ماليزيا ..عودة «أنور إبراهيم»
مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية
ملخص
سيظل اسم أنور إبراهيم السياسي الماليزي البارز محفورا في تاريخ الحركة الإسلامية كأول إسلامي يخوض تجربة الحكم ويصل إلي أعلي هرم السلطة ثم يتم عزله بطريقة دراماتيكية ليقاسي السجون ردحا من الزمان ، وها هو يعود إلي السلطة مرة أخري علي يد من عزلوه . فبفوزه في الانتخابات التكميلية لعضوية البرلمان التي أجريت مؤخرا..يبدأ أنور إبراهيم ( 71 عاما ) أولى خطواته نحو استلام رئاسة الحكومة الماليزية من مهاتير محمد ( 90 عاما ) الفائز في انتخابات 9 مايو / أيار الماضي على رأس ائتلاف مع حزب أنور إبراهيم "عدالة الشعب الماليزى ". وقد تعهد مهاتير عقب الفوز في الانتخابات بتسليم السلطة ( اقتساما ) إلى أنور إبراهيم "خلال سنوات قليلة" دون تحديد موعد لهذا التسليم.
مقدمة:
لقد سبق هذه الانتخابات فتح أبواب العمل السياسي التي كانت مغلقة أمام أنور إبراهيم بعفو ملكي تم بمقتضاه الإفراج عنه في مايو / أيار الماضي حيث كان يقضي عقوبة بالسجن منذ 2015م بتهم غير أخلاقية ملفقة ، وصفها إبراهيم بأنها سياسية ، ولم تصدقها جماهير الشعب الماليزي ، وذلك واضح في تصويت تلك الجماهير له في الانتخابات وهو داخل السجن .ومنذ التحاق أنور إبراهيم (المولود في 10 أغسطس 1947م) بحزب الاتحاد القومي الماليزي ( أمنو ) عام 1982م بعد دعوة مهاتير له بالانضمام إليه، عمل أنور إلي جوار مهاتير ستة عشر عاما متواصلة قويت خلالها العلاقة بينهما بصورة كبيرة .. كانت علاقة الوالد بولده والأستاذ بأحب تلامذته ، تولي خلالها أنور إبراهيم عدة مواقع وزارية حتي أصبح في حكومة مهاتير الأولي (1981 ـ 2003م ) نائبا أول لرئيس الوزراء ووزيرا للمالية وهو موقع الرجل الثاني في البلاد.
بداية الخلاف .. حقبة مريرة
وبات البروفيسور أنور إبراهيم دارس علم الاجتماع في الجامعة المالاوية قاب قوسين أو أدني من حكم ماليزيا حتي عام 1997م وهو العام الذي ضربت فيه منطقة جنوب شرق آسيا أزمة اقتصادية عاصفة، حينها دب خلاف بين الرجلين علي طريقة حكم البلاد .
وانتهزت القوى المتربصة والحانقة على سرعة صعود أنور إبراهيم وتنامي شعبيته، والخائفة من اعتلائه الحكم على مصالحها ، فعملت ليل نهار من أجل تعميق الفتنة بين أنور ومهاتير من جانب، ومن جانب آخر لحبك سلسلة من التهم غير الأخلاقية وإلصاقها بأنور، سعياً لعزله وفضيحته وإسقاطه من عيون الجماهير، ثم إدخاله السجن غير مأسوف عليه، وقد نجحت تلك القوى المعادية فيما خططت ، إذ حدثت الفتنة بالفعل، وفي عام 1998م الذي صنفته فيه مجلة " نيوزويك" كرجل أول في شرق آسيا ، تم عزل أنور إبراهيم، وإدخاله السجن يوم 20/9/1998م ، لكن ذلك لم ينجح في إسقاط الرجل من قلوب الناس وهم الذين وثقوا به وأحبوه، ولم ينجح كذلك في هز كيان أسرته القوي، أو إلحاق الهزيمة النفسية به... فقد دخل الرجل السجن وواجه وأسرته أبشع حملة تضليل وتشويه لسيرته وسمعته، وواجه الموت داخل زنزانته، وتدهورت صحته حتى أصبح قعيد كرسي متحرك مرتدياً دعامة العنق، و أصيب بانزلاق غضروفي أكثر من مرة، وفي نفس الوقت فإن أسرته لم تسلم من المنغصات الأمنية، حيث داهمت قوات الأمن المنزل أكثر من مرة.. لكن ذلك كله لم يفتّ في عضد الرجل ولم يهزم أسرته، وإنما ازداد تماسكاً وقوة على منازلة خصومه سياسيا ، وإصراراً على مواصلة طريق الإصلاح دون هوادة أو خوف، وكانت أسرته على نفس المستوى من الإصرار علي مواصلة طريق الإصلاح، ففي فترة عزله سياسياً بادرت زوجته الدكتورة " وان عزيزة " إلى تجميع أنصاره وقيادتهم عبر تأسيس حزب جديد «حزب العدالة الوطني»، ورغم كل المضايقات والتضييق الذي واجهه ذلك الحزب، وواجهته د. «وان عزيزة» ، إلا أن الحزب شق طريقه لإثبات وجوده ، وتصف «وان عزيزة» ذلك قائلة : «لقد فعل الحزب الحاكم كل ما في وسعه لوقف مسيرتنا لاعتقاده بأننا نشكل خطراً سياسياً عليه...».
