الطبيعة المهزوزة لشخصية "المتعلمنين " في بلادنا

يوجد فرق شاسع بين الطبع والتطبع ، ذلك أن الأول طبيعة وسجية ، والثاني تقليد وادعاء  وتظاهر. وقد يبدو حال المطبوع  والمتطبع واحدا لكن الحقيقة غير ذلك ، وقد صدق من قال :

فشتان بين دموع الباكي ، وبين دموع المتباكي ، وإن بدت دموعهما واحدة لا فرق بينها عند من لا يميز بين الطبع والتطبع . وقد تتطلب بعض الأحوال التطبع إن تعذر الطبع كما هو الشأن في حال قراءة القرآن الكريم كما جاء في الأثر : " إذا قرأتم القرآن فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" . ولا ندري هل يصدق هذا على كل الأحوال أم هو خاص بهذه الحال فقط ، علما بأن المتباكي أثناء تلاوة القرآن الكريم لن يدرك شأو الباكي أبدا ، وإن كان حاله أفضل ممن لا يتباكى .

ولا يخلو في هذه الحياة أمر من الأمور من حالة طبع وحالة تطبع . وإذا كان التطبع بالطبع المحمود محمودا ، وإن لم يدرك المتطبع به مرتبة المطبوع ،فإن  التطبع  بالطبع المذموم مذموما والمتطبع في هذه الحال أسوأ من المطبوع .

وقد يبلغ التطبع أقصى درجة السوء حين يصير نفاقا، وهو أن يظهر المنافق عكس ما يبطن ، وأخطر ما يكون ذلك في الاعتقاد والتدين حتى أن الله عز وجل أعد أشد العذاب يوم القيامة للمنافقين مصداقا لقوله تعالى : (( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا )) وما عوقبوا بهذا العقاب الشديد الأليم إلا لنفاقهم وهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وهي حال يكون المنافق فيها مطبوع في كفره ، ومتطبع في إيمانه .

وكثيرا ما نسمع بعبارة هذا مسلم ، وهذا "متمسلم " أي متكلف الإسلام أو منتسب إليه انتسابا غير صادق وبعبارة أخرى يتكلف الإسلام، وهو فيه متطبع لا مطبوع ، ولكننا لا نسمع عبارة هذا علماني ، وهذا "متعلمن " . وكما أن المسلم هو الصداق في إسلامه ، فإن العلماني هو الصادق في علمانيته بينما "المتمسلم " كاذب وغاش في إسلامه ، كما أن " المتعلمن " كاذب وغاش في علمانيته .

وكما أن مجتمعنا قد ابتلي  "بالمتمسلمين "، فإنه قد ابتلي أيضا "بالمتعلمنين ".

وإذا ما وصف  "المتمسلمون" بالنفاق، وهو إظهار الانتماء إلى الإسلام وإبطان الانتماء إلى غيره ، فإن هذا الوصف ينطبق أيضا على " المتعلمنين " في مجتمعنا، ذلك أن العلمانيين في البلاد العلمانية علمانيون خلّص لا تشوب علمانيتهم شائبة من تدين بينما "المتعلمنون " يمارسون النفاق حين يخلطون بين العلمانية الخالصة وبين الانتماء الشكلي أو الصوري إلى الإسلام ، ويخوضون في الحديث عنه ، ويدعون فهمه الفهم الصحيح ، ويرون غيرهم دونهم فهما له ، والحقيقة أنهم يعيشون عقدة صراع التلفيق بين العلمانية المناقضة للدين عمليا وإجرائيا وبينه ، وهما أمران على طرفي نقيض . ويبحث "المتعلمنون "  عندنا عن منزلة بين المنزلتين ، يرومون فيها الجمع بين العلمانية والدين ، وهم علمانيون ممارسة ومنتمون إلى الدين ادعاء وتظاهرا .

