في ذكرى وعد بلفور: دولة للشعب اليهودي

د. محمد عبد الشفيع عيسى

يقوم الجناح الأكثر تطرفاً في الحركة الصهيونية المعاصرة (المسمى إعلامياً بـ ”اليمين” أو ”اليمين المتشدد” ) هذه الأيام، بإجراء مراجعة كبرى في بُنية الأيديولوجيا والممارسة الصهيونية. ويُراهن هذا الجناح على ما لم تحلم به الأجنحة المتطرفة الأخرى خلال الأعوام الستين الماضية: حُلم تثبيت أركان دولة تكون غير قابلة للنقض التاريخي.

ففي ظل سيطرة هذه الأجنحة جميعاً، تحقق فشل مشروع ”إسرائيل الكبرى” الذي تصور البعض بلوغه الذروة جراء عدوان عام 1967، وما أنتجه من احتلال بقية فلسطين التاريخية وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان. وقد تحقق هذا الفشل بعد مسلسل تاريخي افتتحه صمود عبد الناصر بعد ”النكسة”، وشن حرب الاستنزاف والإعداد لحرب 1973، ثم انطلاق هذه الحرب، بعد رحيله، في فعل عربي مشترك. واشتمل ذلك المسلسل التاريخي على جملة تطورات مفصلية تمثلت بصفة خاصة في إلتفاف الشعب العربي حول مشروع المقاومة ورفض التطبيع، وإفشال مخطط سحق الكيان الفلسطيني، وشن الإنتفاضة الثانية لنحو خمس سنوات (2000 ـــــ 2005)، وإجبار العدو الإسرائيلي على الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000، وعدم تمكينه من تحقيق النصر في حرب لبنان عام 2006، ومجابهته بموقف مقاوم لم يتوقعه في حرب غزة عام 2009.

لذلك كله، فشل مشروع ”إسرائيل الكبرى”، وأُجبرت الحركة الصهيونية على الإستدارة نحو مشروع ”إسرائيل الكبيرة” رويداً رويداً، وتم العمل على تقنين هذا التحول من خلال إتفاقات (أوسلو) عام 1993 التي نصَّت على الاعتراف المتبادل بين (إسرائيل) ومنظمة التحرير الفلسطينية. كان هذا التحول بمثابة إنتقال صهيوني من خطة ”التوسع الأفقي” إلى خطة ”التوسع الرأسي”. ولم يكن ”التوسع الرأسي” إلا محاولة لفرض المحتوى اليهودي لدولة فشل مخطط بنائها ”الإمبراطوري” على هيئة ”إسرائيل الكبرى”.

ولئن كان المشـروع الإمبراطوري (لإسـرائيل) ”الكبرى” قد اقتضى طرح مخططات مسـتحيلـة من قبيل ”الخيار الأردني” و”الترانسـفير“، فإن مشـروع ”إسـرائيل الكبيرة” اقتضى طرح مخطط بدا ممكناً، عبر ”أسـرلـة” المجتمع السـياسـي، وتهويد الأرض والمجال الديموغرافي، تحت مظلـة ”إتفاقات أوسـلو” وتحت أنف ”السـلطـة الفلسـطينيـة”. وكانت ”الأسـرلـة” موجهـة نحو العرب الفلسـطينيين أصحاب البلاد (عرب 1948) لدمجهم قسـراً في هويـة ”إسـرائيليـة“ تحجب كينونتهم القوميـة وتُمارس التفرقـة ذات الطابع العنصري عليهم. أما تهويد الأرض والمجال الديموغرافي (لإسـرائيل) تلك الكبيرة، فقد اتجـه نحو تكريـس ضم القدس الشـرقيـة، والتوسـع الإسـتيطاني داخل الضفـة الغربيـة، وتمزيق هذه الضفـة، والشـروع في رسـم ”حدود” مفترضـة جديدة بينها وبين الكيان الإسـرائيلي، إنطلاقاً من خطوط الإسـتيطان وشـبكـة الطُرق المواكبـة لها، ومن ”الجدار العازل”.

