الثورة السورية مابين (الداعس) و(الداعش)

طريف يوسف آغا

[email protected]

سألني أحد أصدقائي لماذا لاأكتب عن (داعش)، وهي التنظيم الجهادي التكفيري الذي يحارب نظام الأسد في شمال وشرق سورية باسم (الدولة الاسلامية في العراق والشام) منذ حوالي السنة. من جهتي فقد كنت أنتظر وضوح المزيد من الحقائق عن هذه التنظيم (اللغز) والذي يستعمل قادته وأعضائه اللثام لاخفاء وجوههم، علماً بأن من نوى الجهاد لايجب أن يخيفه شئ دنيوي، إلا إذا كان (ماخفي أعظم).

 عرف هذا التنظيم عن نفسه حين ظهر على ساحة الثورة السورية لأول مرة بأنه تنظيم جهادي يهدف إلى إزالة نظام الأسد وتطبيق الشريعة الاسلامية، وقائده عراقي يلقب (أبو بكر البغدادي)، ثم عرفنا أن غالبية أعضائه هم من المسلمين غير السوريين من الدول العربية والآسيوية والأوربية. وقد كثر اللغط ووضع إشارات الاستفهام حول هذه التنظيم من حيث غاياته الحقيقية وممارساته على الأرض، حتى أن البعض ذهب لأبعد من ذلك واتهمه بأنه من صنيعة النظام الأسدي وحلفائه الرئيسيين، إيران وروسيا والعراق. وملخص هذا الاتهام أن النظامين السوري والعراقي أفرجا عن قادته من سجونهما وأطلقوهم ليشكلوا هذا التنظيم التكفيري بدعم مالي إيراني ولوجستي روسي ليعيث في المناطق التي يسيطر عليها فساداً وهمجية باسم الدين وباسم تطبيق الشريعة من جهة، وليحارب ويقضي على قادة الجيش الحر وباقي الفصائل الجهادية الأكثر إعتدالاً. والهدف من ذلك، حسب أصحاب الاتهام، هو وضع الشعب السوري والعالم أمام خيارين أحلاهما مر: النظام الأسدي (الداعس) على الناس، أو (داعش).

 على كل حال فليس هناك أدلة قاطعة تثبت ذلك الاتهام، إلا أننا إذا فسرنا الأحداث بنتائجها، فلا شك أن اسلوب هذا التنظيم بالسيطرة على المناطق ثم ممارساته مع المدنيين يدعم الاتهام السابق الذكر ضده. فمن الواضح أنه لايحتك كثيراً مع جنود النظام الأسدي، بل يفضل الاستيلاء على المناطق التي سبق وحررها الجيش الحر أو غيره من كتائب وألوية الثورة بعد أن ينتقل مقاتلوها لتحرير مناطق اخرى. أي أنهم يسرقون ماحرره غيرهم مستغلين انشغال هذا الغير بمناطق ومعارك جديدة، وهذه لصوصية وجبن وليس لها أي توصيف آخر. هذا من جهة، ومن جهة ثانية يقوم مقاتلوه في المناطق المسيطرين عليها بممارسات أقل مايمكن أن يقال فيها أنها همجية، وذلك من قطع للرؤوس إلى قطع للأيدي إلى الجلد، كل ذلك باسم تطبيق الشريعة. طبعاً هذا غير مقبول بأي شكل من الأشكال. فتطبيق القانون، والشريعة بحد ذاتها ليست سوى القانون الاسلامي، هو من مهام الجهات المختصة في (الدولة)، وليس من اختصاص أفراد ملثمين كما يقول المثل الشعبي (مو معروف أرعة راسون من وين). أما أنهم أعطوا لأنفسهم إسم (الدولة) فلا يعني أنهم أصبحوا كذلك، فهم يكونون بهذا كمن كذب الكذبة وصدقها. وقد تبين أنهم اعتدوا على كنائس ومقدسات مسيحية، واختفاء الأب الايطالي (باولو داليليو) وغيره من الاعلاميين والناشطين السلميين في مناطق واقعة تحت سيطرتهم يوجه أصابع اتهام صريحة لهم بهذه الممارسات التي الاسلام السمح منها براء.

