لماذا تركيا في إدلب

في إطار رؤيتها لحلّ الأزمة السورية، كلّفت إدارة أوباما مؤسسة راند بإعداد تصوُّر لجلب السلام إلى سورية، فقامت في سنة: 2014، بإصدار الجزء الرابع من سلسلة "سلام لأجل سورية "، تكون فيها مقاربة الانتقال سياسي من " الأسفل إلى الأعلى "، و عمادها هو المجالس المحلية و أموال إعادة الإعمار

و إنّ ممّا يضفي أهمية قصوى على دراسات " راند "، هو تخطيها الجوانب النظرية إلى الجوانب الميدانيّة العمليّة، و محاولة تفعيل نتائجها ومقتراحتها على الأرض، فضلًا على كون دراساتها رائدة في مجال استشراف المستقبل؛ ممّا يمنحها أهميّة على المستويين: المتوسط و بعيد المدى، حيث ستسمح بتعزيز " الحكومة التمثيلية " في بعض المجتمعات المحلية الخارجة عن سيطرة النظام، وهو ما يخلق أساسًا لحكم لا مركزي " سورية لا مركزية "، و يسهم في تطوير قيادات جديدة على المستوى الوطني، و هو الأمر الذي سيحدّ من سلطة النظام بشكل ما، وإن كان يبقى القضايا السياديّة " الخارجية، الدفاع، السياسة النقدية " تحت سلطته.

و أوكل الشقّ الخشن منها إلى روسيا، من خلال تفويضها بالتدخّل بالشكل المباشر، و كان ذلك في أيلول: 2015، بطلب من النظام عقب سيطرة الفصائل على إدلب.

و تنص في ثناياها على أن يوكل أمر ضبط القوى المتقاتلة إلى الأطراف الفاعلة في هذا الملف، فأوكل إلى روسيا النظامُ و حلفاؤه، و إلى الأردن مجموعة الفصائل في الجنوب " التي تمّ الانتهاء من ملفها، بصفقة الجولان مع الراعي الأمريكي، التي مهّدت لعودة النظام إلى الجنوب "، و إلى أمريكا مجموعة القوى الكردية، و إلى تركيا مجموعة الفصائل المسلحة في الشمال.

و هو الأمر الذي يشرعن لتلك الدول وجودها على الأراضي السورية، كأمرٍ واقع أحيطت به الأمم المتحدة، و مجموعة الدول المنخرطة في هذا الملف، و حتى أطراف الأزمة المحليين، بما فيهم النظام، عبر روسيا.

و عليه فإنّ وجود القوات التركية، أصبح خارج الحديث، و بعلم الأطراف جميعها، تمامًا مثل وجود القوات الأمريكية، و الروسية.

و بذلك فإنّ وجود تركيا في الشمال السوري " و تحديدًا في إدلب "، أمرٌ فضلًا على الهواجس الأمنية لها، بات ضرورةً للخروج من نفق الأزمة السورية المستعصية.

و يرى المراقبون أنّه ثَمَّة مصالح تركية محضة، ذات أبعاد عدّة، التقت فيها مصالحها مع المعارضة السورية، نتج عنها الإبقاء لمساحة تزيد على ( 12 ألف كم2 )، خارج سيطرة النظام و حلفائه، تجمّعت فيها مجموعة الفصائل الرافضة العودة إلى حضن النظام، ريثما يكون هناك حلٌّ سياسي يلبي بعضًا من مطالبها.

و فوق ذلك كلّه هناك بُعدٌ مرتبط بالذهنيّة التركية، إذْ يرى علماء الإنثربولجيا أنّه على الرغم من الارتدادات الأليمة، لسقوط الدولة العثمانية، و إنهاء الخلافة رسميًا في: 24/ 5/ 1923م، و اِلتحاق تركيا بركب الحضارة الغربية، قد عاد عليها بكثير من الإيجابيات، و في مقدمتها انفتاح الذهنية التركية على نمط من التفكير، ليس بمقدروها أن تتحصَّل عليه لو بقيت ملتفتة إلى المشرق.

و ذاك أمرٌ يلحظه من يتابع عن كثب نمط حياة الأتراك على شتّى الصُعُد، ولاسيّما نمط التفكير السياسيّ، الذي أسّس للقبول بالآخر، و التخلّص من الحكم الجبري، الذي ساد حياة المسلمين بعد العصر الراشديّ، الذي تميّز بالصيغة التعاقدية بين الحاكم و المحكوم، لترتكس بعده الحياة السياسية، و تبتلى الأمة بحكام لا تتوفّر فيهم كثيرٌ من مؤهلات الحاكم الصالح، جيء بهم إلى العرش بسبب انتمائهم العائلي.

و إنّ الأتراك على اختلاف مشاربهم السياسية، على مسافة واحدة من هذا الأمر، و ليس في واردهم أن يقبلوا بمجاورة نمط من التفكير، يغذّي المشاعر العرقية و الطائفية، و حتى الدينية، في مناطق تتميّز بتركيبة سكانية هشة و غير متماسكة، في وقت هم بأمسّ الحاجة إلى دفعه عنهم، أمام تحشيد إعلاميّ على الحكومة الحالية، بأنّها تسعى لعودة الخلافة و الطربوش العثماني.

و هو الأمر الذي تسعى إليه أطراف خارجية، تتباين رؤاها السياسية مع حكومة العدالة و التنمية، و في ودّها أن يقع ذلك، و تربكها في خططها المستقبلية، وصولًا إلى: 24 يوليو/تموز 2023.  

وسوم: العدد 797