أولاً: شعار ”حل الدولتين“

لقد واكب تلك الحركة الرامية إلى توطيد بناء ”إسرائيل الكبيرة”، كدولة ذات طابع عنصري، طرح شعار مفاجئ تلازم مع إخفاق عملية (أوسلو)، ومع بلوغ ذروة الإنتفاضة. وأتى هذا الشعار، ابتداءً، من الدوائر الأمريكية في ظل إدارة (بوش) عند نهاية دورته الأولى، وبدء دورته الثانية ( 04 20- 05 20) ، وبرضا من الدوائر المتنفذة في ”اللوبي الصهيوني” داخل أمريكا وبعض دوائر التفكير الاستراتيجي داخل (إسرائيل) نفسها. وكان هذا الشعار هو ”حل الدولتين”.

وتساءل البعض عن حق: كيف يطرحون حل الدولتين، في حين إن ”دولتهم” قائمة على قدم وساق، وتم الاعتراف المتبادل بها فعلاً في سياق إتفاقات (أوسلو)!؟ وكان الجواب المتوقع على ذلك التساؤل » أن الدوائر الأمريكية – الصهيونية تسعى إلى ”جلب” اعتراف مجدد (بإسرائيل)، بمناسبة اعتراف دولي وإسرائيلي بدولة ”فلسطينية“، هي في الحقيقة ”دويلة” غير قابلة للاستقلال والاستقرار..!! لقد كان ذلك، إذن، بمثابة استدعاء “اعترافٍ ثانٍ” (بإسرائيل)، من جانب من اعترف بها، ومن لم يعترف، في أوساط الفلسطينيين والعرب أجمعين.

ثانياً: شعار جديد: دولة يهودية

بعد توقف الإنتفاضة عام 2005-2006، بدأ يتخلق واقع جديد، تميَّز بتكريس المقاومة الفلسطينية في البيئة العربية المحيطة بفلسطين (وخاصة لبنان)، ودعمها في دائرة الجوار الإقليمية (على محوري إيران وتركيا). وبدا في ظل ذلك أن استدعاء ”الاعتراف الثاني” كان غير كافٍ لمواجهة إحتمالات تصاعد التحدي العربي والإقليمي. ومن جهـة ثانيـة، فقد بدا أن مخطط ”الأسـرلـة” لم ينجح في تقويض أركان الوعي بالهويـة القوميـة لدى فلسـطينيي 1948. وتبدّى، من جهة ثالثة، أن تهويد الأرض والمجال الديموغرافي حقق نجاحاً أكبر من المتوقع، من خلال تثبيت واقع الإستيطان والتفتيت في الضفة، وثبات الواقع الذي أنتجه ”الجدار“، و”تقدم” عملية التهويد للقدس الشرقية بما فيه محيط “الأقصى” والحي العربي.

لهذه الاعتبارات الثلاثة، شرعت الدوائر الصهيونية ـــــ أمريكياً واسرائيلياً ـــــ في طرحٍ على إستحياء لشعار جديد، منذ عام 2008، يرتكز على ربط الموافقة على ”حل الدولتين”، ليس بالاعتراف (بإسرائيل) اعترافاً جديداً، وإنما بالاعتراف بها كدولة ”يهودية“ بالذات.

لقد كان هذا هو الرد على فشل مخطط ”الأسرلة”، فما دام "عرب 1948" لم يستسلموا لهوية مفروضة ذات طابع عنصري، فليكن الحل إخراجهم من المعادلة كلياً؛ بإحداث عملية ”ترانسفير” باتجاه الضفة التي سترسم حدودها من جديد، عبر عملية لتبادل الأراضي والسكان، من خلال إحتفاظ (إسرائيل) بما يُسمى ”الكتل الاستيطانية”، مقابل حصول الفلسـطينيين على أراضٍ قاحلـةٍ غير مسـكونـة وغير ذات أهميـة اسـتراتيجيـة داخل الحيّز ”الإسـرائيلي” الراهن.

