لست زبّالا، بل أنتم الزّبالون
عثمان أيت مهدي
قد يحتفظ الزائر لمدننا على شساعتها وتنوع تضاريسها من ساحلية وهضابية وصحراوية، بصورة واحدة تجمع بينها، هي كثرة الأوساخ بشوارعنا وتراكمها في زوايا مخصصة لجمعها. لقد تعودنا رؤيتها بل وأصبحت منظرا طبيعيا يزين حواضرنا وأحياءنا. لا المثقف عندنا يتوانى عن إلقاء وسخه في المكان الذي يجلس فيه، ولا الجاهل يجد حرجا من فتح مطعم بمحاذاة مزبلة كبيرة، ولا الزبائن يستغربون هذا المنظر المقرف والمقزز للنفس والمشاعر، ولا السياسي من غيره، يشير بأصبعه إلى الظاهرة المتفشية بقوة، فيصرخ عاليا في وجه المسؤولين مؤنبا، موبخا هؤلاء الساهرين على حماية البيئة والمحيط من الدرن والأوساخ.
تعالت منذ أمد بعيد الكثير من أصوات رجال الدّين والأطباء والمصلحين بأنّ النظافة من الإيمان، والوسخ من الشيطان، الأوساخ مصدر الأمراض والأوبئة، مدينة نظيفة، مواطن واع ومتحضر، إلا أنّ الجميع اتفق، أساتذة وطلبة، عمالا وموظفين، سياسيين ومجتمعا مدنيا، على تحويل البلد إلى مزبلة على الهواء الطلق. إنّنا نريد عن وعي وإرادة الاستثمار في الأوساخ والأوبئة.
تقوم الدولة بحملات تنظيف واسعة لأيّام معدودات، ذرا للرماد على العيون، وتأنيبا للمجتمع وتحميله وزر تراكم الزبالة في كلّ مكان. تطلب من الأئمة إلقاء دروس في يوم الجمعة حول موضوع النظافة وأهميتها في حفظ توازن البيئة، وحماية الإنسان من الأمراض. تقوم الجمعيات التي تقتات من فتات السلطة بحملات تطوعية لتنظيف المحيط، يُظهرها التلفزيون وهي على قدم وساق تجمع القمامة المتراكمة في كلّ مكان، بعدها تعطى الكلمة للمتطوعين لتوبيخ هذا السلوك الشائن من طرف المواطنين.
تنتهي الحملة التحسيسية، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة، لأنّ ثقافة النظافة لم تترسخ في طبائع المواطنين، ولم يقتنع أحد بجدوى هذه الحملة التي لا تتبعها إجراءات ردعية تمنع أيّا كان تلويث محيطه، أو رميّ فضلاته بالقرب من قدميه، أو يترك قنوات صرف المياه على الهواء الطلق تتراكم حولها الحشرات الناقلة للأمراض. الدولة من خلال حملتها إنما تريد تحميل المسؤولية للمواطنين وتبرئة ذمتها ممّا يقترفه المواطن عن وعي أو دونه. وتبقى صورة الأوساخ هي المسيطرة على مناظر الجزائر البيضاء.
سئل أحد عمال النظافة بالجزائر العاصمة، عن شعوره وهو يؤدي مهنة من أنبل المهن، وعن العقبات التي تعترضه في عمله، فقال: نحن عمال النظافة، نسعى جاهدين من أجل توفير الصحة والصورة الجميلة للمحيط، والمواطنون يسموننا بالزّبالين، وهم يعلمون أنّ الزبّال من يرمي بالزبالة في أيّ مكان دون نظام ولا وعي، ألا إنهم هم الزبالون ولكنهم لا يشعرون. ولولانا نحن عمال النظافة لمات الجميع تحت أنقاض المزابل.
الفعل زبل، مصدره زِبل، أو زُبل والجمع أزْبال وتعني: رَوْث الحيوانات، يستخدَم في تسميد الأرض وإصلاح الزرع. والمزبلة: ملقاه وموضعه. وزبل الفلاح زرعه يزبله: سمده. إلا أنّ هذا المعنى انتقل من لسان العرب إلى عامية الجزائريين بمعنى: ما يُرمَى من فضلات الأكل وغيرها. والذي يقوم بتنظيف المكان يسمى زبّالا، واسم الفاعل من الفعل زبل، الذي يرمي زبالته منعدم، لا وجود له. خلاصة القول، أنّ الزبالة موجودة، والمنظف الزبال موجود، أمّا الجاهل الذي يرمي زبالته في أيّ مكان فلا أثر له في لغتنا العامية.
تفكر الدولة هذه الأيام في القيام بحملات أخرى تحسيسية، مطالبة المواطنين بفرز نفاياتهم وتصنيفها قبل عملية جمعها من طرف عمال النظافة كما هو معمول به في كثير من الدول المتقدمة، وذلك من خلال اختيار بعض الأحياء والمدن كتجربة أوّلية، ثمّ تعمم على مستوى جميع المدن الجزائرية. الفكرة جميلة وبراقة، إلا أنّ مآلها الفشل الذريع كما هو الحال لجميع التجارب التي قامت بالدولة وانتهى بها الأمر إلى سلّة الإهمال واللامبالاة. المواطن عندنا لا يحتاج إلى حملات تحسيسية ولا مبادرات مرحلية بل يحتاج إلى أن يعي بأهمية النظافة، وصرامة القانون لمن تخول له نفسه الدوس أو القفز عليه. المواطن يحتاج إلى جدّية المسؤولين في تعاملهم مع القضايا. الزبالة في بعض الدول الغربية توزن بالكيلوغرام وتحسب على صاحبها نقدا، ليس هناك شيئا بالمجان. لا بدّ للمواطن أن يعي دوره في تنظيف المحيط بمبادرة منه ورضاه أو قسرا، رغم أنفه بقوة القانون. متى تعي الدولة أنّ النظافة استثمار غير مباشر، له من الأرباح والفوائد الشيء الكثير؟ ومتى يعي المواطن أنّ النظافة هي الأخرى استثمار له، تقيه من الأمراض المعدية، وتريح أعصابه من رؤية المناظر المؤلمة والمقرفة؟ ومتى يعي المسلم أنّ النظافة من الإيمان والوسخ من الشيطان، وهي من الدروس الدينية التي نتلقاها في السنة الأولى من المرحلة الابتدائية. هل هذا يعني أنّنا ما زلنا لم نفقه الدرس بعد، وما زلنا نراوح نفس المكان، وبقينا في نفس السنة منذ أربعة عشر قرنا!