تفنيد بعض أباطيل عصيد
توصلت من أحد الإخوة الفضلاء بفيديو عبر "الوتساب " تداولته وسائل التواصل الاجتماعي ، وهو للمدعو أحمد عصيد المعروف بنزعتيه المتطرفتين الأمازيغية والعلمانية ، فهو لا يعترف بعروبة شمال إفريقيا ، ويرى دخول الإسلام إليه عبارة عن غزو عربي ، ويدعو إلى ما يسميه دولة مدنية لا يكون فيها للدين دور. هذه هي خلاصة أباطيل عصيد التي يكررها حيثما حل وارتحل ، وينشر عنها مقالات بمعدل مقال واحد في الأسبوع بموقع وطد له ذلك ، وهو الموقع الذي اعتذر لي عن عدم نشر مقالاتي لأنها تعارض توجه عصيد وأمثاله علما بأن ذلك الموقع يدعي الموضوعية والحياد، وهو الذي لم يتسع صدر أصحابه لنشر مقالاتي التي تفضح طائفية وعلمانية عصيد ومن يحذو حذوه .
وقبل إعطاء خلاصة عما جاء في ذلك الفيديو ، أريد الإشارة إلى أن أباطيل عصيد من كثرة ترديده لها صارت ممجوجة شأنها شأن أسطوانة من أسطوانات أيام زمان التي كانت تسجل عليها أغان ، وكانت أحيانا تخدش، فلا تغادر شوكة الآلة المشغلة لها موضع الخدش ، فتتكرر عبارة واحدة من أغنية من الأغاني ، وكان الناس يتفكهون بذلك . وأذكر أن أغنية " يا ابن سيدي ويا خويا "وهي لمطرب جزائري راحل كان في الأسطوانة المسجلة عليها خدش ، فظلت عبارة " يا خويا " تتكرر والمستمعون من رواد إحدى المقهى التي كانت تذيعها يضحكون.ولا شك أن شأن كلام عصيد كشأن تلك الأسطوانة المخدوشة يكرر نفس الأباطيل ، والناس يتندرون به .
أما خلاصة ما جاء في الفيديو فهي كالآتي :
يزعم عصيد أن الأمة المغربية تعاني من ازدواجية لا سبيل للتجانس فيها ، ذلك أنها لا تفكر في قيم الإسلام الإنسانية النبيلة ، لأنها تعطي الأولوية للدولة الإسلامية وللسياسة . ويرى أن القيم الأخلاقية عندها تزداد انحطاطا بالرغم من كثرة المساجد ، وازدياد مظاهر التدين، الشيء الذي ترتب عنه انعدام النزاهة حسب دراسات دولية صنفت المغرب في آخر رتب الدول التي تنعدم فيها النزاهة والاستقامة . ويتساءل كيف سيأتي سائحون ومستثمرون إلى المغرب مع انعدام النزاهة فيه وشعبه لا يمكن الثقة فيه ؟ كما أنه يتساءل أيضا كيف وصلنا إلى هذا الوضع ونحن عندنا 60 ألف مسجد ، والناس عندنا يحرصون على التدين إلى درجة الأذى والضرر؟ على حد قوله .
ويجيب بأن السبب هو أن الشعب المغربي إنما يهمه في الدين السياسة . وكعادته عاد إلى انتقاد درس التربية الإسلامية المسؤول عن ذلك ، ويعتبره درسا ليست فيه أخلاق ، وإنما يقتصر على تعليم الناشئة بعض العقائد ،وعلى تلقينهم كراهية الكفار ، والشعور بالانتماء إلى جماعة المسلمين وتعظيمها .
وتقف شوكة أسطوانة عصيد عند سفره إلى فيلندا والنرويج ، فيكرر حديثه عنه ، ويتحدث عن منظومتهما التربوية التي تقوم على مبدإ الحرية الذي يربي الطفل ليكون حرا ومستقلا في قراراته ،الشيء الذي يمكنه من استغلال مؤهلاته وملكاته لكون مواطنا صالحا فيه نزاهة ، ويحترم القانون .
