عن الشرعية والتمثيل الفلسطيني
على مدى التاريخ، تعامل الفلسطينيون مع قضيتهم باعتبارها قضية عربية، ومع تاريخهم باعتباره جزءًا من تاريخ المنطقة لا ينفصل عنها، وخاضوا نضالاتهم باعتبارها صراعًا عربيًا – صهيونيًا، وأطلقوا على أحزابهم وهيئاتهم القيادية مسمياتٍ عربية خالصة؛ فالإطار الذي قاد جهادهم عام 1948 كان الهيئة العربية العليا، وليست الهيئة الفلسطينية، وهذه كانت حال أحزابهم قبل النكبة، حيث خلت أسماؤها من وسمها بصفةٍ قُطرية، وعلّقوا آمالهم على الجيوش العربية لإنقاذ بلدهم. وبعد النكبة، تمسّكوا بآمال الوحدة ومحاولات التغيير في العالم العربي طريقا للتحرير، وربوا أجيالهم على أن الكيان الصهيوني أقيم لمنع الوحدة العربية، وتقسيم العالم العربي. لم يأخذ سعي الفلسطينيين بعد النكبة إلى تنظيم صفوفهم منحىً قطريًا، وكانت للأحزاب والهيئات التي نشطت في صفوفهم امتداداتها العربية، قومية كانت أم يسارية أم إسلامية.
في حقبة الخمسينيات وبداية الستينيات، استخدمت الأنظمة العربية المنقسمة والمتصارعة القضية الفلسطينية في خلافاتها الداخلية، وادّعى كل منهم "وصلًا بليلي"، نافيًا صلة الآخرين بها، متهمًا ومشككًا في مواقفهم منها، محاولًا إما ادعاء تمثيل الفلسطينيين أو إنكار حق غيره في تمثيلهم، إلى أن قرّر مؤتمر القمة العربي المنعقد في القاهرة، في لحظةٍ تضافر فيها الجهد العربي، تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية التي عقدت مؤتمرها الأول في القدس عام 1964. وبذلك، تكون المنظمة قد وُلدت من رحم النظام الرسمي العربي، وضمن شرعيته الرسمية.
على الدوام كان يخيّم على القيادة الفلسطينية المقيمة في الخارج، والتي فجّرت الثورة الفلسطينية المسلحة، هاجس يتعلق بإخراجها من عملية السلام
بعد هزيمة حزيران 1967، في حرب الأيام الستة، والتي احتل فيها الكيان الصهيوني الضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان، نشأ ظرفٌ مختلف، حيث انطلق العمل الفدائي الفلسطيني، وتكوّنت الفصائل الفلسطينية المتسلحة ببرنامج الكفاح المسلح، وحرب الشعب طويلة الأمد، وسرعان ما سيطرت هذه الفصائل على قيادة منظمة التحرير، معلنةً عن شرعيةٍ ثوريةٍ حملتها وحمتها بنادق الفصائل الفدائية التي حازت في آن واحد دعم الجماهير العربية والنظام الرسمي العربي الراغب في التخلص من آثار الهزيمة، واحتواء نتائجها. وفي ظل هذه الشرعية الثورية، نمت الكينونة الفلسطينية وترعرعت، وتمكّنت من التقدّم بخطىً واسعةٍ باتجاه تنظيم الشعب الفلسطيني وإطلاق طاقاته.
جاء التطور الأبرز في 1974، حين اعترفت القمة العربية في الرباط بمنظمة التحرير ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، في محاولة عربية لحسم موضوعة التمثيل الفلسطيني في مباحثات السلام التي كانت مرتقبة بعد حرب أكتوبر 1973. فلسطينيًا، تزامن ذلك مع إطلاق برنامج النقاط العشر الذي أعلنت فيه المنظمة عزمها إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي بقعة أرض "تتحرّر" من الاحتلال، لكن مضمون ذلك كان واضحًا، ويتمثل في اعتماد برنامج مرحلي، يهدف "عمليًا" إلى إقامة سلطتها على الأرض الفلسطينية التي احتُلت في 1967، عبر السعي إلى المشاركة في عملية السلام، بدلًا من برنامجها المتعلق بتحرير فلسطين كلها.
عربيًا، شكّل القرار بداية تحول القضية الفلسطينية على مستوى النظام الرسمي العربي من قضية عربية إلى قضية فلسطينية، ليصبح واجب النظام الرسمي يقتصر على الدعم والتأييد والتضامن، وليرتفع لاحقًا شعار "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون"، لتبرير التراجع العربي عن اعتبار القضية الفلسطينية القضية المركزية للأمة العربية. مع أن في هذا الشعار كثيرًا من الحق الذي أُريد به باطل، إذ لم تكن الإرادة الفلسطينية حرّة بالمطلق، وتعرّضت على الدوام للضغط والتوجيه، وهي كانت محكومة بموازين القوى، ومدى قدرتها على الصمود والمواجهة.
إسرائيليًا، لم يكن الكيان الصهيوني مرتاحًا لتطوّر وضع منظمة التحرير، ولا لصفتها التمثيلية التي اعتُبرت خطًا أحمر في السياسة الإسرائيلية، فبذل أقصى طاقته لإنهاء المنظمة أو تحجيمها، عبر سلسلة من الضربات العسكرية والاغتيالات، وعبر محاولة إيجاد أطر تمثيلية مغايرة داخل الأرض المحتلة، كان مثالها الأبرز روابط القرى التي تصدّت لها المنظمة والأردن، على الرغم مما بينهما من اختلافٍ في تلك المرحلة، إذ خشيا من أن تشكّل هذه الروابط أداةً سياسيةً تمثيلية في الأرض المحتلة، مرتبطةً بالكيان الصهيوني، وبديلة لنفوذ النظام الأردني ومنظمة التحرير معًا.