ويُقدم شعار ”الدولة اليهودية”، ضمن السياق الدعائي الإسرائيلي، من خلال بديلين:

بديل أول يقبل ببقاء “عرب 1948، ولكن بشرط قبولهم الهوية اليهودية للدولة، كهوية أحادية لكيان صهيوني ـــــ عنصري، أي بشرط ”الدمج القسري” في دولة لا تُمثلهم، بعد أن فشل مشروع ”الدمج الطوعي” و ”شبه الطوعي”، أي (الأسرلة).

وبديل ثانٍ ”إحتياطي” ـــــ في حال لم ينجح تسويق البديل الأول ـــــ وهو ما قد يُسمى ”البديل الأفضل الثاني” (Second Best Alternative )، ويقوم على ”ترانسفير” التطهير العرقي لـ “عرب 1948 باتجاه المناطق التي سيتم التخلي عنها، كما أثسرنا، لصالح دويلة “فلسطينية” منزوعة السلاح، يُقال لها: قابلة للحياة (Viable).

ثالثاً: شعار جديد جداً

إعتباراً من عام 2009، ثم خلال عام 2010، وخاصة أثناء جولات المفاوضات الأخيرة بين الحكومة الصهيونية والسلطة الفلسطينية، تم الإلحاح على تعديل الشعار ليصير هكذا: ”دولة للشعب اليهودي” مقابل ”دولة للشعب الفلسطيني”.

وفي هذا الطرح الدعائي ـــــ السياسي الجديد، يُصبح من المبرر فكرياً، ومن المشروع قانونياً، تحقيق أمرين متلازمين:

1 ـــــ توفير أفضل تغطية ممكنة للتعامل العنصري إزاء “عرب 1948، من خلال البديل الأول بالدمج القسري، أو البديل الثاني حيث ”مكانهم الطبيعي” مع ”شعبهم” في الضفة بحدودها الجديدة، و”إسرائيل الكبيرة، الجديدة شاملة أرض ”الكتل الإستيطانية” والأراضي الأخرى المصادرة بفعل ”الجدار“، بالإضافة إلى كامل القدس الشرقية. (إسرائيل) هذه هي ”المكان الطبيعي” للشعب اليهودي أيضاً، أينما كان.

2 ـــــ يتألف الأمر الآخر من شقين، هما:

أ ـــــ تكريـس الشـرعيـة الدوليـة لـ ”قانون العودة” الإسـرائيلي ـــــ حيث يحق لكل يهودي في أي مكان في العالم الإنتقال للعيـش داخل ”أرض الميعاد“ ـــــ بما يترتب على ذلك من إسـباغ المشـروعيـة القانونيـة على هجرة اليهود إلى (إسـرائيل) وسُـكناهم في فلسـطين المحتلـة.

ب ـــــ نزع الشـرعية الدوليـة ـــــ المشـروعيـة القانونيـة والسـياسـيـة معاً ـــــ عن أيـة محاولـة لتطبيق ”حق العودة” الفلسـطيني باتجاه الإقليم الذي سـيطرت عليـه الحركـة الصهيونيـة عام 1948 من أرض فلسـطين التاريخيـة.

وأن في ذلك، الرد الحاسم على دعوات ”رفض التوطين” في لبنان بالذات، ومن ثم زرع ” قنبلة متفجرة” داخل هذا البلد، وفي سوريا أيضاً، وربما الأردن. فعلى العرب ـــــ وغيرهم ـــــ أن يوفروا ”الوطن البديل” للاجئين الفلسطينيين في كافة المنافي، عربية كانت أو غير عربيـة، ويبلغ عددهم نحو خمسة ملايين لاجئ.

وهكذا، ومن خلال الشـعار الجديد جداً: ”إسـرائيل دولـة للشـعب اليهودي”، يمكن الإدعاء بتحقق نوع من ”النقاء العرقي” لكيان سـياسـي يتحول تدريجياً إلى كيان عنصري نموذجي، كمثال نادر ـــــ وربما وحيد ـــــ في العالم المعاصر.

