مؤتمر لحلف الأقليات في "بيروت الإيرانية"
يتصل الإغراء الذي تقدمه طهران لتعزيز نفوذها عربيا في ظل الصراع الإقليمي والدولي على النفوذ في المنطقة العربية، بتقديم نفسها كطرف منافس لإسرائيل في بلورة مشروع حلف الأقليات على أرض الواقع. القيادة الإيرانية تراجعت عن شعار كان عنوان دخولها إلى دول العالم ولاسيما الدول العربية والإسلامية، هو مشروع الوحدة الإسلامية مقابل الوحدة العربية، والأمّة الإسلامية مقابل الليبرالية الغربية والاشتراكية، وكان من أبرز شعارات الاختراق الإيراني والأيديولوجي لدى الشعوب العربية والإسلامية “لا شرقية لا غربية جمهورية إسلامية”.
المصطلح الجديد الذي بات عنوان تعامل إيران مع المنطقة العربية، هو “دول غرب آسيا”، وهو مصطلح جغرافي ينطوي على تجاوز يمكن أن نفهمه من قبل إيران للهوية العربية والنظام الإقليمي العربي، باعتبار أنها بتجاوزها لهذه الحقيقة الحضارية للعالم العربي، تريد أن تكون شريكا في رسم نظام مصالح المنطقة وهي في صلب جغرافيتها، لكن ما ليس مفهوما هو الانقلاب الأيديولوجي من مفهوم العالم الإسلامي والنظام الإسلامي إلى مصطلح دول غرب آسيا، في توصيفها المستجد لجزء من المنطقة العربية الذي تعتبره مجالا لنفوذها وسيطرتها.
إيران التي ساهمت في ضرب المنظومة الإقليمية العربية، وعملت أيديولوجيا وثقافيا لتقويض مفهوم العروبة، استخدمت الهوية الإسلامية، ورسّخت في خطابها الثقافي إلى العرب مقولة التناقض بين العروبة والإسلام، وهو تناقض مفتعل روّج له سواها من الأيديولوجيات الإسلامية في العالم العربي التي تقاطعت معها على هذا المنهج. غير أنّ المفارقة هي أن الهوية القومية الإيرانية بقيت راسخة في مشروع الدولة الإسلامية الإيرانية، بحيث بدأ يتضح اليوم أكثر فأكثر أن الثابت في إيران هو الهوية القومية، التي تقوم الدولة ونظام مصالحها على أسس هذه الهوية، فيما يتحول الدين أو المذهب أو الأيديولوجيا الدينية، إلى أداة لحماية هذا المشروع القومي وليس العكس.
دلالات رسوخ الهوية القومية في المجتمع والتاريخ الإيراني، برزت من خلال التحول الذي شهدته إيران في العهد الصفوي، حيث أمكن للسلطة الصفوية قبل 500 عام، أي في بداية القرن السادس عشر، تحويل الهوّية المذهبية للشعب الإيراني من المذهب الحنفي إلى المذهب الشيعي الإثني عشري، وقد تم ذلك في فترة وجيزة وبقرار من السلطة الحاكمة.
هذا التغيير لم يكن لأسباب تتصل بأرجحية هذا المذهب الإسلامي أو ذاك لدى الصفويين، أو في الحد الأدنى لم يكن هذا السبب هو الأساس في تغيير المذهب، بل ثمة سبب آخر استراتيجي وسياسي دفع الدولة الصفوية إلى مثل هذا القرار، هو التنافس مع الشرعية الإسلامية الجديدة الصاعدة آنذاك، المتمثلة بالسلطنة العثمانية، التي كانت في أوج تمددها. التنافس العثماني الصفوي دفع الصفويين للبحث عن شرعية دينية للنفوذ، ذلك أن السلطنة العثمانية فرضت شرعية الخلافة الإسلامية في مطلع القرن 16، ولم يكن أمام الصفويين إلا البحث عن شرعية دينية مقابلة ومنافسة، فكان هذا التحول نحو المذهب الشيعي. وهو تحول يعزز من مقولة أن الثابت في إيران هو الهوية القومية، أما الدين أو الأيديولوجيا فهي متحرّكة وفي خدمة المشروع القومي في إيران والهوية الفارسية.
على هذا المنوال والمنهج يمكن فهم الأدوات الفكرية والدينية والأيديولوجية التي تستخدمها إيران لاختراق المجتمعات والدول، استخدمت الإسلام كوسيلة لاختراق المجتمعات الإسلامية ذات الغالبية السنية، وروّجت الأيديولوجيا الإسلامية، مستفيدة من هذا الشعار لتبرير تدخلها في كل الدول الإسلامية، وهذا ما كان عليه الحال لنحو ربع قرن من التغلغل الإيراني في المحيط العربي والإسلامي، بدأ منذ قيام النظام الإسلامي، ثم ما لبثت إيران ومع الاحتلال الأميركي للعراق، أن سخّرت الهوية الشيعية في سبيل ترسيخ نفوذها في العراق، فأنشأت ودعمت العشرات من المجموعات الميليشياوية الشيعية في هذا البلد، بل سيطرت إلى حدّ لا يستهان به على المؤسسات والمراكز المذهبية، وعملت على إدارة عملية بناء العديد من المراقد أو توسعتها في سياق تعزيز الهوية الشيعية على حساب الهوية الوطنية العراقية، والهوية العربية.