مشكلة أنور إبراهيم الكبرى:
كانت مشكلة أنور إبراهيم الأساسية مع طبقة الفساد، فقد ذكر أحد مساعديه خلال محاكمته أن «أنور يمتلك في حوزته صناديق عدة مليئة بالأوراق التي تثبت فساد وزراء في الحكومة»، وقد كشف أنور بالفعل جانباً من فساد وزيرة التجارة والصناعة في ذلك الوقت «رفيدة عزيز»، ووزير المالية الذي خلف أنور وهو «دائم زين الدين» أحد أثرياء ماليزيا.
ومن جانب آخر، فقد كان أنور يمثل مشكلة كبرى لعبدالله بدوي رئيس الوزراء الذي خلف مهاتير محمد الذي خلف مهاتير محمد ... تقول «وان عزيزة» زوجة أنور: «إن بدوي هو أقدم سياسياً في «حزب أمنو» الحاكم من أنور الذي جاء بعده ، لكن نجم أنور صعد فجأة، وتفوق على بدوي، ولأن كليهما من ولاية واحدة هي «بينانج» فمن الطبيعي أن يحصل التنافس».. وكانت نتيجة المنافسة، أن تكتل كل الحانقين على أنور والخائفين منه حتى أزالوه! وكان يوم النطق بالحكم على أنور 14/9/1999م بالسجن ست سنوات، يوماً مشهوداً، إذ أعلن أنور تحديه لمن أسماهم ب" العصبة الحاكمة " وقال: لقد هددني مهاتير قبل إقالتي قائلاً: «استقل، أو لأحاكمنك»، وأكد أن لديه أدلة على المؤامرة التي حيكت ضده ابتداء من المدعي العام حتى آخر مسؤول، وقال: «إن العدالة هي روح البلاد، وإن مصيبتنا أن هناك أناساً مستعدين لأن يبيعوا أنفسهم بثمن بخس، ولقد تربيت على مثل ملايوي يقول: «ميراث النمر جلده، وميراث الرجل ذكر اسمه»، فإذا أردت أن أضيف لذلك المثل.. فماذا أقول عن ميراث القاضي الذي حكم؟!
وقبع أنور إبراهيم في السجن ست سنوات، وظلت معتقداته وأفكاره التي سطرها عام 1996م في كتابه «النهضة الآسيوية» على قوتها؛ بل ازدادت نضوجاً وقوة، وأكدت على «وجوب وجود علاقة عضوية بين الأبعاد الاقتصادية والأبعاد الأخلاقية والاجتماعية لعملية التنمية والتقدم، أو ما يشار إليه في الخطاب الإسلامي باسم «النهضة».