(إسـرائيل)، هكذا، لا تصير مجرد ”دولـة يهوديـة”، ويُرفع الإلتباس عن الطابع الديني الذي يوحي بـه ذلك، وإنما تسـتحيل إلى دولـة يُقيمها ويحميها المتدينون والعلمانيون معاً… دولـة لـ ”شـعب” يُعرف بإنتمائـه إلى دين معين، وليـس بإيمانـه الحقيقي بهذا الدين.

هنا، يمكن أن تصير (إسـرائيل)، في المسـتقبل، وفق تلك الرؤيـة، دولـة لشـعبٍ محددٍ عِرقياً ودينياً؛ أي دولـة قوميـة من نوع خاص، أو ”دولـة ـــــ أمـة” (Nation – State)؛ حيث يُمثل الإنتماء الديني أسـاسـاً لتشـكيل أمـة مزعومـة وظاهرة ”قوميـة” مصاحبـة لها.

رابعاً: إعادة تشكيل التاريخ، وإختلاق الماضي

إن الإدعاء بجعل الإنتماء الديني أساساً لبناء أمة ـــــ ومن ثم دولة ـــــ ”يهودية “ هو جوهر الأيديولوجيا الصهيونية منذ البدء. ومن هنا سُميت ”إسرائيل”. فالدولة المتكوّنة، وفق ذلك الإدعاء، ليست دولة الدين في حد ذاته، ومن باب أوْلى: ليست محض دولة للمتدينين ورجال الدين، أو دولة دينية، وإنما هي دولة تستمد "حقها التاريخي" المزعوم عبر التاريخ من تمثيل كتلة بشرية ـــــ مذهبية لم توجد على هذا النحو قط في التاريخ الواقعي، هي كتلة ”بني إسرائيل ـــــ اليهود”، المتجانسة ”النقية”، والمستمرة عبر الزمن. ولا بأس من أن يُضاف إلى ذلك، ولو في مقام معين، دعوى دينية معينة: أن فلسطين قد مُنحت لهم بمقتضى وعد إلهي خاص إلى ”شعب الله المختار”.

يُعاد، إذن، بناء التاريخ وتشكيل الماضي، أو إختلاقه بالأحرى، إنطلاقاً من مشروع سياسي عنصري ـــــ إستعماري، مؤسس على الوهم التاريخي المذكور.

ماذا بعد؟

إن إسـتدعاء الإعتراف العربي والدولي (بإسـرائيل) كدولـة للشـعب اليهودي هو بمثابـة إسـتدعاء لنهايـة ”القضيـة الفلسـطينيـة” من الجذور، وإعادة إحياء تاريخي لـ ”المسـألـة اليهوديـة” في نسـختها الأوروبيـة، ولحلها الصهيوني أو اليهودي ـــــ السـياسـي، العنصري ـــــ الإسـتعماري، في جوهره الحقيقي.

.. وذلك ما لم يحلم به أولئك الذين قاموا باستصدار ”وعد بلفور”، الصادر في اليوم الثاني من تشرين الثاني / نوفمبر عام 1917، داعياً إلى تأسيس ”موطن قومي للشعب اليهودي (National Home for the Jewish people) في فلسطين” بالذات. ولقد كان، إذن، وعداً بـ ”موطن” (Home) أو ”بيت”، وليس وعداً  بـ  “وطن” (Nation)، وليس وعداً بدولة، من باب أوْلى.

.. بل، وهذا ما لم يحلم به أيضاً مؤسس الحركة الصهيونية (ثيودور هرتزل) الذي عنون كتابه الشهير باللغة الألمانية الصادر عام 1896: دولة اليهود: مقترح بحل حديث للمسألة اليهودية أي كمجرد دعوة إلى ”دولة  يهودية” لحل ”المشكلة  اليهودية” في أوروبا.

.. فمن منا، إذن، نحن العرب عامة، والفلسطينيين خاصة، في ضوء كل ما سبق، يمكن أن يعترف (بإسرائيل) كدولة أو وطن للشعب اليهودي؟