التشوه الصارخ في سوق العمل، العراق أنموذجاً
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
بشكل عام، يُعد سوق العمل من الأسواق المهمة في الاقتصاد، إلى جانب سوق المنتجات وسوق النقود، كونه يقوم على عنصر العمل الذي يُعد أساس الوجود لسوق المنتجات والنقود.
يتكون سوق العمل من ركنين أساسيين هما عرض العمل والطلب عليه، ومتى ما تساوى هذين الركنين يكون سوق العمل سليماً من التشوه، والعكس صحيح، متى ما حصل اختلال بينها تشوه سوق العمل، وهذا التشوه يكون نوعين تشوه عادي وتشوه صارخ.
يحصل التشوه العادي في سوق العمل حينما يرتفع عرض العمل مع ثبات الطلب عليه أو ثبات عرض العمل مع انخفاض الطلب عليه، وما يجعل التشوه صارخاً في سوق العمل هو العلاقة العكسية بينهما، بمعنى انخفاض عرض العمل مع ارتفاع الطلب عليه في الوقت ذاته، أو ارتفاع عرض العمل مع انخفاض الطلب عليه في الوقت ذاته أيضاً، وكما هو حال العراق.
المشكلة: تشوه صارخ
حيث يعاني العراق من تشوه صارخ في سوق العمل وذلك بحكم زيادة عرض العمل من جانب، وانخفاض الطلب عليه من جانب آخر، في آن واحد.
وللتأكد من مدى حقيقة هذه المشكلة لابُد من ذكر بعض المعطيات التي تُثبت هذه الحقيقة، وإلى بعض الأسباب الرئيسة وراءها، وكذلك بعض الآثار والحلول.
المعطيات
أبرز المعطيات التي تُفصح عن صحة هذه المشكلة النقاط أدناه:
اولاً: ارتفاع عرض العمل، يتمثل عرض العمل بنسبة مشاركة القوى العاملة في سوق العمل، من عاملين او باحثين عن العمل، من مجموع السكان في سن العمل، حيث نلاحظ ارتفاع عرض العمل، للفئة العمرية 15سنة فأكثر، من42% [i]في عام2011 إلى 46.5% من مجموع السكان في عام2017[ii].
ثانياً: انخفاض الطلب على العمل، يتمثل الطلب على العمل بالجهود البشرية المطلوبة من قبل القطاع الخاص أو القطاع العام.
يتضح من خلال الواقع، انخفاض الطلب على العمل بعد عام 2003 بشكل كبير، لأسباب سنذكرها لاحقاً، وتشير بيانات الأمم المتحدة من خلال تقارير التنمية البشرية، إلى انخفاض نسبة العاملين من السكان من 44% عام 2012 بالنسبة للفئة العمرية 25سنة فما فوق، إلى 42.7% من السكان عام 2017 بالنسبة للفئة العمرية 15 فأكثر، وإن سبب اختلاف تناول الفئات العمرية يعود لعدم وجود البيانات.
الأسباب
هناك الكثير من الأسباب التي تقف خلف هذا التشوه، يمكن الإشارة إلى أبرزها في الآتي:
أولاً: النمو السكاني، حيث يُعد العراق من بين البلدان التي يرتفع فيها النمو السكاني كونه يقع ضمن المربع الأول بين البلدان في معدل النمو السكاني، حيث يحتل المرتبة 42 من بين 235 دولة في النمو السكاني لعام 2019[iii]، وهذا ما ينعكس على زيادة القوى العاملة والنتيجة زيادة عرض العمل.
ثانياً: الاقتصاد الريعي، أي اعتماد الاقتصاد العراقي على الريع النفطي بشكل كبير جداً، أكثر من 40% من الناتج، و90% من الصادرات السلعية والإيرادات المالية، وهذا ما أسهم في انخفاض الطلب على العمل، وذلك لأمرين هما:
1- إن الريع النفطي ذات طبيعة رأسمالية وليس عُمالية، مما يعني إنه لايتطلب أيدي عاملة سوى نسبة ضئيلة جداً تُقدر 1% من القوى العاملة وذات مهارات عالية، مقارنةً بما يتطلبه من رأس المال، مما يعني انخفاض الطلب وزيادة عرض القوى العاملة.
2- إن الاعتماد اللامسؤول على الريع النفطي أسهم في تقليص أهمية، بل ومحاربة، عبر قناة الأجور وقناة سعر الصرف، التنويع الاقتصادي الذي من شأنه خلق المزيد من فرص العمل وزيادة الطلب على العمل وامتصاص البطالة.
ثالثاً: النشاط الاقتصادي، في الوقت الذي انسحبت الدولة من النشاط الاقتصادي بعد عام 2003 ظل القطاع الخاص يراوح مكانه، وذلك لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية[iv]، مما يعني ضعف النشاط الاقتصادي ثم انخفاض الطلب على العمل، لان الطلب على العمل هو طلب مشتق وليس طلب أولي، أي يُطلب كنتيجة للطلب على السلع والخدمات، فضعف النشاط الاقتصادي كان أحد أسباب تشوه سوق العمل بشكل صارخ.
