قضية السيارة الجيب

د. بلال محمود القصاص

من قضايا الإخوان المسلمين

د. بلال محمود القصاص

باحث تاريخي

[email protected]

في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها جماعة الإخوان المسلمين من اضطهادات  –ليست بالجديدة عليها- نعيش هذه الأيام ذكرى قضية من أهم قضايا الإخوان المسلمين وأشهرها -وهي قضية السيارة الجيب- والتي وقعت أحداثها في شهر نوفمبر عام 1948م وشهر المحرم عام 1368هـ، حيث تعتبر القشة التي قصمت ظهر البعير، فكانت من أهم الأسباب الذي تذرعت به حكومة النقراشي لحل الجماعة في 8 ديسمبر 1948م، وإن كانت قد عقدت النية من قبل سقوط السيارة على ذلك.

ولقد شاءت الأقدار في يوم  الاثنين 15/11/1948م – 13 المحرم 1368هـ أن يكون هذا اليوم هو بداية إتخاذ الإجراءات اللازمة لحل الجماعة، حيث تم ضبط سيارة جيب بها الكثير من الأسلحة، وتم القبض على بعض أعضاء الجماعة وهم أحمد عادل كمال وطاهر عماد الدين، كما قبض على مصطفى مشهور –المرشد الخامس للإخوان المسلمين من 1996 إلى 2002م- ومعه شنطة بها أوراق مهمة عن الجماعة؛ كان من المقرر إعدامها.

ويجب أن نأخذ في الاعتبار أن ما حدث كان قضاء وقدر، وأن الله أراد أن يحفظ دعوة الإخوان من خلال سقوط هذه السيارة ليعرف الجميع جهاد الإخوان المسلمين في فلسطين، وأن ما حدث من حل الجماعة كان مدبرا من قبل وليست السيارة الجيب هي السبب الذي من أجله حلت الجماعة وتمت مصادرة أملاكها واعتقال أبنائها وأعضائها، ولكنها كانت فخر للإخوان وستظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وقد اتهم في هذه القضية 32 أخا من الإخوان المسلمين ومن أعضاء النظام الخاص ومن خيرة شباب مصر؛ كان منهم عبد الرحمن السندي ومصطفى مشهور ومحمود الصباغ ومحمد فرغلي والدكتور أحمد الملط وغيرهم من أعضاء الجماعة.

 ووجهت النيابة عدة اتهامات إليهم منها الإرهاب والاستيلاء على نظام الحكم بالقوة، وقلب وتغيير دستور الدولة وإتلاف سيارات وأسلحة للجيش وتخريب المنشآت الحكومية وأقسام ومراكز البوليس وغيرها من المرافق الحيوية، وقتل عدد كبير من المصريين والأجانب، وتعريض حياة الناس –السفارات والقنصليات الأجنبية- للخطر، وتعطيل وسائل النقل العامة، ونيتهم في إتلاف الخطوط التلغرافية والتليفونية الحكومية، وسرقة البنك الأهلي وبعض المحال التجارية، وإتلاف مباني شركة قنال السويس وترام القاهرة، وقتل خيول البوليس عن طريق التسمم، وإقامة واستعمال محطات سرية للإذاعة اللاسلكية بدون إخطار مسبق من إدارة تلغرافات وتليفونات الحكومة.

وقد حققت قضية السيارة الجيب رقما قياسيا لم يحدث من قبل في أي قضية في تاريخ القضاء المصري إذ امتدت التحقيق فيها لما يزيد عن الـ350 يوميا، واستجوبت النيابة أكثر من أربعمائة شخص وزاد ملف التحقيق على أربعة آلاف ورقة مكتوبة على الآلة الكاتبة وأكثرها بخط صغير, وبأكثر من ثمانمائة محضر ما بين استجواب ومعاينة وتفتيش, واشترك فى تحقيق القضية خمسة عشر محققا تقلد بعضهم بعد ذلك منصب نائب عام أو وزير أو محافظ, وبلغ عدد جلسات التحقيق مع المتهمين والشهود أكثر من ألف وخمسمائة جلسة، وحوى ملف القضية 30 جزءا في كل جزء 150 صفحة، وكان من المتهمين من لم يحقق معه سوى مرة واحدة ومنهم من حقق معه ثلاثين مرة، وكانت النيابة حينما تستدعي أحد المتهمين للتحقيق معه يكون بصحبته ضابط مسلح بالطبنجة واثنان من عساكر الشرطة المسلحين بالبنادق في سيارة أجرة, وأنفقت الدولة نحو ستة آلاف من الجنيهات مصاريف انتقال على المتهمين ما بين السجن والنيابة وهو رقم كبير جدا بتقديرات ذلك الحين، كما شهد فيها كل من سماحة الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين والصاغ محمود لبيب وإبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء في عام 1949م واللواء أحمد علي المواوي قائد عام الجيش المصري في فلسطين واللواء فؤاد صادق الذي خلفه في قيادة الجيش في فلسطين، مما يدل على عظم قضية السيارة الجيب.