ومما يعكس حال "المتعلمنين"  ما جاء في آخر مقال للمدعو أحمد عصيد المنشور على موقع  هسبريس الذي يفسح له المجال تحت عنوان : " اسكت وإلا قتلتك "فمما جاء فيه قوله :

"  التقيت أمام محطة القطار بمواطن لا أعرفه ، شد على يدي بحرارة ، وتلفظ ببعض عبارات التشجيع ،قبل أن يردف متسائلا في لهجة ساخرة : لماذا الإسلاميون وحدهم من يهدد بالقتل دائما ، ويعتبرون اغتيال الآخرين حقا من حقوقهم ؟ لماذا لا يقوم مواطنون من التيار العلماني بدورهم بوضع لوائح لاغتيال الإسلاميين حتى نتعادل ؟ قلت : هذا غير ممكن ، وغير ضروري لسبب بسيط ، لأن قوّتنا  في بقائهم ، ومصداقيتنا في حريتهم ، فهم الذين يعطون حياتنا وكفاحنا معنى ، وكلما ازداد شغبهم علينا ازددنا إصرارا على إظهار أخطائهم ، وكلما مارسوا التحريض والتهييج جعلونا نبحث عن الحجة بالعقل ، فترجح كفتنا على كفتهم ، وهم يلجئون إلى العنف اللفظي والمادي من منطق الشعور بالضعف لا بالقوة ، فهشاشة الرأي والموقف ، مع أعطاب الفكر،وغياب النموذج الإيجابي ، وفشل التجارب المتلاحقة ،تجعلهم يعتقدون أن الأسلوب الوحيد الذي يمكنهم من فرض رأيهم على الناس هو انتهاج طريق العنف ، وهو بذلك يمارسون انتحارا جماعيا ، فسواء منهم الممارسون الفعليون  للعنف ، أو الصامتون من التيار الانتخابي السياسي الذين يستفيدون من الإرهاب، ولا يقومون أبدا بإدانته ، فإن أول ضحايا العنف ، هم القائمون به ، والمبادرون إليه " انتهى كلام عصيد .

فالملاحظ في كلامه أنه يعلن عن علمانيته  وأقر بها في جوابه عن سؤال من سأله: لماذا لا يقوم مواطنون من التيار العلماني بدورهم بوضع لوائح لاغتيال الإسلاميين ؟  ومعلوم أن العلمانية الغربية الخالصة تعادي الدين وتحاربه علانية عمليا وإجرائيا من خلال تضييق الخناق على المتدينين الذين يعيشون بين ظهرانيها . أليست فرنسا على سبيل المثال لا الحصر تمنع المسلمات من ارتداء لباسهن المنصوص عليه في دينهن ،والذي يعتبر جزءا من التدين ، ومنعهن من ارتدائه كمنعهن من ارتياد المساجد ؟ أليس هذا عنف يحاول عصيد  أن ينزه عنه العلمانية ؟ أليبست فرنسا العلمانية هي من تمنع المسلمات من لباس الاستحمام "البوركيني" لأنه يستر أجسادهن التي تفرض هي الكشف عنها ؟ أليس هذا عنف وإرهاب ؟  أليس الكيان الصهيوني الذي يعلن علمانيته هو أعنف كيان على الإطلاق يقتّل  المسلمين في فلسطين  ، وتزكي إرهابه الدول الغربية العلمانية ؟ أليس حلف الناتو العلماني هو من غزا البلاد الإسلامية واحتلالها ، وقتل أهلها المسلمين ؟ أليست الصين العلمانية هي من يرهب ويعذب مواطنيها المسلمين ؟

وينسب عصيد العنف اللفظي والمادي للإسلاميين، وهو الذي لا يخلو له تصريح مسجل أو مقال منشور من عنف لفظي يمارسه عليهم من خلال نعتهم بأشنع النعوت ، ومن خلال السخرية منهم والاستهزاء بهم ، ولو استطاع  سبيلا إلى ممارسة العنف المادي عليهم  لما تردد في ذلك طرفة عين، لأن العنف اللفظي ينم عن رغبة في  العنف المادي .