ويذكر أن درس الأخلاق عندنا في ستينات القرن الماضي لم يكن مدرسوه متدينين ، وكانوا يربون الصغار على النظافة ، وإماطة الأذى عن الطريق ، واحترام الطبيعة ، والرفق بالحيوان دون الإحالة على نصوص دينية على حد قوله .
ويرى عصيد أن الطفل المغربي لا يمكن أن يكون متخلقا إذا كان الخطاب الديني يقول له إذا فعلت كذا ستدخل الجنة ، وإذا لم تفعل دخلت النار، ويعتبره خطاب الترغيب والترهيب الذي يجعل هذا الطفل لا يقوم بواجبه إلا بمقابل أو بالخوف من العقاب . ويزعم أن درس التربية الإسلامية عندنا يتفنن في وصف عذاب الجحيم ، ويتساءل : هل هذه تربية ؟ وهل توجد دولة في العالم تستقبل الأطفال في السادسة من عمرهم بالترهيب ؟
ويرى أن تربية الترغيب والتهريب هي المسؤولة عن إعطاء أشخاص انتهازيين لا نزاهة لهم ، وأن الفضيلة لا ترتبط بالترغيب ولالترهيب ، لأن الأخلاق تكون بالضمير لا بالخوف، ويستدل على ذلك بمثال تجاوز إشارة الضوء الأحمر المانع للمرور، الذي لا يحترم عندنا إلا خوفا من شرطي المرور.
هذا بعض ما جاء في فيديو عصيد أو بالأحرى ما توصلت به من الأخ الفاضل الذي وافني به عبر الوتساب .
وفيما ما يلي تفنيد أباطيل عصيد :
أول ما يلاحظ على كلام عصيد هو فصله الدين عن الدولة وفق تصوره العلماني الذي لا يسمح للدين بدور في المجتمع ، ويختزله في طقوس ليكون الواقع بكل ما فيه بما في ذلك السياسة حكرا على العلمانية وليكون المجتمع مدنيا أو لا دينيا عكس المجتمع الديني.
وبسبب هذا التصور العلماني يتحدث عصيد عن القيم الإسلامية التي يرى أن الشعب المغربي قد ضيعها ، فضاعت منه النزاهة ، وأصبح شعبا لا يمكن الثقة فيه على حد قوله .
ومن تهافت قوله أن كثرة المساجد عندنا ، وازدياد التدين يقابلهما انحطاط الأخلاق ، خلافا لما يقتضيه المنطق، ذلك أن كثرة المساجد مع ازدياد التدين منطقيا يؤديان إلى سمو الأخلاق إلا إذا كانت هذه المساجد مجرد بنايات لا يرتادها الناس ، أو كان تدينهم مغلوطا ، أما إذا كان التدين صحيحا وفق تعاليم الكتاب والسنة ، بعيدا عن البدع والخرافات والشطحات... وغيرها مما يحسب على الدين وما هو بدين .
والمتتبع لواقع التدين في المغرب يلاحظ أن بعد الثمانينات من القرن الماضي وقع إقبال كبير على التدين خصوصا لدى شريحة الشباب، الشيء الذي دعا إلى تشييد العديد من المساجد إلى درجة تنافس المغاربة في بنائها بحيث لا يوجد حي من الأحياء في حواضرها أو قراها إلا وفيه مسجد يرتاده الناس بأعداد غفيرة ، ولم يعد الحال كما كان من قبل حين كان المد المادي واليساري يصرف الشباب عن التدين ، وكان رواد المساجد التي كانت قليلة من الشيوخ كبار السن. ولم يعد الأمر اليوم يقتصر على بناء المساجد بل تعدى ذلك إلى بناء المدارس القرآنية والمعاهد الدينية التي أصبحت تحتضن شبابا متخصصا في علوم الدين ، وهو ما لم يكن من قبل حيث كان التصور السائد هو أن من يشتغل بحفظ كتاب الله عز وجل يكون مصيره تلاوته على الأموات في المقابر ، وكان عرضة للسخرية والاستهزاء والاحتقار .
