دموع من ضوء: حكايات الأمل والصمود لأطفال غزة

لم يمر أسبوع على حكاية الطفل والحذاء الكبير… قصة طفل بريء يبكي وهو يضم حذاء والده إلى صدره ويردد: «بابا مات وهيدا من ريحة البابا»، لكن الوقت يبدو وكأنه لا يمر أبداً على حكايات الألم المتدفقة في غزة. إنه زمن جامد بحدته المخيفة وبدقائقه الغارقة في الدماء وبعذابات أهله التي لا يمكن وصفها ولا التعبير عنها. تلك الحكايات التي تشد بعضها بعضاً لتنسج ملحمة واحدة من أكبر الإبادات الجماعية التي عرفها التاريخ. إنها مذبحة العصر الكبرى… ومن هنا تنبعث في كل لحظة قصص من الموت الوحشي.

من أين نبدأ؟ هل من ذلك الطفل الذي لا يتعدى عمره الست سنوات؟ يرتدي قميصاً أخضر تعرّق من شدة الآلام، وشورتاً أحمر ازداد احمراراً من كثرة الدماء المتدفقة على الطرقات والمنهمرة من كل حدب وصوب… ذلك الطفل، كباقي أطفال غزة، أجبر على النزوح مرات كثيرة.. مرات ما كان ليتسع لها عمره الصغير نتيجة جبروت العدو الإسرائيلي، وبطش جنوده، ووحشيتهم التي لا مثيل لها.

لقد قتل جيش الاحتلال معظم أهله وأغلبية جيرانه ورفاقه الصغار. ولم يبق له سوى والده الذي لم يسلم أيضاً من صواريخ العدو وحقده. فأصيبت رجله ولم يعد قادراً على أن يمشي عليها. لكن طفله لم يتخل عنه، بل صار عكازاً لأبيه. هكذا مشى الصغير إلى جانب والده يسنده وهو يحمل له رجله المصابة مصارعاً التعب، والخوف، والجوع، والعطش.

كان الطريق طويلاً جداً. تعثر عدة مرات، وفي كل مرة كان يسترجع قواه ويستخرج من ضعفه قوة لدعم والده… مشى طويلاً جداً وهو يحلم بمكان إيواء جديد، وبأرض تحتضن أحلامه وتعيد له بعض الأمان المفقود. ولكن الموت يطاردهما دون كلل أو ملل.. وقد يسقطان معاً في أية لحظة أو يسقط أحدهما ليبكيه الآخر عمراً.

كل يوم يمر على أطفال غزة هو صفحة جديدة في كتاب الألم… صفحة تحمل في طياتها قصصاً لأطفال فقدوا كل بريق للطفولة تحت رماد الحرب. أطفال كُتب عليهم أن يكبروا قبل أوانهم، أن يحملوا هموماً تفوق أعمارهم، وأن يواجهوا وحشية لا تميز بين كبير وصغير.

هؤلاء الأطفال الأبطال هم الوجوه التي تروي قصص الشجاعة والأمل رغم الظلام الحالك. إنهم رمز الصمود والإصرار على الحياة رغم كل شيء.

كراتين تحكي

في زاوية ليست ببعيدة عن بطل حكايتنا الأولى، طفل آخر اسمه زين الدين المدهون، عمره لا يتعدى 11 سنة. عيناه الخضراوان الواسعتان تشعان ذكاء وعزيمة. هكذا يجلس ساعات طويلة محاولاً تجسيد واقع الحرب بقذائفها، ودباباتها، ومسدساتها، وصواريخها. يخرج كل يوم إلى الشارع ليبحث عن كراتين المساعدات الفارغة، فيخلق منها مجسدات تحكي حكاية غزة وواقع حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول على الأهالي. مجسدات تروي قصص الرحيل كلها. وتردد أسماء لشهداء.. نسمع منها صراخ الأطفال والأمهات والسنين، ونرى فيها عذابات الأسرى…

لقد استطاع ذلك الصغير، بصبره وإبداعه، إعادة تشكيل مشاهد الحرب والدمار ليحولها إلى رموز لصمود أهله. كل قطعة كرتون، كل مجسم، هو شهادة على قدرة هذا الطفل على تحويل الألم إلى فن، والخوف إلى قوة. يجلس بين أقرانه، يروي لهم حكاياته بصوته الطفولي، محاولاً أن يضفي بعض البهجة على حياتهم المظلمة.

كل يوم في حياة زين الدين هو تحدٍ جديد، لكنه لا يستسلم. يواصل البحث عن الأمل بين الركام، ويصنع من بقايا الدمار لوحات تعبر عن صرخات شعبه وعن حلمهم بالحرية. إنه يجسد بروحه البريئة وإيمانه الكبير صورة لن تنسى عن غزة، مدينة الألم والأمل.

نعم لقد نطقت تلك المجسدات الكارتونيّة البسيطة… ولن تصمت أبداً، بل ستروي في كل يوم للعالم قصة شعب جبار، لا يعرف اليأس، شعب يخلق من بين الأنقاض حياة وأملاً.

ابتسامة وعكاز

زين الدين ليس الطفل الوحيد في غزة الذي يجمع الكراتين… هل أخبرتكم عن صالح؟ ذلك الصغير الذي أصيب في الحرب فبترت ساقه. يمشي برجل واحدة حافية ويستند على عكاز ليجمع الكراتين للنار كي يعيل أسرته. يبتسم ابتسامة عريضة ربما ليخفي بها ألمه، وهو يقول: «والله بعاني من رجلي عشان بلم كراتين». يجر كيساً أبيض يكاد أن يكون طوله أكبر منه، يتنقل بين الأنقاض بمهارة توحي بأن هذا الطريق الصعب أصبح جزءاً من حياته اليومية.

صالح، رغم صغر سنه وجراحه العميقة، يحمل على عاتقه مسؤولية تفوق قدرته. تجده في كل صباح، قبل أن تشرق الشمس، يبحث بعينين متعبتين عن الكراتين المرمية بين الأنقاض. كل قطعة كرتون هي وسيلة له ولأسرته للبقاء، كل خطوة يتخذها هي تحدٍ جديد يواجهه بابتسامة وكبرياء. ورغم الألم الذي يسكن جسده الصغير، إلا أن روحه تظل متشبثة بالحياة، يضرب بقدمه الصغيرة على الأرض كأنه يعلن أنه لا يزال حياً، وأن الأمل لم يمت.

في لحظات السكون، بعيداً عن ضجيج الحرب وصخب الشوارع، قد تجده جالساً بالقرب من كومة الكراتين التي جمعها، ينظر إلى الأفق بتفاؤل لا يعرف الانكسار.

وسوم: العدد 1089