وقد بدأت محاكمة المتهمين أمام محكمة جنايات عسكرية في 10/12/1949م مكونة من ثلاث مستشارين واثنين من كبار الضباط، وقد  عرض المتهمون عليها في ثلاث جلسات كان آخرها في 28/3/1950، إلا أن الدفاع طلب تأجيل القضية بسبب أن الأحكام العرفية كانت بسبيلها إلى الإلغاء، ثم نظرت القضية أمام محكمة جنايات عادية –كان دخولها بتصريح خاص من النيابة- رآسها المستشار أحمد كامل وعضو اليمين المستشار محمود عبد اللطيف وعضو اليسار المستشار زكي شرف.

وفي 11/6/1950م قررت المحكمة الإفراج عن ثمانية من المتهمين منهم عبد الرحمن السندي لإصابته بروماتزم القلب، وبعدها عقدت المحكمة اثنين وأربعين جلسة بمعدل أربع جلسات أسبوعيا بداية من 12 ديسمبر 1950م إلى 17/3/1951م وهو اليوم الذي تم فيه النطق بالحكم، حيث استغرق سماع ومناقشة شهود الإثبات ثلاث جلسات، وشهود النفي ثلاث جلسات أخرى، واستغرق الدفاع المكون من 34 محاميا ثلاثين جلسة ومن بين هؤلاء المحامين عبد المجيد نافع وشمس الدين الشناوي ومحمد هاشم باشا -وزير الدولة في وزارة حسين سري- وأحمد رشدي وعبد المجيد عبد الحق ومحمد مندور وأحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة وعلي منصور وهنري فارس وزكي عرابي -كان يهوديا وقتها وأعلن إسلامه هو وابنته قبل أن يموت بسنوات- وفتحي رضوان –زعيم الحزب الوطني الجديد-، ومن محامي الإخوان عمر التلمساني-المرشد الثالث للإخوان المسلمين من 1973إلى 1986م- وشمس الدين الشناوي ومحمد المسماري وعلي طمان وفهمي أبو غدير وإبراهيم الطي وطاهر خشاب العشماوي ومختار عبد العليم وفريد شريف قنصوة.

ولأن هذه التهم من المستحيل أن يقوم بها هؤلاء المتهمون بمفردهم ولأنها موجهة بشكل صريح إلى الجماعة؛ قامت هيئة المحكمة بعمل دراسة للجماعة ونشأتها وأغراضها ووسائلها وتطورها وما يستنتج من أقوال مؤسسها، كما اعترفت المحكمة بما وقع على المتهمين من تعذيب أثناء التحقيق معهم على يد رجال البوليس وعلى يد إبراهيم عبد الهادي باشا -رئيس الوزراء وقتها- لأخذ اعترافات تدينهم.

وقد حكمت المحكمة في يوم 17/3/1951م بالآتي:

أولا: معاقبة كل من مصطفى مشهور ومحمود الصباغ وأحمد حسانين وأحمد قدري الحارثي والسيد فايز عبد المطلب بالسجن لمدة ثلاث سنين.

ثانيا: معاقبة كل من عبد الرحمن السندي وأحمد زكي حسن وأحمد عادل كمال وطاهر عماد الدين ومحمود حلمي فرغلي ومحمد أحمد علي وعبد الرحمن عثمان وجلال الدين يس ومحمد سعد الدين السنانيري وعلي حسانين الحريري وصلاح الدين محمد عبد المتعال بالحبس مع الشغل لمدة سنتين.

ثالثا: معاقبة محمد إبراهيم سويلم بالحبس مع الشغل مدة سنة واحدة.

رابعا: مصادرة السيارة المضبوطة وجميع الأسلحة والذخائر والمفرقعات المضبوطة.

خامسا: براءة المتهمين جميعا من التهمة الرابعة الخاصة بحيازة أجهزة وأدوات لمحطة إذاعة لاسلكية.

سادسا: براءة كل من محمد فرغلي النخلي ومحمد حسني عبد الباقي وأحمد متولي حجازي وإبراهيم محمود علي والدكتور أحمد الملط وجمال الدين فوزي والسيد إسماعيل شلبي وأسعد السيد أحمد ومحمد بكر سليمان ومحمد الطاهري حجازي وعبد العزيز البقلي وكمال القزاز ومحمد محمد فرغلي وسليمان مصطفى عيسى.