ولا يمكن الاعتداد بالمصدر الذي اعتمده عصيد للحكم على انعدام النزاهة في الشعب المغربي المسلم ، لأن ما سماه بالدراسات الدولية التي ترتب الدول تقدما أو تخلفا هي دراسات غربية لا يمكن الثقة بها ،لأنها تنطلق من مسلمة مفادها أن المجتمعات الغربية العلمانية هي المقياس الذي تقاس به باقي مجتمعات ما يسميه الغرب عالما ثالثا. ومعلوم أن التقدم بالمفهوم الغربي هو تقدم مادي استهلاكي له قيمه التي تتحكم فيها المادة وهي قيم تختلف عن القيم والأخلاق بالمفهوم الإسلامي . وإن النزاهة التي يعيّر عصيد المغاربة بافتقادها إنما هي نزاهة بالمفهوم الغربي ،وهو مفهوم تغلّب فيه المصالح على المبادىء . ألم يصرح رئيس أكبر دولة في الغرب بأنه لا دوام للعداوات والصداقات عنده ، وأن ما يدوم بالنسبة إليه هو المصالح ؟ وهل يؤتمن مثل صاحب هذه القناعة على القيم والأخلاق ؟ وهل تجرؤ الدراسات الدولية التي اعتمدها عصيد ووثق منها وثوقا ، وهي ذات مصداقية عنده لا يجب الطعن فيها على وصف الكيان الصهيوني بعدم النزاهة ، وهو من هو عدوا نا، واحتلالا ، واستغلالا ، وانتهازية ....؟ إنه كيان تصنفه الدراسات الغربية ضمن المجتمعات الغربية الديمقراطية والنزيهة والمتقدمة ، وتغض الطرف عن طبيعته العدوانية ، وعن إفلاس قيمه وأخلاقه .
ومن أجل حكم صحيح وعادل على نزاهة الشعب المغربي لا بد من جهة محايدة لا تنطلق من تصورغربي صريح العداء لكل من أو ما يمت بصلة لدين الإسلام .
والحقيقة التي يقفز عليها عصيد متعمدا هي أن فقدان النزاهة إنما يكون أصلا فمن لا يتحكم فيهم الوازع الديني ، ولا يمكن بحال من الأحوال تحميل مسؤولية فقدان النزاهة للتدين وللمساجد ، بل لقلة التدين ،وعدم ارتياد المساجد .
وانطلاقا من التصور العلماني المصر على إقصاء وتهميش الدين من الحياة يهاجم عصيد مادة التربية الإسلامية التي تنهل من الإسلام مقابل تنويهه بتربية علمانية تتجاهله . ويسمي التربية الإسلامية تربية الترغيب والترهيب التي تصادر حسب تصوره حرية المتعلمين ، فتربيهم على الانتهازية على حد قوله بالطمع والرغبة في دخول الجنة ، والخوف من عذاب النار ، والذين لا يقومون بواجبهم إلا بمقابل وبدافع الخوف ،ويقابلها عنده ما سماه تربية الحرية والاستقلال التي تربي المتعلمين على حرية القرار واستعمال الملكات ، ويمثل لها بالتربية في بعض الدول الاسكندنافية ،وهي بطبيعة الحال تربية علمانية كما هو الحال في كل الدول الغربية .
