كلمة موجهة إلى كل معترض على تعديد الزيجات
كلمة موجهة إلى كل معترض على تعديد الزيجات من الرجال ، وإلى كل معترضة عليه من النساء في ظرف النقاش الدائرة حول تعديل مدونة الأسرة
في خضم الجدل الدائر وطنيا حول موضوع تعديل مدونة الأسرة المرتقب الإعلان عنه ،وهو جدل تمخض عن بروز تيارين متعارضين : تيار مرجعيته إسلامية ، وآخر مرجعيته حداثية أو علمانية ، وبين التيارين شريحة عريضة صامتة متفرجة، وهي في حكم الغائية ، وأخرى حائرة في أمر مدونة يكون فيه شكل من أشكال التوفيق بين مرجعيتين على طرفي نقيض.
ففي هذا الظرف بالذات، طلب مني بعض الفضلاء أن أتطرق إلى قضية من القضايا المتنازع فيها بين المرجعيتين كأشد ما يكون النزاع ألا وهي قضية تعديد الزيجات أو تعددهن . فالتعديد من منظور المرجعية الإسلامية أمر شرعه الله عز وجل ، وشرعه لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ، والباطل إنما مصدره البشر الخطّاء ، يعزى سوء تنزيلهم لما شرع سبحانه وتعالى ، بينما التعديد من منظور المرجعية الحداثية أو العلمانية التي تصدر عن نفي شرع الله عز وجل ، وتقيم مقامه قوانينها الوضعية ،هو ظلم يلحق بالنساء، ويجب أن يرفع عنهن ،الشيء الذي حذا بأصحاب هذه المرجعية إلى المطالبة بإبطاله ، وتجريم ومعاقبة من يعدد من الرجال.
وقبل أن أباشر التطرق إلى موضوع التعديد ، أذكر بواقعة حصلت قبل أكثر من ثلاثة عقود خلت، حيث التقيت صدفة مع أحد الأصدقاء القدامى ممن جمعتني بهم ظروف الدراسة بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بمدينة فاس ، وكان رفقة حرمه ، فدار بيننا ـ نحن الثلاثة ـ حديث عرجنا بنا إلى موضوع مدونة الأسرة التي كانت يومئذ قيد المراجعة الأولى . ومما أثير في حديثنا موضوع تعديد الزيجات أو تعددهم ، وكانت حرم الصديق بحكم طبيعة مهمتها القانونية مهتمة بالمدونة ، فاعترضت بشدة على التعديد بحكم طبيعتها الأنثوية كأغلب النساء في مجتمعنا المغربي وغيره من المجتمعات العربية والإسلامية ، وخالفتها وجهة نظرها ليس باعتبار طبيعتي الذكورية ، وإنما باعتبار التعديد تشريع من الله عز وجل منزه عن العيب . واشتد الخلاف بيني وبينها ، وزوجها يتابعه ذلك دون أن يتدخل ، وكان مرد غرابة الخلاف بيني وبينها أنها لم تكن تتنكر للمرجعية الإسلامية ، ولكنها في نفس الوقت كانت تتبنى المرجعية الحداثية العلمانية تلفيقا بين المرجعيتين لا توفيقا بينهما لأن ذلك مستحيلا قطعا .
ومن أجل توجيه النقاش وجهة متزنة تفضي إلى نتيجة حتى لا يكون نقاشا بيزنطيا أو محض لغو ، اقترحت عليها أن أسلم لها فيما هي أعلم وأدرى به مني باعتبار طبيعتها الأنثوية ، مقابل أن تسلم لي فيما أنا أعلم وأدرى به منها بأعتبار طبيعتي الذكورية ، فقبلت هذا الشرط، فسألتها حينئذ : لماذا تعترضين على التعديد ؟ فكان جوابها ، وهو جواب كل معترضة عليه أن فيه إهانة للمرأة ، ولم تقف عند هذا الحد ،بل زعمت أنه لا توجد أنثى في هذه الدنيا تقبله ، فسألتها : وما أدراك بصحة هذا التعميم وفي الدنيا نساء يجمع بينهن التعديد ؟ فأصرت على رأيها ، ورفضت قبول وجود هذا الاستثناء الذي لا يمكن أن يخلو منه أي تعميم مهما كان.
ومما جاء في حديثها أن التعديد هو سلوك مضاوي متخلف، كان في فجر تاريخ البشرية لما كانت العبودية شائعة بين الناس ، وكانت النساء تسترق ، وتقتنى من أسواق النخاسة ليكن ضحايا التعديد ، علما بأن العبودية يومئذ لم تكن حكرا على الإناث دون الذكور ، ومن أجل تذكير الأستاذة بذلك ذكرت لها رق النبي الكريم يوسف عليه السلام الذي كان ضحية تحرش امرأة العزيز ، وقد زج به في السجن بضع سنين ظلما بتهمة باطلة ملفقة هو منزه عنها.