 ودعونا لاننسى هنا أن (البغدادي)، زعيم (داعش)، أعلن منذ البداية أنه تابع لتنظيم (القاعدة) ويأتمر بأوامر زعيمها، أي (أميره)، الدكتور (أيمن الظواهري)، وبالتالي فهو مستخدم عنده. وهنا أتت الطامة الكبرى قبل أيام حين خرج (الظواهري) بنفسه وعلى الفيديو ليقول لمأموره بأنه لم يرسله إلى سورية للجهاد هناك، بل كانت مهمته الجهادية محصورة في العراق. وهذا يعني أن افتتاح (البغدادي) فرعاً لتنظيمه في سورية إنما كان اجتهاداً منه ودون استشارة (أميره)، يعني بالمشرمحي (كترة غلبة) لاأكثر ولاأقل. ثم طالبه (الظواهري) في الفيديو بالانسحاب من هناك والعودة للجهاد في العراق حصراً وترك سورية لأهلها. وهنا أسقط في يد (البغدادي)، وتوقع الكثيرون منه بعد ذلك أن يعتذر من (أميره) وينسحب هو ومقاتليه إلى العراق. إلا أن الرجل لم يفعل هذا، بل تحدى الأوامر ورفض تنفيذها، أي أنه خرج عن حكم (أميره) ووجب أن يطبق عليه حد الخروج عن الحاكم حسب الشريعة التي يدعي أنه هناك لتطبيقها. وهذا دليل آخر أن الرجل لم يذهب إلى سورية للجهاد أو لتطبيق الشريعة، وهذا بدوره يرجح تهمة أنه فعل ذلك لمساعدة النظام الأسدي في شق صفوف الثورة السورية وتصفية قادتها.

 في الفقرة الأخيرة من هذا المقال سأفترض جدلاً، وأكرر القول بأني سأفترض، أن كل مايشاع عن تنظيم (داعش) إنما هو مجرد اتهامات باطلة ومغرضة مصدرها النظام الأسدي وآلته الدعائية. وفي هذه الحالة أريد أن أذكر قادته، وقادة بقية الكتائب الجهادية مثل (النصرة) وغيرها أن الشعب السوري، وكذلك معظم الشعوب العربية والاسلامية، قد عاشت جل القرن الماضي إما تحت نير احتلال أجنبي أو أنظمة ديكتاتورية فاسدة كان أحد أهم أهدافهما هو الامعان في إفساد تلك الشعوب والانحدار بأخلاقها إلى أدنى مستوى ممكن. وقد تم ذلك من خلال سياسات ممنهجة تلبس ثوب التحضير والتحديث والتنوير بينما هي في الواقع بمثابة (دس السم في الدسم). ومن الأمثلة على هذا أن الانتداب الفرنسي حين احتل سورية عام 1920، كان مما فعله هو تخصيص أحياء في بعض المدن الرئيسية لممارسة الدعارة المرخصة قانونياً. ثم منعت هذه المهنة بعد الاستقلال، ولكنها استمرت على الواقع بغض الطرف عنها، لتعود وتزدهر في عهد الأسد الأب والابن تحت عنوان (تشجيع السياحة) ولتصبح الدولة حامياً لها وشريكاً تجارياً فيها. وهذا أيضاً ينطبق على السينما الاباحية والتي بات يعتبر تدخل مقص الرقابة الأخلاقية فيها نوعاً من (التخلف) والاعتداء على الفن. ثم افتتحت كازينوهات المقامرة وتم تشجيع تعاطي المخدرات حيث انخرط رجال الدولة في تجارتها وتسويقها، كما تم تشجيع الناس على دفع وقبول الرشاوى وكذلك ممارسة الاحتيال على أنه (شطارة). فالشعب الذي تم (تعيشه) لحوالي القرن بهذه الطريقة، إنما بات شعباً مسلماً في القالب، ولكنه (جاهلي) في القلب وأبعد مايكون عن الاسلام أو عن أي دين آخر. ولهذا فأن يأتي أي تنظيم، (داعش) أو غيره، ليعيد الناس إلى الشريعة بواسطة الكرباج وقطع الرؤوس، إنما يقول لهم وباختصار: عودوا إلى الأسد. نعم هذا الشعب بحاجة للعودة إلى الأخلاق والدين الصحيح، ولكن بنفس الطريقة التي اتبعها الرسول الكريم (ص) قبل 14 قرناً: بالتدريج وبالرفق والنصيحة والاسوة الحسنة، أما إذا تم ذلك بالغلظة، لانفض الناس من حول الدعاة.

 إذاً فالثورة السورية، وبقية الثورات العربية، قامت أصلاً من أجل الحرية والكرامة، ومن سيحرم الشعب منهما، وتحت أي مسمى وفي أي ثوب، فلن يقبل به وسيتم وضعه في صف النظام وتتم محاربته إسوة به. وبكلام آخر، الشعوب التي بقيت (مدعوسة) من قبل أنظمتها المجرمة، لن ترضى أن تستبدل ذلك بأن تصبح (مدعوشة) من أي كان، والحاضر يعلم الغائب.