ليست منقطعة ولا هي مكتفية ذاتيا بل لها صلة بالكثير من الدراسات السابقة.

رأس المال الوطني والبناء التحتي:

 على المستوى التجميعي، وبالمعنى الاقتصادي الكلي، يُعرّف رأس المال أو خزين رأس المال Capital Stock بأنه مجموع الموجودات (الأصول) Assets المتراكمة للمُشارِكة في توليد السلع والخدمات في بلد ما. أما رأس المال الثابت فهو الموجودات، تلك، مستبعدا منها مخزونات السلع، تامة الصنع ونصف المصنعة والمواد الأولية. وتسمى الإضافة اليه تكوين رأس المال الثابت Fixed Capital Formation، وهنا من المفيد التمييز بين اجمالي تكوين رأس المال الثابت والصافي منه والفرق بينهما هو الاندثار، أي ان وظيفة التكوين الرأسمالي تعويض المندثر والاضافة الصافية. ونشير الى ان تكوين رأس المال على المستوى الوطني هو الاستثمار وأحيانا يقال الاستثمار الحقيقي وذلك تمييزا له عن الاستثمار المالي. وما دمنا في إطار التحليل الاقتصادي الكلي فإن تكوين رأس المال الثابت هو الاستثمار الثابت والمقصود منه الإضافة الى الموجودات العينية المُنتجِة للسلع والخدمات.

 والموجودات (الأصول) التي تؤلف رأس المال الثابت: هي ابنية وإنشآءات، ومكائن ومعامل ومعدات انتاجية وما اليها، والموجودات الأخرى في وحدات الاعمال السلعية والخدمية، والسيارات ذات الاستخدام غير الشخصي، وكل ما تتضمنه الميزانيات العمومية، الفعلية والمفترضة من موجودات لكافة وحدات الأعمال، عدا النقود والخزين السلعي والأصول المالية والأرض وعناصر الثروة الأخرى غير المُنتَجَة. ودائما وابدا ثمة تناسب بين رأس المال الثابت والناتج المحلي او الدخل القومي، وتفيد بيانات المقارنة الدولية ان رأس المال الثابت يتراوح بالمتوسط وللأمد البعيد بين 3 الى 4 امثال الناتج المحلي. ومن تجربة محاكاة للاقتصاد العراقي (اجراها الكاتب) يمكن تقدير رأس المال الثابت بحوالي 3.4 أمثال الناتج المحلي الصافي، او 340 بالمائة منه، للعقدين القادمين مع مستوى متوسط من الكفاءة في الاستثمار والتشغيل.

 وإذا كان رأس المال الثابت يُعيّن الطاقة الإنتاجية معرّفة بالناتج الأقصى فإن الناتج المحلي بدوره يقيّد مسار تطور رأس المال الثابت، لأن الأخير يزداد بمقدار تكوين رأس المال الثابت الذي هو جزء من الناتج (الدخل) الذي تنتظره استخدامات اخرى وهي الاستهلاك الخاص والاستهلاك الحكومي ومقدار منه يضاف الى المخزون السلعي. ولهذا السبب نجد ان متوسط اجمالي تكوين رأس المال الثابت من الناتج المحلي في العالم حوالي 23 بالمائة، لكنه يتفاوت فقد تجاوز 30 بالمائة من الناتج في تجارب التنمية الناجحة شرق وجنوب شرق اسيا وأكثر من 40 بالمائة في الصين. وفي العراق يقدر اجمالي تكوين رأس المال الثابت المطلوب، بالمتوسط السنوي، بنسبة 36 بالمائة من الناتج في الاقتصاد عدا النفط الخام، ويصل 27 بالمائة من الناتج المحلي لكل الاقتصاد، وذلك لتنمية الناتج من غير النفط الخام بمعدل سنوي 8.04 بالمائة ومجموع الناتج بضمنه النفط الخام بمعدل 6.81 بالمائة سنويا حتى عام 2040 (سيناريو النمو الذي أعده الكاتب).