فوز في الانتخابات أعاده مرة أخري إلى السجن :
وخرج الرجل من السجن عام 2005م وعاش فترة خارج البلاد محاضرا في عدد من جامعات الغرب ، وحصل الحزب الذي أسسته زوجته – في غيابه - على نسبة كبيرة من الأصوات مقابل تدني نسبة الحزب الحاكم وهو ما أشعل حنق هذا الحزب وحرك كل أعداءه مرة أخري فكانوا له بالمرصاد، حينها كان أنور إبراهيم يعيش خارج البلاد محاضرا في بعض الجامعات الغربية ، وقرر العودة إلى ماليزيا ليخوض نضالاً جديداً وسط جماهير حزبه المنتصر وفي سبيل قيادة البلاد ، وقبل أن يعود إلى ماليزيا عام 2007م.. التقيت به في حوار مطول في الكويت امتد لأربع ساعات متواصلة - نشرته مجلة المجتمع - أكد لي يومها أنه مصمم على العودة، رغم أن مهاتير محمد لا يريد ذلك؛ لأني لو عدت فسـأعريه، وسأفضح فساده في مجالات كثيرة، وقال: لدي وثائق تدين مهاتير، فقد منح ابنه ملياري دولار عبر شركة بترولية في ماليزيا، ولديَّ وثائق بذلك، وعندما أردت إنقاذ ماليزيا من المصير الأسود بإصدار قانون ضد الفساد حال أولاد مهاتير محمد والوزراء المنتفعون دون ذلك. وقال: إن حملة الاغتيال المعنوي ضدي مازالت مستمرة، لكن المهم أنه بعد هذه السنوات أصبح الناس يفهمون مغزى تلك الحملة، وإن شاء الله سيعلم الناس الحقيقة كاملة. وعاد الرجل بالفعل إلي ماليزيا للتأكيد علي أن خلافه الأساسي مع مهاتير كان حول نظافة الحكم ، لكنهم كانوا له بالمرصاد، إذ عاودوا تهديده وحصاره، ومعاودة محاكمته بنفس التهم الحقيرة، وتمكنوا من إدخاله السجن للمرة الثانية عام 2015م . وقد رضي بالسجن وظل يرقب عجلة الأحداث في بلاده حتي فوجئ الجميع بروائح الفساد الذي كان يحذر منه أنور ويقبع بسببه داخل السجن ، وتطورت الأمور الاقتصادية في البلاد لدرجة خطيرة وتأكد مهاتير من فساد الحكومة ورئيسها وأيقن أن بقاءهم في السلطة سيسقط البلاد في هوة سحيقة ، وتطايرت الأخبار والتقارير عن فساد رئيس الحكومة والتحويلات بالملايين علي حسابه قال عنها أنها وصلته علي سبيل الهدية ، ودخلت البلاد في دوامة اقتضت إجراء انتخابات برلمانية مبكرة ، وقرر مهاتير خوضها متحالفا مع أنور إبراهيم الذي كان مازال في السجن وذلك يعد اعتراف غير مباشر بنزاهة أنور وصواب موقفه وحقق حزبي مهاتير وأنور نجاحا أهلهما لتشكيل الحكومة ، لتعود الفرصة مرة أخري لأنور إبراهيم لتطبيق كل ما كان يحلم به لماليزيا بعد ملحمة كفاح طالت حتي ظن الناس أن النسيان سيطويه لكن الله أراد شيئا آخر لماليزيا ولأنور إبراهيم .. فهل يسلم أنور هذه المرة من الدسائس وهل يوفي مهاتير بوعده ؟
الغنوشي ومرسي وأنور إبراهيم
إن قصة الزعيم أنور إبراهيم هي نفس قصص كل أصحاب المشروع الإسلامي في أماكن كثيرة الذين ضحوا بحرياتهم وأمان عائلاتهم وتعرضوا لمخاطر الهلاك علي أيدي الحكومات والأنظمة الدكتاتورية الفاسدة ، فمنهم من قضي نحبه ومنهم من مازال في السجن يواصل كفاحه ومنهم من بات في سدة الحكم أو في صدارة الأحداث في بلاده . إن قصة هذا النجم الإسلامي في جنوب شرق آسيا هي قصة نجوم إسلاميين في الشرق العربي .. هي قصة الزعيم التونسي راشد الغنوشي الذي قاسي في سجون بورقيبة وبن علي وكاد يفقد حياته إعداما لكن الله نجاه وخرج من بلاده مهاجرا إلي الله وعاش في المنفي ردحا طويلا من الزمن حتي ظن الناس أن النسيان قد طواه ، فإذا بثورة تونس الشعبية (2011م ) تقتلع نظام بن علي الدموي وتقلب الأوضاع رأسا علي عقب ويعود الغنوشي إلي بلاده ويحصل حزبه ( النهضة ) علي المرتبة الأولي في الانتخابات البرلمانية ، مما يؤكد أن مشروعه الإسلامي النهضوي لم يمت ولم يخبو في قلوب الجماهير وإنما كان ينمو وينضج وينتشر ومازال هكذا حتي الآن .
وقصة أنور إبراهيم مع السلطة والحكم هي قصة أول رئيس مدني منتخب في مصر ، الدكتور محمد مرسي الذي شارك في انتخابات رئاسية حرة ونزيهة ونال تأييد الشعب وتولي حكم مصر وقبل أن يكمل العام تم عزله بانقلاب عسكري غادر ، أدخل على أثره السجن ومازال يقاسي المخاطر داخل سجنه حتي اليوم ، دون أن يهز ثباته أو يغير موقفه الرافض لهذا الانقلاب ومن ورائه كل أنصاره ، وحرم بذلك الانقلاب من الحصول علي أي شرعية حقيقية حتي وإن سانده العالم أجمع .
إنها مسيرة الكفاح التي تجمع المصلحين من شرق العالم إلي غربه وبهم وعلي هديهم يتجدد الأمل لدي الجماهير في الإصلاح والانطلاق نحو النهضة .
وسوم: العدد 796