لم يأخذ سعي الفلسطينيين بعد النكبة إلى تنظيم صفوفهم منحىً قٌطرياً، وكانت للأحزاب والهيئات التي نشطت في صفوفهم امتداداتها العربية
ما بين عام 1974 واتفاق أوسلو، انتهجت القيادة الفلسطينية مسارًا متعرّجًا؛ فمن جهة كانت تسعى إلى إيجاد مقعد لها في قطار التسوية، والمحافظة على صفتها التمثيلية للشعب الفلسطيني. ومن جهة ثانية، تصدّت للاجتياحات الصهيونية، ووضعت نفسها في مواجهتها. وخلال هذا المسار، قامت بمناوراتٍ، وقدمت تنازلاتٍ تُوّجت باتفاق أوسلو.
ضمن هذا المسار، انصاعت المنظمة لثلاثة متطلبات أساسية، على الرغم من محاولتها الجادّة للمماطلة، أو تغيير بعض شروطها، أو تأجيل استحقاقها: الأول، تغيير نهجها السياسي، وقد بدأت به تدريجيًا منذ برنامج النقاط العشر، مرورًا بالاعتراف بقرار مجلس الأمن 242، وإدانة الإرهاب، ونبذ العنف، واعتبار الميثاق الوطني لاغيًا (كادوك)، وانتهاءً بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. الثاني، تمثل في صفة الأشخاص المقبولين للمشاركة في أي مباحثات، فقد كان هناك اعتراض أميركي وإسرائيلي دائم على قبول أشخاصٍ لهم صفة رسمية في منظمة التحرير أو فصائلها، ورُفضت اقتراحات قيادة المنظمة أن يكون هؤلاء أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني، ويحملون جنسية أميركية، كما رُفض إعلان هؤلاء أنفسهم ممثلين للمنظمة، أو أن تعلنهم المنظمة ممثلين لها، وإن كان لها أن تختارهم. كما اخترعت فكرة وفد فلسطيني ضمن الوفد الأردني – الفلسطيني، كما حدث في مؤتمر مدريد. أما المتطلب الثالث فيتعلق بالرقعة الجغرافية، فأولئك المفاوضون عليهم أن يكونوا من المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، فلم يكن أحد من المفاوضين من الشتات أو من فلسطينيي الداخل، على ما في هذا المتطلب من اختزال للقضية الفلسطينية في الضفة والقطاع.
دعا عباس إلى انتخاب ما سماه "رئيس دولة فلسطين"، وليس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، كما جرت العادة
تدريجيًا، وافقت منظمة التحرير على هذا السياق، وعلى الدوام كان يخيّم على القيادة الفلسطينية المقيمة في الخارج، والتي فجّرت الثورة الفلسطينية المسلحة، هاجس يتعلق بإخراجها من عملية السلام، وأن يشارك نظام عربي في التسوية نيابة عنها، أو أن يستخدم نظام آخر الورقة الفلسطينية، لتعزيز موقعه هو في هذه العملية. كما خيّم عليها على الدوام هاجس بروز شخصيات من الأرض المحتلة تقوم بدورها، وتحتلّ مكانها، ولعله كان الهاجس الرئيس وراء إقدامها على فتح قناة أوسلو السرّية، بموازاة مفاوضات مدريد ومباحثات واشنطن، لكن الثمن كان باهظًا، فمقابل الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، نالت المنظمة اعترافًا بأنها الطرف الذي سيمثل الفلسطينيين في المفاوضات، وهو الاعتراف الهزيل الذي تحجّج به مختلف القادة الصهاينة عند تعثر المفاوضات بادّعائهم عدم وجود شريك فلسطيني، أو عملهم الدائم إلى إيجاد طبقة ترتبط مصالحها بوجود الاحتلال.
في المرسوم الانتخابي الصادر عن الرئيس محمود عباس، دعا إلى انتخاب ما سماه "رئيس دولة فلسطين"، وليس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، كما جرت العادة، وكما ينصّ عليه اتفاق أوسلو الذي تنعقد الانتخابات تحت سقفه، وتستمد شرعيتها منه. سينتخب رئيس دولة فلسطين الفلسطينيون في الضفة والقطاع، فهل يعني هذا أن هذه هي حدود الدولة، وأن هؤلاء فحسب هم الفلسطينيون؟ يحمل هذا تراجعًا إضافيًا خطرًا، مهما جرت محاولات تزيينه، باعتباره إنجازًا وهميًا، في وقتٍ ما زال جواز سفر هذه الدولة يحمل اسم السلطة الفلسطينية، ولا يصدر إلا بعد موافقة الاحتلال الذي رفض إضافة لقب "الوطنية" عليه، وبناءً على قيوده وسجلاته. أما الشرعية التي ستمنحها هذه الانتخابات ومدى أولويتها، ونتائجها، وآثارها في واقع الانقسام والمصالحة، فيبقى حديثًا له ما بعده.
وسوم: العدد 917