 ويتضمن اجمالي تكوين رأس المال الثابت، المبين آنفا، تعويض الإندثارات التي تقدر سنويا بنسبة 4 بالمائة من رأس المال الثابت وتعادل تقريبا 12 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. كما ان تعويضات المندثر من البناء التحتي والإضافة الصافية اليه يشكلان جزءا من تكوين رأس المال الثابت المحلي الإجمالي وسوف يتضح نطاق مقداره في العراق.

 مكونات البناء التحتي وفجوة الطلب او الاحتياجات:

 يفيد تعبير البناء التحتي Infrastructure معنى القاعدة التي يؤسَس عليها، في اللغة، ويستخدم على نطاق واسع بهذه الدلالة. وكانت دراسات التنمية تصنف رأس المال الى مُنتِج مباشرة ومُنتِج بصورة غير مباشرة Indirect Productive Capital وهذا الصنف الثاني تسميه بناء تحتي. فمثلا شبكات الارواء والمبازل بناء تحتي، اما المكننة الزراعية وابنية الانتاج الحيواني وزراعة البساتين فهذه تندرج ضمن رأس المال المنتج مباشرة؛ وفي قطاع النقل، الطريق والجسر بناء تحتي اما الشاحنات وحافلات نقل الركاب فهذه رأس مال انتاجي مباشرة. ثم اخذ المفهوم تدريجيا معنى الأنشطة التي تزود جميع القطاعات الأخرى بمدخلات اساسية، مثل الكهرباء وشبكات المياه، او رأس المال الذي يوفر الخدمات الأساسية التي لا بد منها لأنشطة الانتاج والتجارة عموما والحياة الحضرية وحركة السكان وتواصلهم على المستوى المحلي والوطني والاتصال بالعالم الخارجي. والأمثلة التي وردت آنفا: شبكة الارواء والطريق والكهرباء وما اليها توصف بالبناء التحتي الاقتصادي في مقابل بناء تحتي اجتماعي.

 وفي الوقت الحاضر يشمل البناء التحتي عرفا: شبكات الري والمبازل واستصلاح التربة، والسدود والخزانات ومشيدات تنظيم وادارة موارد المياه؛ والطرق والجسور والموانئ والمطارات وسكك الحديد؛ وشبكات تجهيز مياه الشرب، وانظمة الصرف الصحي للمدن؛ والكهرباء وتوليدها ونقلها وتوزيعها. وايضا يضاف الى ذلك ما يسمى البناء التحتي الاجتماعي الذي يضم ابنية التعليم والصحة ودور الرعاية الاجتماعية، وقد تندرج ضمن مفهوم البناء التحتي جميع ابنية الإدارة الحكومية اضافة على ما تقدم. وفي كل الأحوال وبغض النظر عن حدود تعريف المفهوم، واسعة او ضيقة، يبقى متحركا ضمن رأس المال الثابت الوطني وهو جزء منه.

 ومن زاوية اخرى تتولى الحكومات عادة مهمات البناء التحتي لأنه رأسمال يُنتج خدمة عامة تسمى اصطلاحا سلعة عامة Public Good متاحة للجميع تبعا لطبيعتها، أي ضمن الاحتياجات المشتركة لأنشطة الاقتصاد وحياة الناس، ولذلك يتحمل المجتمع تكاليف انتاجها والذي تنوب عنه الدولة. وقد لا ينطبق هذا التصور النظري على جميع مكونات البناء التحتي بنفس الدرجة، مع واقع تفاوت السكان وأنشطة الإنتاج في الانتفاع من هذا البناء التحتي أو ذاك. وقد تناولت الدراسات الحديثة للتنمية البشرية، والاقتصاد الاجتماعي، البناء التحتي ضمن مقاييس التفاوت مثل توفر الكهرباء ومياه الشرب والصرف الصحي والخدمات الأخرى بما فيها المسافة لأقرب مدرسة او مركز صحي وسواها. وبالفعل يوجد ارتباط وثيق بين مستويات الرفاه والنشاط الاقتصادي وجاذبية المناطق للاستثمار مع وفرة ونوعية البناء التحتي.