وقد نصت المحكمة في حكمها على الآتي: وحيث إنه من هذا يتبين للمحكمة أن أفراد هذه الفئة الإرهابية لم يحترفوا الجريمة وإنما انحرفوا عن الطريق السوي فحق على هذه المحكمة أن تلقنهم درسا حتى تستقيم أمورهم ويعتدل ميزانهم، على أن المحكمة تراعي في هذا الدرس جانب الرفق فتأخذهم بالرأفة تطبيقا للمادة 17 عقوبات نظرا لأنهم كانوا من ذوي الأغراض السامية التي ترمي أول ما ترمي إلى تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب المغلوب على أمره!.

مما يعطينا دلالة واضحة على إيمان المحكمة بقضية المتهمين وأنهم ما فعلوا ذلك إلا لتحرير وطنهم من براثن الاستعمار، وإيمانا منهم بواجبهم تجاه وطنهم المسلوب.

 وقد علق الدكتور محمد هاشم باشا على الحكم قائلا: (رأيي أنه حكم سليم، قد راعى كل الاعتبارات، وبخاصة فيما يتعلق بالظروف التي أحاطت بالتحقيق، وعلى الأخص من جهة المعاملة التي عومل بها المتهمون، وكيفية انتزاع ما أسمته اعترافات منهم. ومن الناحية الأخرى يخيل إلي وأنا لم أقرأ الحيثيات بعد، أن المحكمة راعت الاعتبارات الخلقية والاجتماعية التي كان يقوم بها الإخوان المسلمون بصفة عامة. وإلى جانب هذا فإن المحكمة كانت واسعة الصدر بشكل واضح، وقد أوسعت صدرها للاتهام أولا وللدفاع ثانيا، ولم تترك كبيرة ولا صغيرة إلا حققتها ووزنتها، وقد عشنا -نحن القضاة والنيابة والمحاميين- ثلاثة أشهر في بحث هذه القضية ولم يمل المستشارون بحال من الأحوال بل وأرادوا أيضا أن يدققوا أكثر مما دققوا فحجزوا القضية للحكم قرابة ثلاثة أسابيع لمراجعة الأوراق من جديد، ووزن كل ما جرى في التحقيق وما قيل في المرافعة من جانب الاتهام والدفاع. ولا شك أن قضاة يظهرون هذا التدقيق والوزن في كل أمر يمس هذه القضية لا يمكن بحال من الأحوال إلا أن يجيء حكمهم عادلا سليما لا يرد عليه مطعن. ويخيل إلي أيضا أن القضاة وهم يباشرون نظر هذه الدعوى كانوا حقيقة بعيدين عن كل شيء يمس الجو العام للقضية كالدعاية وما شابهها. ثم انسحبوا بعد ذلك إلى محراب العدالة يستلهمون فيه حكم القانون أولا والعدل ثانيا، والقضاء ليس إلا تحقيقا للعدالة في حدود القانون. ولعلنا بعد أن نطلع على أسباب الحكم نقتنع تماما بهذا الشعور الذي حكمنا به لأول وهلة عندما سمعنا النطق بالحكم، وهذا من غير شك يجعلنا نردد بحق تلك العبارة التقليدية التي تقول (إن في مصر قضاة))، هذا في وقت كان في مصر قضاة لا يخافون أحد إلا الله.

بالإضافة إلى تعليق الدكتور محمد هاشم على الحكم، كان هناك موقف رائع من جانب القضاة، حيث صرح المستشار محمود عبد اللطيف عضو اليمين في المحكمة فور الانتهاء من القضية قائلا: (كنت أحاكمهم فأصبحت واحدا منهم)، إلى جانب استقالة المستشار أحمد كامل رئيس المحكمة من الخدمة وانضمامه إلى صفوف الإخوان، كما أنه كان من المترافعين في قضية مقتل الإمام الشهيد حسن البنا.

إن قضية السيارة الجيب علامة واضحة على جهاد الإخوان المسلمين في فلسطين، ودلالة أكيدة على أن الإخوان المسلمين لم ولن يرفعوا في يوم من الأيام السلاح ضد أبناء وطنهم، وإنما رفعوه ليحرروا وطنهم وليعيدوا له مجده وكرامته المسلوبة.

مراجع تم الاعتماد عليها:

المحكمة العسكرية العليا، أوراق قضية السيارة الجيب، الأجزاء من 1 إلى 30.

أحمد عادل كمال: النقط فوق الحروف (الإخوان المسلمون والنظام الخاص)، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الثانية، 1989م.

محمود الصباغ: حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين، دار الاعتصام، 1989م.

محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، دار الدعوة، ج1، 1999م.