والمثير للانتباه أن عصيد الذي يريد أن يوطد لطائفيته العرقية عن طريق ركوب العلمانية لأنها سبيله لتحقيق هدفه، لا يرى وسيلة إلى ذلك سوى استهداف الإسلاميين إلى درجة أنه ربط وجوده بوجودهم ومعاداتهم فقال : " إن قوتنا في بقائهم ، ومصداقيتنا في حريتهم ، فهم الذين يعطون حياتنا وكفاحنا معنى " . إنه لا يرى لحياته معنى دون النيل من الإسلاميين ، وهذا مبدأ تقوم عليه طائفيته العرقية  ، وتعلمنه  ، وهو ما يستقيه من العلمانية الغربية التي تقيم سلطانها على حساب الإسلام وأهله ، وتحت شعار محاربته تخوض الحروب الطاحنة والمدمرة فوق أرضهم ، وتنهب خيراتها ، وهي على وشك خلق ما تسميه نيتو عربي مكون من جيوش الأنظمة  العربية الراكعة لها لتنوب عنها في محاربة ما باتت تسميه الإسلام السياسي الذي تراه خطرا يهدد وجودها والذي تعطي محاربته معنى لحياتها وكفاحها حسب تعبير عصيد .

وأخيرا نلخص شخصية هذا " المتعلمن " الذي اضطره تعصبه الطائفي والعرقي إلى اعتماد العلمانية عقيدة لتحقيق هدفه العنصري ، بأنه شخصية غير منسجمة  مع نفسها تعاني الاضطراب وهي تحاول الجمع بين نقيضين لا يجتمعان أبدا عقيدة لادينية  تحاول إقامة وجودها على  حساب عقيدة دينية ، وتعلن عليها حربا على عدة جبهات ومستويات وبشى الأساليب المكشوفة والمقنعة ، وهو إلى جانب هذا وذاك يعاني من عقدة الغرور ، والتعالي على من يختلفون معه في توجهه بحيث لا يرى بأسا في النيل منهم بأقبح النعوت ،لكنه لا يقبل منهم أن ينعتوه بمثل ما ينعتهم به ، ويرى ذلك عنفا لفظيا ، وتهديدا .ومن غروره أنه يرى نفسه أعلم من المتدينين بالدين ، وأن فهمه له هو الفهم الصحيح والمصيب ، بينما فهمهم له فهم خاطئ وقاصر ، ومتخلف، لأنه يزن الدين بميزان طائفيته ، وتعلمنه ، فما وافقهما عنده هو الحق ، وما خالفهما محض باطل وظلامية وتخلف ...إلى  غير ذلك من النعوت المشينة التي يزخر بها قاموسه المستعمل في عنفه اللفظي ضد المتدينين . وما لا ينتبه إليه عصيد أو يعلمه لكنه يحاول يتجاهله أنه أصبح أضحوكة الرأي العام لتهافت ما يصدر عنه حتى  أن مقولاته صارت ممجوجة لتكرارها ، ذلك أنه في كل محاضرة يلقيها أو في كل مقال يكتبه لا بد أن يعرض بالإسلاميين، لأنه كما قال لا يتحقق وجوده وحياته وكفاحه على حد قوله إلا بالنيل منهم ظلما وعدوانا دون أن يكون لديهم الحق في الرد عليه ، وعليهم السكوت إذا تكلم ،لأنه وحده الذي يملك هذا الحق الذي لا يحق لهم أن ينازعوه فيه .

وأختم بالقول إن هذا الذي يلتمس مصداقيته لدى شخص لا يعرفه لقيه أمام محطة القطار صدفة ، فأثنى عليه وشد على يده بحرارة  وأطربه ذلك ، وقد يكون شخصا افتراضيا من صنع خياله ليعبر بشكل واضح وجلي  عن مدى الغربة التي يعيشها وهو يسبح ضد التيار في بلد مسلم لا مستقبل فيه لا لطائفيته ولا لتعلمنه ، وإنه ليعاني عقدة دونكشوط محارب الطواحين الهوائية ، وهو أول وآخر ضحية للطائفية والتعلمن .

وسوم: العدد 807