 ومما تقدم يتبين ان جزءا كبيرا من رأس المال الثابت الوطني هو البناء التحتي ويمكن تصور حجم الجهد الاستثماري، أي تكوين رأس المال الثابت، المطلوب لتعويض المندثر من البناء التحتي والإضافة اليه. وباستثناء منظومة الكهرباء فإن كل البناء التحتي، تقريبا، هو ابنية وإنشاءات، وان أكثر من 60 بالمائة من كل رأس المال الثابت ابنية وإنشآءات في العراق واغلب دول العالم، وبالمثل أكثر من 60 بالمائة من تكوين رأس المال الثابت في الأبنية والإنشاءات، وذلك كي نقترب من الأهمية العالية لقطاع البناء والتشييد والفروع الانتاجية المرتبطة به ومدخلاته المستوردة في عمليات تكوين رأس المال وتطوير البناء التحتي.

 خدمات البناء التحتي ليست سوقية، اذ لا يمكن، مثلا، تصور وجود عرض وطلب لخدمة المرور على الطريق بين كربلاء وبغداد على مدار ساعات الليل والنهار، ويتغير السعر من اجل التوازن بين الطلب على الخدمة وعرضها المتمثل بسعة الطريق، وعندما يرتفع السعر فوق مستوى معين ترتفع العوائد المتوقعة للاستثمار فتضاف خطوط جديدة... وهكذا. ولذا فإن تعبير الحاجة هنا أقرب الى واقع الحال من الطلب، والاحتياجات ايضا قابلة للتقدير، وعموما ثمة اتفاق على عجز البناء التحتي في العراق في اغلب اصنافه. بيد ان مرجعية تقدير العجز تختلف من مجال لآخر.

احيانا يعرّف العجز بالفرق بين المرغوب، وهو ما يتطلع اليه الناس قياسا بالدول المتطورة، وواقع الحال؛ او بين السعات من البناء التحتي المناسبة لمستويات اعلى من النشاط الاقتصادي يطمح العراق بالوصول اليها والموجود الفعلي؛ والى جانب تلك المقاربات هناك العجز بمضمون قصور البناء التحتي عن تلبية الاحتياجات الفعلية الملحة للمجتمع في حياته اليومية، ومن أبرز امثلته عدم كفاية ابنية التعليم، والطرق داخل المدن وشبكة الصرف الصحي. وتلتقي عند عجز الكهرباء جميع المقاربات، اما عدم كفاية شبكات الارواء ومنشآءات تنظيم المياه والمبازل فهو بمعيار اقتصادي في المقام الأول... وهكذا.

ولقد أثّر نقص الكهرباء في تحجيم الاستثمار الصناعي بل وحتى تشغيل الطاقات الإنتاجية للكثير من المصانع، وكانت من اسباب إضاعة فرص رفاه للأسرة العراقية. ويعتمد تقدير الحاجة الى الكهرباء ليس على الفجوة في الوضع الحالي بل المسار المنتظر او المخطط للاقتصاد بدلالة النمو الكلي والبنية القطاعية للإنتاج، وإذا افترضنا المباشرة قريبا بتنمية اقتصادية، معجلة وموسعة قوامها التصنيع، فالعراق يحتاج بين ثلاثة الى اربعة امثال طاقة التوليد والنقل والتوزيع الحالية حوالي عام 2040 او بما لا يقل عن 35 ألف ميغاواط طاقة توليد، هذا للاقتراب من تصور النطاق الكمي للحاجة Order of Magnitude.

 ويعود العجز المتراكم للأبنية المدرسية اساسا الى تعثر البناء لمدة طويلة الى جانب نمو السكان المرتفع فتكون الأفواج الداخلة الى مراحل التعليم، كافة، أزيد من الأفواج الخارجة منها ما يتطلب اعدادا متزايدة من الأبنية الجديدة لمواجهة متطلبات النمو السكاني، وعند اضافة العجز المتراكم والاندثار تتسع الفجوة سنة بعد أخرى.