ولما جاء دوري، وردا على تعميمها رفض النساء التعديد، قلت إن معظم الرجال يفضلونه حرصا مني على ألا أقع فيما وقعت فيه من تعميم ، واحترازا من تغييب الاستثناء ، رفضت ذلك رفضا قاطعا ، ولم تراع ما اتفقنا عليه من أن يسلم كل واحد منا الآخر بما هو أعلم وأدرى به بحكم طبيعته الجنسية ، فالتفتت إلى زوجها تسأله هل هو متفق معي ، فرفض أول الأمر أن يجيبها ، وبعد إلحاحها منها اضطر إلى مصارحتها بأنه مع التعديد ، فسارعت للتو إلى اتهامه بالخيانة ، فاعترضت حينئذ على تحويرها النقاش من موضوع التعديد إلى موضوع الخيانة الزوجية . وحاولت أن أقنعها بأن التعديد باعتباره مما شرع الله تعالى لا يمكن أن ينطوي على ظلم ،لأن الله عز وجل حرم على نفسه الظلم ، وجعله محرما بين عباده دون أن أدعي أن كل معدد يكون موفقا في تعديده ،وقد قال الله تعالى : (( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم )) ، وهي الآية التي كانت تحاججنني بها لإبطال التعديد، وهي تتلوها هكذا مبتورة ، ولا تكملها كآية مستقلة ، هي التاسعة والعشرين بعد المائة من سورة النساء والتي لا تكتمل إلا بقوله تعالى : (( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة فإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما )) ، تفعل ذلك الأستاذة المحاورة شـأنها شأن من يقف عن قوله تعالى : (( ويل للمصلين )) ، ولا يكمل قوله تعالى : (( الذين هم صلاتهم ساهون.... الآية )) .
وبالرغم من أنني حاولت إقناعها بأن العدل الذي لا يستطيعه المعددون هو ما لا يملكونه مما يعود ملكه والتحكم فيه إلى الخالق سبحانه وتعالى ، ويتعلق الأمر بالميل العاطفي ، ويدل عليه قوله تعالى : (( فلا تميلوا كل الميل )) ، وليس التفريط بما يستوجبه التعديد من عدل في المبيت، والمأكل ،والمشرب، والملبس ... وغير ذلك مما لا عذر فيه لمعدد .
ولقد نشرت يومئذ ما دار بيني وبين الأستاذة حرم الصديق بعد إذنها على أحد مواقع الشبكة العنكبوتية ، ففوجئت بكثرة عدد الإناث اللواتي آثرن رأيي في القضية أو وجهة نظري مقابل قلة عدد المعترضات عليها .
وأعود اليوم كي أأكد ما قلته قبل سنوات مع بعض التوضيح دعا إليه غلو وتطرف الحداثيين العلمانيين الذين يريدون إبطال التعديد جملة وتفصيلا مع تجريمه والمعاقبة عليه ، وفي المقابل يطالبون بالعلاقات الجنسية المحرمة شرعا مما يسمونه رضائية ، وهي فاحشة وجريمة زنى يعاقب عليها شرع الله عز وجل ، بل يطالبون أيضا بما يسمونه مثلية ، وهي فاحشة الذكور من قوم لوط ،وقد أهلكهم الله تعالى بسببها ، ويقصدون بها أيضا المثلية بين الإناث . وبدعوتهم إلى ما سمونه رضائية ومثلية، يجيزون التعديد ،لكنه تعديد محرم من وجهة نظر الشرع الإسلامي ، وبذلك هم ينهون عن تعديد مشروع فيه صيانة لكرامة النساء ، ويدعون إلى تعديد غير مشروع فيه إهدار لكرامتهن ، وحسب من ترضين منهن بالرضائية أن أعراضهن يستبيحها غير أزواجهن ، وكيف يرضين بذلك إن كن في عصمة أزواج ؟ أما إن لم يكن كذلك ، فهن في حكم الممتهنات للبغاء أومن بائعات الهوى كما يقال ، وكفى بذلك ابتذالا لكرامتهن ، ومذلة وهوانا بين الناس .
وإذا كان التعديد مما تقتضيه بعض الأمور من قبيل عقم الزيجات أو عيوب فيهن أو علل أو أمراض لا يرجى شفاؤها أو أنواع أخرى من العجز ... فإن تشريعه لا ينحصر في مثل هذه الدواعي فقط ، ولا يطعن في من عدّد من الأزواج دون وجودها مع التزامه ما اشترطه الله تعالى في التعديد . وقد يصبح التعديد حلا لمعضلة العنوسة عند تفوق عدد الإناث على عدد الذكور في المجتمع ، لأن العنوسة ظلم صارخ تعاني منه العوانس من النساء . ولا يمكن أن تحل هذه المعضلة بما ينادي به الحداثيون العلمانيون من رضائية ، لأن النساء لا يعوزهن تصريف غريزتهن الجنسية فقط ، بل تعوزهن الحياة الزوجية المستقرة التي لا يمكن أن تسد مسدها علاقة رضائية لا استقرار فيها . ومعلوم أن النساء اللواتي يجمع بينهن التعديد في عصمة أزواجهن يكن مصونات الأعراض والكرامة ، ولا يشعرن بما تشعر به النساء اللواتي يسافحن تحت مسمى الرضائية من مهانة ،وإذلال ،وانتهاك لأعراضهن، وامتهان لها، وابتذال لكرامتهن من طرف كل من هب ودب .