رابعاً: المهارات، رافق ارتفاع النمو السكاني في العراق تواضع مهارات القوى العاملة، والتي لا تنسجم مع متطلبات سوق العمل، فانعكست في ارتفاع معدلات البطالة. وإن سبب تواضع مهارات القوى العاملة يعود لأسباب عديدة أبرزها ضعف مخرجات التعليم، إذ لم يتم تحديث الجامعات العراقية بما يواكب المرحلة الجديدة والتطور العلمي في العالم، والدليل عدم وجود جامعة واحدة في التصنيف العالمي لجامعات العالم عام 2019 حسب مؤشر شنكهاي[v].
خامساً: الفساد، هناك علاقة طردية بين الفساد وتشوه سوق العمل فكلما يتفاقم حجم الفساد يزداد تشوه سوق العمل صراخةً، لأن الفساد يترك أثراً سلبياً على مناخ الاستثمار، مما يعني انخفاض جاذبية الاقتصاد وانخفاض النشاط الاقتصادي وهذا بدوره يؤدي لانخفاض الطلب على العمل وارتفاع عرض العمل فحصول التشوه بشكل واضح.
وكنتيجة لاحتلال العراق المرتبة 168 من بين 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد العالمي عام 2018[vi]، تسبب في تدهور مناخ الاستثمار واحتلاله المرتبة 168 من بين 190 دولة في مؤشر سهولة أداء الأعمال لنفس العام[vii]، وتشوه سوق العمل أخيراً.
الآثار
نجم عن تشوه سوق العمل العديد من الآثار ويمكن الإشارة لأبرزها أدناه:
اولاً: تفاقم معدلات البطالة، يتمثل معدل البطالة بنسبة العاطلين عن العمل من مجموع القوى العاملة، وبهذا الخصوص هناك تضارب واضح في بيانات البطالة، لكنها بشكل عام تتراوح من 10 إلى 40% من القوى العاملة في العراق، ويمكن القول إن معدل البطالة هو مؤشر على تشوه سوق العمل من جانب وأثر لذلك التشوه من جانب آخر.
ثانياً: الفقر، إن ارتفاع معدلات البطالة تؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر، لان البطالة تعني رغبة وقدرة وبحث الفرد عن العمل لكن دون جدوى، وبما إن العمل هو عنصر رئيس للدخل، لذا سيرتفع الفقر مع البطالة بشكل تلقائي.
إن مستويات الفقر ارتفعت لتصل إلى 22.5% على مستوى العراق عام 2014، وإلى 41% في المحافظات التي احتلها تنظيم داعش بعد إن كانت 19% في نهاية عام 2013، حسب خطة التنمية الوطنية 2018-2022 في ص49. ثم ذكرت في ص125، عدد الفقراء الجُدد والبالغ 2.8 مليون نسمة من بين الفقراء الذي يُقدر عددهم ثمانية ملايين فقير عام 2014.
الحلول
بعد تشخيص المشكلة من خلال المعطيات والأسباب والآثار الناجمة عنها، لابُد من تحديد بعض النقاط التي تسهم بشكل فعّال في معالجة هذه المشكلة من خلال الآتي:
أولاً: محاربة الفساد وتحسين مناخ الاستثمار، لان كلهما يسهمان في تفعيل الاستثمار الوطني من جانب وجذب الاستثمار الأجنبي من جانب آخر، وكلا الجانبين سيفضيان إلى زيادة الطلب على العمل، فيتحسن سوق العمل.
ثانياً: تطبيق الشراكة، كون الشراكة بين الدولة القطاع الخاص، خصوصاً في المرحلة الراهنة، يسهمان في معالجة التشوه الصارخ في سوق العمل بشكل سريع، لان الشراكة ستفضي إلى إعادة الروح للنشاط الاقتصادي، خصوصاً الوطني، الذي من شانه زيادة الطلب على العمل لمواجهة عرض العمل الناجم عن النمو السكاني.
ثالثاً: تفعيل التنويع الاقتصادي، أي لابُد من تحييد الآثار السلبية للريع النفطي، على التنويع الاقتصادي من جانب، وتوظيف الريع النفطي بالاتجاه الذي يسهم في تنشيط القطاعات الإنتاجية الأخرى من جانب آخر، مما يسهم في خلق المزيد من فرص العمل وتحسين سوق العمل.
رابعاً: رفع المهارات، وذلك من خلال الاهتمام بشكل كبير، كمياً ونوعياً، بمصنع العقول المتمثل بالجامعات والمدارس وكل مؤسسة لها علاقة بتنمية المهارات، لان رفع المهارات يعني تلبية متطلبات سوق العمل وبهذا يتم تحقيق التوازن بين عرض العمل والطلب عليه.
وسوم: العدد 859