 وفي شبكات الصرف الصحي فإن العجز كان واسعا في الوضع الابتدائي حيث لم تكن التغطية تتجاوز 30 بالمائة عام 1997، والتوسع في الشبكات أدنى وتيرة من النمو السكني. ولذلك نلاحظ الكثير من الأحياء السكنية الجديدة تفتقر الى هذه الخدمات ما يقلل من قيمة الاستثمار في السكن وخاصة عندما تكون الطرق، ايضا، ليست معبدة. وفي "العشوائيات" قد لا تصل حتى خدمات مياه الشرب. تلك امثلة لاحتياجات نابعة من حجم السكان مثل التعليم، وانماط العيش في الزمن الحاضر اضافة على الوظيفة الاقتصادية للكهرباء والطرق وشبكات تصريف المياه... وغيرها من موجودات البناء التحتي ذات الوظائف الاقتصادية -الاجتماعية.

وفي قطاع الزراعة يتعذر الحفاظ على الرقعة الزراعية وزيادتها دون اعتماد برامج دائمة لتطوير شبكات الإرواء والمبازل واستصلاح التربة، وهي حاجة الى البناء التحتي مشتقة من فرص التنمية ومقتضياتها. وقد تتسع او تتقلص الرقعة القابلة للاستغلال اقتصاديا بدلالة العلاقة بين قيمة الغلة التي تعتمد على انتاجية وحدة المساحة من جهة وكلفة الزراعة من جهة اخرى. وتخضع برامج ومشاريع البناء التحتي في الزراعة الى التقييم ومن مدخلاته: التكاليف الرأسمالية للبناء التحتي اضافة على تكاليف الصيانة والتشغيل؛ وفي جانب العوائد الرقعة الزراعية الإضافية وزيادة معدل الفائض (الربح) لوحدة المساحة المزروعة. ومن جهة اخرى يتكرر الكلام عن مناطق صناعية مكتملة البناء التحتي للتشجيع على الاستثمار، بمعنى تهيئة مناطق مخدومة بالكهرباء والطرق المعبدة او سكك الحديد وشبكات المياه والصرف الصحي والاتصالات كي يمكن اقامة وتشغيل وحدات انتاج صناعي بمعدلات للعائد على الاستثمار مشجعة.

 عمليات تكوين رأس المال وتطوير البناء التحتي إقتصاديا:

 صار واضحا ان تكوين رأس المال هو تدفق Flow للحفاظ على رأس المال القائم Capital Stock وتنميته، وهذا التدفق هو الاستثمار. ولإدراك العملية بالضبط نتصور اقتصادا مغلقا او اقتصاد العالم بأكمله فإن الناتج السنوي (الدخل) هو قيمة المنتجات النهائية، وهي السلع والخدمات الاستهلاكية والاستثمارية، أي ان ناتج النظام الاقتصادي بمجموع عملياته هو ما يستهلك وما يستثمر. وهكذا يتبين ان تكوين رأس المال مرتبط وثيقا بالطاقة الانتاجية الكلية التي يعبر عنها الناتج المحلي. وربما كانت اكفأ منهجيات الربط بين النشاط الاستثماري ونظام الإنتاج الوطني عبر تقسيم الاقتصاد الى قطاعين: انتاج وسائل الإنتاج (أي تدفقات التكوين الرأسمالي) وانتاج وسائل الاستهلاك أي السلع والخدمات الاستهلاكية، وقد اعتمد الاقتصادي دومار هذا الأسلوب في نموذجه للنمو بقطاعين Two-Sector Growth Model، وهو النموذج الثاني لعام 1957 وليس النموذج الشائع هارود - دومار. ويقول انه اعادة صياغة لأفكار الاقتصادي الروسي فيلدمان في عشرينات القرن العشرين، بعد معالجته لأخطاء فنية، حسب قرائتي لدومار وما عرضه من مقتطفات، وطوّر تلك المحاولة الرائدة لتصبح نموذجه المشار اليه. لكن تصنيف النشاط الاقتصادي الى قطاعين كان معروفا قبل محاولة فيلدمان وقبل وبعد نموذج دومار الثاني. المهم ان كل النماذج التي تناولت النمو عبر تقسيم الاقتصاد الى قطاعين بينت بوضوح تام وبعلاقات كمية مُلهِمة ان تكوين رأس المال والنمو كلاهما يعتمدان على طاقة انتاج قطاع وسائل الإنتاج أي الطاقات الإنتاجية لجميع الأنشطة التي تسهم في انتاج مفردات التدفق الذي نسميه تكوين رأس المال. وقد يساعد وعي هذه الحقيقة الموضوعية كثيرا في تطوير تصميم وادارة برامج الاستثمار.

