ألقاب على غير مقاسات من يلقبون بها معرة
من المعلوم أن الإنسان إذا أراد اقتناء لباس أو نعل أو حذاء، التمس مقاسه الذي يناسبه ، و الذي يرتاح له ، ولا يكون عرضة لسخرية الناس إن لبس ما لا يناسب مقاسه .ومن الأمثال الشعبية الشائعة عندنا قولهم :" البس قدك يواتيك ". وخلافا لما يلبس أو ينتعل، لا يبالي البعض بما لا يناسبهم من ألقاب ، فيتلقبون بألقاب ليست على مقاساتهم ، فيجعلهم ذلك عرضة لسخرية الساخرين ، وتندر المتندرين .
ومن الألقاب على غير المقاسات ،والتي تسوقها بعض المواقع الإعلامية لخلق هالة حول بعض من تريد تسويق أفكارهم، والتي قد تكون أحيانا مجرد ترهات وراءها الدعاية الرخيصة لتوجه من التوجهات الشاذة أو نزوة من النزوات قولهم : العالم ،والخبير ،والمتخصص، والمفكر في التخصصات الفلانية ، والحقوقي ...وهلم جرا ،وما شابه ذلك من الألقاب على غير مقاسات من يلقبون بها . وقد لا يعدو الواحد منهم أن يكون أستاذا جامعيا ،قضى دهرا لا يبارح الحديث عن الجنس والدعوة إلى الانحلال الأخلاقي ، فيقدمه غر من الأغرار يوقع مقالاته عنه بعبارة " صحافي متدرب " بصفة أو مقاس عالم اجتماع .
وقد يصدر عن غيره كلام مما يتداوله العامة ،فيقدم بصفة خبير نفسي في المجتمعات العربية . وقد يعبر غيره عن تعصب طائفي ، فينعت بالمفكر . وقد يطالب غيره بتعطيل شرع الله عز وجل تجاسرا عليه، فيلقب بالحقوقي ...
وهكذا تصير الألقاب مطروحة في الطريق على حد تعبير الجاحظ في مقولته المشهورة في النقد . ولست أدري كيف يكون شعور من يلقبون بألقاب على غير مقاساتهم ؟ فإن طربوا لها ، وهم يعلمون أنهم ليسوا أهلا لها ،حامت الشكوك حول سلامتهم النفسية إذ لا يطرب متزن نفسيا لما لا يحق له . وإن سكتوا عن تلقيبهم بما لا يناسب أقدارهم وهم غير راضون عن ذلك ، ولم ينكروه على من يلقبهم به ، عيب عليهم ذلك، لأنهم يساهمون بسكوتهم في ابتذال الألقاب والصفات والنعوت ، وفي ذلك إساءة إلى من هم أولى وأجدر بها . فالعالم والخبير والمتخصص والمفكر والحقوقي.. هم الذين يكونون حقا أهلا لهذه الألقاب بما ينتجون وما يبدعون مما تعترف بقيمته المؤسسات العلمية ومؤسسات الخبرة ذات المصداقية ،ويكون لهم سبق لم يسبقوا إليه ، وتكون لهم نظريات هم آباء عذرتها ، أما أن يأتي الواحد بما يعلمه عامة الناس، فيصير به صاحب علم ومعرفة وخبرة، فهذا هو عين العبث والهزل .
ولست أدري هل يفكر من يلقب بما لا يناسب مقامه ،وبما ليس على مقاسه في من يعرفون حقيقته ؟ فإن كان يحصل ذلك ، ولا يخجل من نقسه ، فهو ممن تهون عليه نفسه ، ويرضى لها أن تكون موضوع سخرية و تندرعند معارفه ، ويرضى أن يمدح بما يشبه الذم .
وما قيل : "رحم الله من عرف قدره، فجلس دونه " إلا لتجنيب الناس الطرب للألقاب والنعوت التي ليست على مقاساتهم . والأكياس حين ينعتون حتى بما يناسبهم من نعوت وألقاب يستغفرون الله عز وجل صادقين متواضعين كما كان حال الصديق رضي الله عنه حين كان يمدح بنعت من النعوت ، فيقول : "اللهم اجعلني خيرا مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون ".
ولئن استمر التعريض والاستخفاف بالألقاب بنسبتها لمن لا تناسب مقاسه على نفس الوتيرة كما هو الشأن بالنسبة لبعض المواقع الإعلامية ، فإن ذلك يعني سيادة الفوضى في أمر ذي بال لا تليق به الفوضى ، وعليه لا بد من جهاز لمراقبة عملية توزيع الألقاب مجانا ، والنفخ في السنورات لتصير نمورا.
وسوم: العدد 811