غزة تحت الحصار: من الفيروس القاتل إلى الحذاء الكبير… قصص الألم والصمود

أعود إليكم هذا الأسبوع وفي جعبتي أخبار كثيرة لا تختلف كثيراً عن سابقاتها سوى بأسماء أبطالها.. موت كثير كثير.. وشلالات من دموع القهر والحسرة والحزن والأسى المرير، تغرق القطاع ومن فيه.. الآهات تئن من كل زاوية، والألم يزداد ثقلاً على صدور الأمهات الثكلى والآباء المكلومين. الأشجار المتشابكة التي كانت يوماً ملجأ للأطفال، أصبحت الآن شاهدة صامتة على فصول من الرعب واليأس.

من أين نبدأ؟ هل من الفيروس الجديد، الذي بدأ بانتشار سريع يشبه بخبثه انتشار جيش الاحتلال المجرم.. إنه القاتل الجديد.. قاتل آخر خطير يتربص بالأهالي.. وكأن البلاد كانت تنقصها كارثة صحية جديدة تفتك بمن تبقى من أبناء القطاع وأطفاله.

هل نتحدث عن الأطباء والممرضين، في غزة، الذين يكافحون ليلاً نهاراً في معركة غير متكافئة ضد الفيروس القاتل، بينما يفتقرون إلى أبسط الأدوات والإمدادات، بعد أن أرهقتهم الحرب الطويلة؟ حرب لم تترك لهم لا مستشفيات ولا معدات ولا شيء على الإطلاق سوى تمسكهم بأرواحهم الإنسانية، رغم كل الظروف القاهرة التي تحاول شلّهم.. هكذا أعلنت وزارة الصحة الفلسطينيّة في غزة عن رصدها للفيروس المسبب لشلل الأطفال في مياه الصرف الصحي، تلك المياه الملوثة التي تجري بين خيام النازحين وفيها.. فقد استحالت الشوارع بحيرات متمددة طويلة من مياه التلوث بعد أن تمكنت إسرائيل من تدمير البنية التحتية بشكل كامل.

كذلك أكّد الدكتور خليل الدقران، المتحدث باسم مستشفى شهداء الأقصى، في فيديو مصور انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، حجم الخطر الصحي الكبير الذي يواجه القطاع ويهدد جميع الدول المجاورة.. خطر قد يؤدي إلى كارثة صحيّة وكارثة بيئية حقيقية.. وهذا كله نتيجة لاستمرار جيش الاحتلال بحربه الدامية والمدمرة والشرسة على قطاع غزة. كما أعلنت وزارة منظمة الصحة العالمية بأن غزة حالياً هي «بيئة مثالية لانتشار فيروس شلل الأطفال.»

بعد أن فقدت العائلات منازلها وطُحن أبناؤها تحت أنقاض البيوت المهدمة، وجد الناجون أنفسهم، يعيشون في المجاري.. وفي حين ينعدم وجود اللقاحات لأطفال غزة لمحاربة الفيروس الخطير والنجاة من الموت الذي يطاردهم من كل حدب وصوب، تتوفر تلك اللقاحات للقاتلين.. لأولئك الوحوش الذين ذبحوا الآلاف من الصغار وأعدموا أهاليهم.. فقد بدأت قيادة الجيش الإسرائيلي بتطعيم جنودها كي لا تمنعهم شدة من امتصاص المزيد من دماء الأبرياء.

تقول إحدى الأمهات في غزة، وهي ترتجف من حدة الانفعال والخوف: «صار في بجسم الولد مثل البقع.. ليس هناك مياه كي نستحم.. وليس هناك مياه حلوة لذلك نشرب من مياه البحر؟!».

وسط عجز البلديات في غزة عن معالجة الأزمة وعدم توفر الأطعمة ستكون النهاية قريبة. لقد أصبح القطاع ساحة لمسرحيات مأساوية يتجلى فيها وجه الاحتلال القبيح بأبشع صوره، ويشترك الفيروس مع القنابل في قتل أحلام الأطفال وتدمير مستقبلهم. أما الأمل الذي كان يوماً ما يحيا في قلوب أهالي غزة فقد بات الآن شبحاً يتوارى خلف سحب الدخان والغبار.. ولكن رغم كل هذا السواد، يبقى هناك بصيص من نور ينبعث من تلاحم الناس وتضامنهم في مواجهة الكارثة. هكذا تجتمع الأمهات في الظلام ليخففن عن بعضهن البعض، ويحاول الأطفال اللعب بين الركام ليهربوا من واقعهم المرير. وتتشارك العائلات ما تبقى من الطعام، ويعمل الأطباء والممرضون بلا كلل في ظروف تفوق كل تصور. قد تكون غزة اليوم جريحة تنزف من كل جانب، لكنها أيضاً تجسد قوة الروح الإنسانية في أبهى صورها، تلك الروح التي ترفض الاستسلام وتظل متمسكة بالأمل رغم كل شيء.

الحذاء الكبير

ومن الفيروس القاتل للحذاء الكبير.. صورة انتشرت كالنار في الهشيم وشاركها العديد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي.. فما القصة؟ إنه طفل فلسطيني صغير استشهد والده بعد أن قصف الطيران الإسرائيلي مكان إيواء العائلة، فما كان من الطفل سوى أن حمل حذاء والده وضمه إلى صدره.. إنه حذاء والده.. حذاء يختصر مشاويره.. خطواته.. حذاء يشهد على جهده وتعبه.. لم يبق للطفل من والده سوى حذاء يمشي به خلف ذكراه.. يعيده إلى زمن الأمان.. فيشعر بحضن والده بحمايته ومحبته.

إنه ليس مجرد قطعة من الجلد والمطاط، هو الأثر الأخير لخطوات كانت تملأ البيت حياة وحباً. في كل تمزق، في كل خيط منسدل، يحكي الحذاء حكاية كفاح رجل نحت في الصخر ليؤمن لعائلته حياة كريمة.. يضمه الطفل الصغير إلى قلبه وكأنه يضم يد أبيه، يتلمس فيه دفء الذكريات. كلما ضمه إلى صدره شعر بدقات قلب والده تدب في قلبه الصغير، فتتسرب إليه القوة والصبر.. وكأن والده يهمس له من بعيد، بأنه ما زال معه، في كل خطوة، في كل نبضة، في كل لحظة.

لقد بات الحذاء هو الجسر الوحيد، الذي يربط الطفل بوالده. وفي لحظات الفقد المريرة، استحال رمزاً لكل ما كان يمثله الأب، لكل لحظة ضحك ولحظة حزن عاشاها معاً. في غياب الصوت والوجود، لم يبق للصغير سوى الحذاء الكبير، يتشبث به ليبقى قوياً في مواجهة هذا العالم القاسي.

وسوم: العدد 1088