 بقي ان نشير الى شرط التوازن الكلي المتعلق بالاستثمار وهو ان الاستثمار دائما وابدا وبالتعريف يساوي الادخار مضافا اليه عجز العمليات الجارية الخارجية. أي ان تكوين رأس المال في العراق لا يتجاوز الادخار إلاّ بمقدار عجز الحساب الجاري الخارجي الممول بصافي تدفقات اجنبية داخلة، وهي بمقدار محدود عادة ومن هنا تظهر اهمية الادخار وحيوية مفهوم الادخار الذي يعرّف ايضا بأنه ذلك الجزء من الناتج (الدخل) غير المستهلك.

 المسألة واضحة لتسريع نمو الناتج المحلي يتطلب الأمر تسريع بناء طاقات انتاجية اضافية ما يعني زيادات متعاظمة في رأس المال ومنه البناء التحتي. وتلك الزيادات في رأس المال هي التكوين الرأسمالي السنوي. إذا لا بد من الاهتمام بجميع الأنشطة المنتجة لعناصر التكوين الرأسمالي بطاقاتها واشكالها التنظيمية وتقنياتها ومدخلاتها الأجنبية، وتطويرها بمنهج واضح وقصدية عالية، وبذلك نضمن تنامي متسارع في تكوين رأس المال ومنه نمو مستدام ومتسارع في رأس المال والبناء التحتي.

 أي الانتقال من المنهج الحالي الذي يعتمد جانب الطلب واداته الأنفاق الحكومي ويهمل جانب العرض وشروط الإنتاج نحو منهج بديل. وقوام هذا المنهج البديل الدورة الإيجابية الديناميكية التي تحتوي جانبي العرض والطلب وتتخذ من طاقة انتاج مفردات التكوين الرأسمالي منطلقا لها.

 وفي البداية سوف تعترض التقاليد المؤسسية هذا التحول ان لم يواجَه بالتهميش، وربما التسفيه، في الوقت الذي تتطلب مواجهة التحديات جهودا مضنية لإعادة قراءة وتكييف المعرفة الاقتصادية والمالية والإدارية، وبقصد انجاح بديل عن اساليب الإدارة الحالية لبرامج الاستثمار والتنمية لجني الثمار المرجوة. وان النكوص عن تحري بدائل عما جرى ويجري هو من جهة اخرى تكريس للفشل وتجذير ثقافة العمل المتساوقة معه.

 والانشطة المنتجة لمفردات تكوين رأس المال، بما فيها مدخلات تطوير البناء التحتي، هي: البناء والتشييد بأكمله، وفروع الصناعة التحويلية المجهزة لمدخلات البناء والتشييد والسلع الرأسمالية، والنقل، ووحدات التصميم والاستشارة الهندسية، وانشطة مساعدة، وقدرات تقنية، وقنوات استيراد... وثمة الكثير من التفاصيل وهي غاية في الأهمية. وتلك الأنشطة المنتجة، لمخلات التكوين، موجودة ضمن القطاع العام وفي القطاع الخاص ايضا.