انفجار الثورة السورية عام 2011، كان الاختبار الأبرز للمشروع الإيراني، الذي استشعر خطرا من تحول السلطة في سوريا من حكم الأقلية العلوية إلى حكم الأكثرية السنية، الإسلام السياسي الذي طالما كان أساس الخطاب الإيراني للعرب السنة، انقلبت عليه طهران لا لشيء إلا لأنه يهدد الحكم العلوي حليفها في هذا البلد، وتحوّل الإسلاميون السنة في سوريا إلى إرهابيين في خطاب طهران، بل جيّشت طهران الشيعة من خلال خطاب مذهبي راح يحذّرهم من أن سقوط نظام الأسد هو تهديد لوجودهم، وإذا دقّقنا في رموز القوة الإيرانية الميليشياوية في الدفاع عن نظام الأسد، لوجدنا أن كل الميليشيات العراقية والأفغانية الباكستانية واللبنانية التي جنّدتها إيران للقتال في سوريا، كانت أسماؤها تمثل رموزا شيعية، لا سمة إسلامية جامعة لها؛ فاطميون، زينبيون، أبوالفضل العباس.
بعد المرحلة السورية الغارقة في وحول التفتّت من جهة، والصراع الإقليمي والدولي على النفوذ والسيطرة من جهة ثانية، تبدو إيران في موقع الشريك القوي الذي يحسن تنفيذ متطلبات مشروع الشرق الأوسط الجديد، من ضرب الهوية العربية وتفسخ الهوية الوطنية، كانت إيران تخاطب من خلالهما نظام المصالح الإسرائيلي والغربي على وجه العموم، وكانت في نفس الوقت تدرك أن انخراطها في هذا المشروع يتطلب أن تستخدم في خطابها لغة معادية للولايات المتحدة وإسرائيل، طالما أن الخطاب شيء وواقع التنفيذ شيء آخر، فلا ضير أن تعلن إيران عداءها اللفظي لإسرائيل، طالما هي تنفذ ما لم تستطعه إسرائيل التي في مواجهتها للعالم العربي، طالما كانت تشجع الأقليات الدينية والمذهبية لأن تعبّر عن خصوصيتها في مشاريع سياسية وعسكرية، في سبيل تفجير التناقضات الداخلية في المحيط العربي المعادي لها.
إيران تنافس إسرائيل على السيطرة على هذا المشروع، وتعمل على أن تكون الطرف الضامن لحلف الأقليات في المنطقة العربية دوليا، بعدما أمسكت إلى حدّ بعيد بالورقة الشيعية عربيا. اللقاء المشرقي في بيروت الذي يعد له الرئيس ميشال عون لن يقتصر على ممثلين لأقليات مسيحية في سوريا والعراق والأردن ولبنان، بل سيطال بعض الجماعات الكردية والإيزيديين والشيعة والعلويين وغيرهم من الجماعات التي تندرج ضمن تعريف الأقليات.
إيران شريكة في هذا المؤتمر الذي سيعقد بعد أسابيع في بيروت، بل الأرجح أنها أحد أهم الداعمين لانعقاده، طالما أن الجهات المنظمة المعلنة، هي حليفة حزب الله، بل تواليه سياسيا.
هذا المؤتمر لا تكمن خطورته في اجتماع هذه المكونات الطائفية والعرقية والدينية التي تتلاقى في بيروت لتبحث شؤونا دينية أو طائفية، بل الخطورة أن انعقاده يأتي في سياق ترسيخ الهوية السياسية لهذه المكونات في ظل تراجع الهوية الوطنية وتصدّع النظام الإقليمي العربي والانتماء العربي.
إيران تتلقّف هذا المسار من خلال تشجيع المنظمين على عقده في لبنان، فالجميع يعلم أن إيران، من خلال حزب الله، قادرة على أن تمنع انعقاده إذا أرادت أو تحول دون مشاركة جهات قادمة من العراق وسوريا وإيران وغيرها.
حلف الأقليات كما يجري تحضيره في بيروت، هو أبرز ما تحتفي به إيران اليوم، وأكثر ما يثلج صدر إسرائيل، وأكثر ما يهدد الهويات الوطنية ويواجه الهوية العربية، ذلك أن المشترك بين هذه الجماعات المدعوة إلى “اللقاء المشرقي” هو تململها من أي توصيف عربي لانتمائها، وشعور بأن بلاء المنطقة هو من الأكثرية العربية والأكثرية الإسلامية، ويأتي هذا المؤتمر للقول إن ثمة هوية مشرقية تمتد من بيروت إلى طهران، هذه الهوية المسيحية مكون أساسي لها، كما الأقليات سواء كانت دينية أو مذهبية إسلامية.
وسوم: العدد 839