نماذج صناع حرب الطرق في بلادنا
صدق من سمى آفة حوادث السير حرب طرق ، فهي بالفعل حرب باعتبار ما تخلفه من ضحايا أمواتا وجرحى و معطوبين أصحاب عاهات دائمة ، فضلا عن أيتام وأرامل ... كل ذلك تعبر عنه عبارة حرب الطرق . والحرب تطلق على الهلاك ، ولقد صار للطرق حروب منذ بدأ الإنسان يركب العربات ذات المحركات . ولم تكن من قبل للطرق حروب مثلها سوى ما يعترض المسافرين من مهالك أخرى بسبب خطورة المفاوز أو خطورة الوحوش الضارية أو خطورة قطاع الطرق.
ومعلوم أن الحروب تقاس ضراوتها بعدد ما تخلفه من ضحايا ، وحين يفوق عدد ضحايا حروب الطرق عدد ضحايا الصدامات المسلحة المعتادة كما هو الشأن في بلادنا ، فإن الأمر يكون في غاية الخطورة لأنه يتعلق بخسارة في الأرواح البشرية ، وهي خسارة لا تعوض لما تحظى به تلك الأرواح من تكريم عند خالقها عز وجل الذي صانها وحرم إزهاقها في باطل ،وشدد سبحانه وتعالى في ذلك تشديدا ، فجعل قتل النفس الواحدة بمثابة قتل الناس جميعا.
والحرب مشتقة من الحرب كما قال الشاعر أبو تمام ، والحرب ـ بتحريك الراء هو الضياع والخسارة ، ولا يوجد أفدح من خسارة وضياع الأرواح البشرية .وإذا كانت للحروب المألوفة أسبابها ومبرراتها ،فلا مبرر لحرب الطرق لأنه بإمكان الناس تنكبها إلا أنهم مع شديد الأسف لا يفعلون بل يوجد صناعها تماما كصناع الحروب المألوفة .
ومن نماذج صناع حرب الطرق في بلادنا نموذج الذين تستهويهم السرعة المفرطة ، ويجدون متعة لا مثيل لها وهم يطوون المسافات طيا ويفخرون ، ويتباهون بذلك . وغالبا ما يكون هؤلاء أصحاب عربات فاخرة لا يقبل كبرياؤهم وهم يمتطونها أن يجاريهم غيرهم في السير بعربات دونها صنفا . ولا يكاد هؤلاء يصادفون في طريقهم سيارات دون ما يركبون حتى تزعق أبواق عرباتهم، وتشع أضواؤها محذرة ومنذرة ليخلى لها الطريق وهي في أوج سرعتها المفرطة لأنه لا يليق بقدرها وقدر من يركبونها أن تخفف سرعتها لتسير خلف ما دونها قيمة وسرعة. ويخيل إلى من تزعق خلف سيارته أبواق تلك السيارات وتشع أضواؤها أن خلفه موكبا رسميا أو سيارة شرطة أو درك أو إسعاف أو إطفاء في حالة استعجال . وويل لمن لم يخل الطرق لهؤلاء ،ذلك أنه قد يسب ويشتم بأقبح السب والشتم ، وينعت بنعوت الحيوانات أقلها أن يعتبر حمارا فضلا عن لعنات تلحق والديه وأجداده ، وقد تقذف أمه في عرضها كما يقذف هو الآخر بنعت مشين . وهذا النموذج من السائقين في ازدياد مطرد مع ازدياد ظهور أحدث طراز وموديلات العربات التي لا تشاهد إلا مسرعة في الطرق السرعة الجنونية حتى أنه يصعب تبين من يركبها ، ويشكل على من يراها تسرع كأنها طائرات التمييز بين جنس من يسوقها أذكر هو أم أنثى ؟ ومشكل هذا النوع من السائقين أن طرق بلادنا لا تناسب السرعة التي يريدونها لسياراتهم ،فتكون النتيجة كارثية بحيث ينتحرون ، ويتسببون في إزهاق أرواح غيرهم من الأبرياء سواء كانوا مشاة أم راكبين . وغالبا ما يكون تعليق من يعاينون حوادث السيارة الفاخرة قولهم : " كان صاحبها يسرع " لأن المألوف أن تلك الأنواع لا تشاهد إلا مسرعة . ومضمار السرعة بالنسبة إليها الطرق السيارة ثم ما دونها ، ولا تسلم حتى الشوارع الكبرى في المناطق الحضرية من جنون سرعتها.
ومن النماذج التي تضرم نيران حرب الطرق بعض الأغرار المراهقين والمتهورين أثناء السياقة، وهم حاديثو عهد برخص السياقة يرون في إلصاق علامة 90 على عرباتهم إهانة وسبة ، ويعشقون المغامرة الخطيرة أثناء السياقة ، ويخرقون كل علامات وشارات المرور ، فلا يوقفهم ضوء أحمر ، و لا يمنعهم خط يمنع التجاوز ، بل يستهويهم التجاوز حتى في المنعرجات الخطيرة التي تمتنع فيها رؤية ما تخفيه من أخطار محدقة ، كما تستهويهم عملية كبح الفرامل بقوة لتسجيل آثار العجلات على الأرض ، ويرون ذلك مفخرة وفتحا مبينا ، وتكون النتيجة أيضا مؤسفة جدا ، ولا يعاين الناس حادثة غريبة إلا جزموا بأن وراءها غرا متهورا من الأغرار يكون ضحية ومعه ضحايا أبرياء ، ويقال إنه قد رحل عن الدنيا وهو في ريعان الشباب ، إلا أنه في قمة التهور .