 ومن جهة أخرى يطال التشخيص ايضا الصيغ التنظيمية التي زاول العراق من خلالها عملية تكوين رأس المال عموما وفي البناء التحتي خاصة. في الحكومة تتولى مشاريع البناء التحتي العديد من الدوائر والأقسام المشغولة بإعداد وثائق المشاريع والاعلان عنها واحالتها والأشراف على "التنفيذ". وهذه الدوائر والأقسام بما فيها اقسام عقود مقاولات المشاريع والتجهيزات أصبح الحكم على عدم كفاءتها لا يحتاج الى دليل، إجمالا، على الأقل، لضآلة الإنجازات.

وثمة الكثير من دلائل عدم الكفاءة، والتي اشير اليها في عدة مناسبات سابقة ومنها: ارتفاع التكاليف بدلالة المخصصات المالية وما انفق فوق المستويات التي توصف بانها معقولة ولو تقارن مع تكاليف معيارية يتضح مدى الهدر في الموارد؛ الانحرافات الملحوظة عن المواصفات والمقاييس المقبولة فنيا واحيانا انحرافات واسعة حتى عن الحد الأدنى من تلك المواصفات والمقاييس؛ استطالة مدة انجاز المشاريع ما يؤدي الى تراجع الجدوى بثبات اثر العوامل الأخرى، وايضا ثمة مشاريع انفقت عليها موارد وتوقف العمل عليها من مدة طويلة ما ادى الى تآكل وتداعي في الأقسام المنجزة سابقا، وأخرى لم يباشر بتنفيذها اصلا رغم تسديد دفعات اولية للشركة المقاولة.

 ومما أسهم في تراكم وتفاقم هذه السلبيات النقص الواضح في وحدات الرقابة الهندسية والكلفوية الميدانية والخبيرة في ادارة المشاريع. ومن الواضح ان هذا النسق ينتظر اعادة بناء شاملة بكيفيات تساعد عليها المعرفة المتخصصة والخبرة العراقية والدولية. ومن المطالب الملحة التقيد التام بمواصفات ومقاييس عالية، وتصاميم متقنة ومثلى، وفي كل الأحوال حساب تكاليف معيارية دقيقة لجميع مكونات المشاريع عموما والبناء التحتي بالذات.

 ونعود الى جانب العرض إذ بعد تحري الأنشطة المنتجة لعناصر الاستثمار والإحاطة بطاقاتها واوضاعها التقنية والإدارية تتطلب المعالجة الجذرية المباشرة بإعادة تنظيم شاملة. وهي قضية معقدة لا تتسع لها مقالة في الإطار المفاهيمي، ومن الممكن التساؤل مثلا، الا يمكن للحكومة المبادرة بإجراء مسح تقييمي شامل لجميع شركات المقاولات والوحدات الهندسية المشتغلة وذات القدرة على تطوير البناء التحتي وتنفيذ مشاريع البرنامج الاستثماري الحكومي. وتعبئة المؤهلين من المهندسين والفنيين والعمال المهرة من منتسبي الشركات المنحلة والمجمدة، والانتهاء الى تشكيل شركات مقتدرة لتعمل بكفاءة ونزاهة وبأفضل المناهج الحديثة لخدمة العراق في هذا المجال الحيوي.

ويساعد هذا التوجه على الانتفاع مما ينفق حاليا على تلك الشركات والوحدات والمنتسبين فتكون حصيلة النفقات الاضافية للمشاريع محدودة، وقد تنخفض تكاليف تطوير البناء التحتي جذريا في ظل ظروف مثلى أي عند تصميم العملية جيدا واستنادا الى حساب دقيق. وهناك الكثير من العمل في قطاع المقولات الخاص والاجنبي والفروع المجهزة للمحلات وقنوات الاستيراد. وخلاصة الإصلاح خفض التكاليف والارتقاء بالنوعية وهو المطلوب لأن الموارد محدودة وعجز البناء التحتي كبير، والعراق بحاجة ليست قابلة للتأجيل لرفع الجهد الاستثماري بالمعنى المبين في هذه الورقة الى مستويات غير مألوفة لتعويض الفرص الضائعة.

وسوم: العدد 782