ومعلوم أن الترغيب والترهيب اللذين ينتقدهما عصيد وازعان ضروريان لاستقامة الإنسان الذي لا يمكن أن يستقيم دونهما ، ذلك أن كل مجتمع مهما كانت عقيدته أو ثقافته لا مندوحة له عن هذين الوازعين، وهما عبارة عن تحفيز وعقاب ، والمجتمعات الغربية العلمانية التي يشيد بها عصيد تحفز ، وتعاقب كغيرها من المجتمعات ، والفرق بين الخطاب العلماني والخطاب الديني في هذا الأمر هو الإيمان بالمحاسبة الأخروية جزاء أو عقابا عند هذا الأخير ، وإنكار ذلك عند الأول . والوازعان الدينيان أكثر تأثيرا في الإنسان من الوازعين العلمانيين.
وما يسميه عصيد نزاهة أو استقامة في المجتمعات العلمانية الغربية إنما هو في الحقيقة الخوف على الجيوب ،لأن كل مخالفة للقوانين العلمانية يؤدي عنها من يرتكبها ضريبة أو عقوبة مالية ، فلا ضمير ولا نزاهة ، ولا هم يحزنون بل القضية قضية تحاشي العقوبات المالية. وشتان بين ضمير ينشأ عن الخوف من عذاب الله عز وجل والطمع في رحمته وبين ضمير وراءه الخوف على الجيوب . والانتهازية تنشأ من الخوف على الجيوب ، ولا تنشأ من الترغيب في الجنة ، والترهيب من النار كما زعم عصيد .
ويحاول عصيد استغفال من كانوا يتابعون حديثه أو من يشاهدون الفيديو حين يتحدث عن دروس الأخلاق في ستينيات القرن الماضي عندنا زاعما أنها لم تكن فيها إحالات على النصوص الدينية ، وهذا كذب وافتراء ، ذلك أن تلك الدروس كانت تقدم بين يدي القضايا التي كانت تعالجها نصوصا من القرآن الكريم ، ومن الأحاديث النبوية الشريفة ، وجيل الستينات يتذكر ذلك جيدا . وإذا كان بعض المدرسين اليساريين لا يتعرضون في تلك الدروس للنصوص الدينية بحكم توجههم الإيديولوجي وغياب الضمير المهني ، وخيانة الأمانة ، والتهاون في القيام بالواجب ، فإن ذلك لا يشمل كل المدرسين لأن أغلب من كانوا يدرسون مادة الأخلاق كانوا متدينين عكس ما يزعم عصيد ، وكانوا يؤمون المتعلمين في صلوات جماعية كانت تؤدى في المؤسسات التربوية. وما ذكره عصيد من قضايا دروس الأخلاق كالنظافة والمحافظة على الطبيعة والرفق بالحيوان ... كلها من تعاليم الإسلام بالأدلة والحجج الدامغة الموجودة في الخطاب الديني الذي ينتقده عصيد ، ويريد تعطيله من جهة ، ومن جهة أخرى يتظاهر بالإشادة بقيمه الإنسانية النبيلة المعطلة.
وبالرغم من تهافت أباطيل عصيد ، فإن مواقع على الشبكة العنكبوتية تفسح له ولأمثاله من العلمانيين المجال واسعا لتسويقها ، ونقلها ، وتداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي على أوسع نطاق ممكن خدمة لأجندة علمانية غربية ، تتوجس من عودة الأمة إلى دينها الذي هو ضمان نهضتها كما كان الأمر من قبل. وفي المقابل تمنع تلك المواقع كل فكر أو توجه يفند الأباطيل العلمانية شاهدة على نفسها بل مقيمة عليها الحجة الدامغة بالافتقار إلى النزاهة والموضوعية والحياد ، والتورط الفاضح في الانبطاح للعلمانية الغربية .
وأخيرا نشير إلى أن عصيد المحسوب على الفكر لا يمارس الفكر بل يخوض صراعات إيديولوجية ذات طابع طائفي وسياسوي لا غير ، ولا قيمة لما يصدر عنه من أباطيل متهافتة .
وسوم: العدد 805