ومن نماذج صناع حرب الطرق سائقو وسائل النقل العمومي حافلات وطاكسيات صغرى وكبرى داخل وخارج المدن ، فهؤلاء يعتقدون أنهم أمهر الناس سياقة ، ويحق لهم ما لا يحق لغيرهم من مخالفة قوانين السير من سرعة مفرطة ، وتجاوز غير مرخص وغير ذلك. وهمّ هؤلاء هو نقل أكبر عدد من الركاب لتحصيل أكبر رصيد من الربح، لهذا تلازمهم العجلة والسرعة دائما ، وهي مما تميز سياقتهم ، وتكثر حوادثهم ، ويكثر ضحاياهم حتى أن الناس كلما رأوا وسيلة نقل عمومية جزموا قطعا بأن صاحبها هو المذنب وإن لم يكن كذلك، لأنهم ألفوا رؤية الحوادث المميتة التي يكون أرباب عربات النقل العمومي مسؤولين عنها في الغالب . وكثيرا ما ينتحر هؤلاء، ويتسببون في قتل من يركب معهم . ولا يشعر من يركب معهم بأمان حتى تلمس قدماه الأرض، فيتنفس حينئذ الصعداء بعد كابوس مزعج يعيشه وهو مسافر مع هذا النموذج الخطير من صناع حرب الطرق .
ومن نماذج صناع هذه الحرب المدمرة أصحاب عربات مهترئة أكل عليها الدهر وشرب ، ولم تعد صالحة للسير في الطرق بسبب كثرة ما اعتراها من عيوب قد تغض مراكز الفحص التقني الطرف عنها مساهمة بذلك في حرب الطرق بنصيبها . وتلك العربات تشكل خطرا على أصحابها قبل غيرهم ،وعلى غيرهم . وغالبا ما يقول الناس عند رؤية حادثة فيها مثل تلك العربات إن سبب الحادثة هو عطب فيها لا محالة .
ومن نماذج صناع حرب الطرق أيضا أصحاب العربات العملاقة المخصصة للشحن ،فهؤلاء يرون أنهم فوق غيرهم لأنهم يمتطون تلك الشاحنات الضخمة ، وأن لهم حقوق ليست لغيرهم في استعمال الطرق ، وغالبا ما يتسببون في حوادث مميتة يكثر ضحاياها من ركاب العربات الصغرى . وعند وقوع حادثة فيها مثل تلك الشاحنات تتبادر إلى ذهن من يعاينها أن أصحابها هم المسؤولون عنها قطعا.
ومن نماذج صناع حرب الطرق أيضا الدراجون الذين يمتطون مختلف أنواع الدراجات الهوائية والنارية بمختلف أحجامها ، فهؤلاء أيضا يتصرفون وكأنهم فوق قوانين السير لا توقفهم إشارة وقوف ، ولا تمنعهم إشارة منع ، ويستوي عندهم السير يمنة ويسرة ، وغالبا ما ينتحرون بسبب تهورهم في السير ، ويتسببون في قتل من يركب خلفهم ، كما أنهم أكثر من يصيبون الراجلين إصابات تكون مميتة أو مخلفة لعاهات دائمة .
ومن نماذج صناع حرب الطرق الراجلون الذين يعتبرون أنهم مرفوع عنهم القلم ، وأنهم دون الراكبين أحق بالسير في الشوارع والطرق كما يشاءون، وكما يحلو لهم ، وهؤلاء أيضا غالبا ما ينتحرون ، وقد يتسببون في إصابة غيرهم من الراكبين الذين يحاولون تجنب صدمهم، فيصطدمون بدورهم مع عربات أخرى أو غيرها مما يعترض طريقهم أو يخرجون عن مسارهم ،وقد تهوي بهم عرباتهم في مواطن مهلكة ، وقد ينجو من تنكبوا صدمهم من الراجلين بينما يهلكون هم . والغريب أن الناس عندنا حين يرون راجلا ملقى على الأرض بسبب حادثة سير يجزمون قطعا أنه ضحية ،وإن لم يكن كذلك لمجرد أنه كان يمشي على قدميه دون التحقق من كيفية سيره حيث أصيب .
وباستعراض هذه النماذج من صناع حرب الطرق يتبن لنا أننا جميعا نساهم فيها ،وإن تفاوتت طرق مساهمتها فيها ، والذين يجمعنا جميعا ، ونحن نصنع هذه الحرب القذرة صناعة هو أننا جميعا من ضحاياها خصوصا وقد صارت نسبة ضحاياها في بلادنا تفوق نسبة ضحاياها في دول عظمى ، بل صارت تفوق حتى نسبة الحروب الدامية . ولقد دأبت وسائل الإعلام عندنا الإعلان أسبوعيا أن عدد ضحايا حرب الطرق أمواتا ومعطوبين ، وإذا جمعت الإحصائيات سنويا كانت النتيجة صادمة جدا .
فمتى ستنشأ لدينا ثقافة سير سوية متزنة ، ومتى سنبلغ درجة نضج الوعي بخطورة حرب مجانية بإمكاننا تجنبها ؟ ولا شك أن الكثير منا لا يبالي بأن القتل العمد الذي يعاقب عنه الله عز وجل في الآخرة بعذاب الجحيم تعد حوادث السير من ضمنه، ذلك أنه من تعمد حدوثها بمخالفة قوانين السير فقتل غيره، كان قتله قتلا عمدا يوجب له العذاب الأبدي .
وسوم: العدد 783