ومهما قيل عن فوائد التعديد ، فلا يمكن أن تحصر ،لأن الله تعالى وهو الأعلم والأدرى بخلقه لا يشرّع لهم ما فيه إضرار بهم ذكورا وإناثا على حد سواء . ولا يمكن أن يعطل التعديد، لأن بعض من يعددون لا يلتزمون بما اشترطه فيه الله عز وجل من شروط . وحال من يدعون إلى تعطيله أو منعه، تنطبق عليهم قولة الفيلسوف ابن رشد القائل : " مثل من منع الفلسفة عن الناس كمثل من منع عنهم الماء ،لأن قوما شربوا الماء فشرقوا فماتوا " وقد قال هذه القولة عندما عمد بعض حكام عصره إلى منع الفلسفة عن الناس ، فحرموا تعاطيها لأن بعض من تعاطاها كفر أو تزندق . وهذا حال الحداثيين العلمانيين اليوم مع التعديد يحرمونه تحت ذريعة أن بعض المعددين لم يلتزموا بشروطه كما بينها الشرع الإسلامي .
ولن أنهي خوضي في موضوع التعديد دون أن أقف عند بعض ما في الحكمة من تحديده في أربع زيجات يكن في عصمة زوج واحد ، ففضلا عما في ذلك من تكثير لنسل الأمة المسلمة حرصا على قوتها وهيبتها التي تصون بيضتها، ومن درء للمفاسد عنها ، ومن لقضاء على العنوسة التي ليس فيها تساوي حظوظ النساء في الزواج ، هناك فوائد أخرى من شأنها أن تصون الحياة الزوجية من هزات قد تعصف بها ،فتفضي إلى الطلاق ، وقد أصبح اليوم آفة من أخطر الآفات في مجتمعنا ، والتي من شأنها أن تغذي الفواحش من رضائية ومثلية وتمدها بالضحايا من المطلقات والمطلقين . و مما نذكر من تلك الهزات أيضا ما يسكت عنه كثيرون تحرجا من ذكره لاتصاله بموضوع غريزة الجنس التي هي من أقوى الغرائز، و التي لا يحدد من إلحاحها القوي سوى ما شرع الله تبارك وتعالى من إشباع وتصريف لها . ومما يجب أن يستحضر بخصوص هذا الأمر أن تصريف هذه الغريزة الملحة يتعطل بنسبة أسبوع كل شهر بسبب أذى الحيض عند الزيجات ، وهو ما يراكم تعطيلها خلال السنة مدة ثلاثة شهوركاملة . ومع مرور السنوات على الزواج، تزداد هذه المدة طولا، فضلا عن تعطيلها خلال فترات النفاس التي تكون بعدد فترات الإنجاب . وتراكم هذه المدد مع إلحاح الغريزة الجنسية القوية لدى الأزواج قد يجرهم بهم إلى مستنقعات الفواحش ، ولا يعصمهم من ذلك إلا البديل الوحيد الذي هو التعديد ، وكلما زاد التعديد أمن الأزواج على أنفسهم من الوقوع في تلك المستنقعات . ومما قد يوقع فيها أيضا بلوغ الزيجات سن اليأس الذي يقدره أهل الخبرة ما بين سن الخامسة والأربعين ، وسن الخمسين حيث تفتر رغبة الزيجات في معاشرة أزواجهن ، وتصير عبئا ثقيلا عندهن ،الشيء الذي قد يتسبب في فتور عاطفي بينهن وبين أزواجهن ، وفي نفور أو خلاف أو شقاق قد لا تحمد عقباه ، ولا يقي منه إلا حل التعديد . وأكاد أقول إن تحديد شرع الله تعالى عدد أربعة زيجات في التعديد للزوج الواحد ، الدافع من ورائها هو مراعاة لفترات تكون فيها موانع المعاشرة الزوجية على اختلاف أنواعها المؤقت منها كالحيض والنفاس ، والمرض ، والدائم منها كبلوغ سن اليأس وفي ذلك وقاية من الفساد . ولا يستخفنّ أحد بما جعل الله تعالى للأزواج والزيجات من سكينة في المعاشرة الجنسية ، وهي مما يقوي المودة والرحمة بينهم مصداقا لقوله عز من قائل في معرض الامتنان عليهم جميعا : (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة )) ، ومن ذا الذي يزعم أن المعاشرة الجنسية ليست مما امتن به الله تعالى على الأزواج والزيجات في هذه الآية الكريمة ؟ ومن يزعم ذلك فعليه بالبينة ، ولا تقبل منه يمين بطبيعة الحال مع وجود قوله سبحانه وتعالى ، وقد اتضحت دلالته لكل ذي لب لا يكابر .
وسوم: العدد 1084