وقفة مع محاضرة للدكتور طه عبد الرحمان ألقاها في تركيا وعنوانها: " كيف ننشيء فلسفة إسلامية أصيلة ؟ "

إذا كان المفكر المغربي أو الفيلسوف الأستاذ الدكتور السيد طه عبد الرحمان معروفا لدى المغاربة ، فهو لا يخفى على غيرهم في كل البلاد العربية ، كما أنه لا يخفى على غيرهم في كثير من بلدان العالم خصوصا العالم الغربي ، وذلك لكونه اجتهد في تأصيل الفلسفة الإسلامية المعاصرة التي أراد بها أولا دعوة من يشتغلون بها من المسلمين المعاصرين إلى التحرر من التبعية لغيرهم ، وثاني قصده هو تصحيح مسار الفلسفة عموما من فلسفة بلا حكمة ولا قيم إلى فلسفة مسددة بالحكمة وبالقيم التي من شأنها أن تنقد البشرية مما آلت إليه من تسفل .

ولا بأس بداية من ورقة تعريف بهذا الفيلسوف المسلم المعاصر لمن لا يعرفه . إنه من مواليد سنة  1944 بمدينة الجديدة بالمغرب ، والتي تلقى بها تعليمه الأولي، ثم انتقل منها إلى مدينة الدار البيضاء ليكمل مراحل تعليمه الإعدادي والثانوي بها . والتحق  بعد ذلك بجامعة محمد الخامس بالرباط، وحصل فيه على الإجازة في الفلسفة ، ثم التحق بجامعة السربون بفرنسا، وحصل فيها على شهادة الدكتوراه سنة 1972 عنوانها : " رسالة في البنى اللغوية لمبحث الوجود " ، وأتبعها برسالة أخرى في الآداب والعلوم الإنسانية سنة 1985 تحت عنوان : " رسالة في منطق الاستدلال الحجاجي والطبيعي ونماذجه " . وقد درس الفلسفة والمنطق بجامعة محمد الخامس بالرباط  إلى سنة 2005 ، كما أنه كان أستاذا زائرا في بعض الجامعات العربية خصوصا بمصر والأردن .وقد رأس منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين . وهو أيضا عضو جمعية الدعوة الإسلامية العالمية بطرابلس . وله مساهمات في مؤتمرات علمية وطنية وعربية وعالمية .وكانت هزيمة العرب سنة 1967 سببا في بحثه عن العقل الذي كان وراء هذه الهزيمة ، فاشتغل في توسيع المعرفة العقلية بمعرفة روحية استقاها من الفيلسوف أبي حامد الغزالي ، ومن ممارسته للتصوف، وقد فتح بذلك أبواب الفلسفة على التصوف ، وخالف  بذلك الفلسفة الغربية المستبعدة للقيم الأخلاقية .

له عدة مؤلفات منها : " بؤس الدهرانية وسؤال الأخلاق  " ، "روح الحداثة مدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية " ، الحوار أفقا للفكر " ، " حوارات من أجل المستقبل " ، " روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية " ، " سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية " ، سؤال العمل بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم " ، " العمل الديني وتجديد العقل " ، " الحق العربي في الاختلاف الفلسفي " ... وله العديد من الحوارات ،والمقالات ،  والمحاضرات .

وهو من المناصرين للقضية الفلسطينية ، وقد استبشر خيرا بطوفان الأقصى الذي يعتبره تحولا من وضعية الهزيمة إلى وضعية التحرر .  

أما محاضرته التي ألقاها في تركيا ، والتي عنوانها : "  كيف ننشيء فلسفة إسلامية أصيلة ؟ " فقد قصد بها تحرير المشتغلين المسلمين بالفلسفة من السير على نهج فلاسفة الغرب إلى نهج فلسفة إسلامية أصيلة  يطمئن إليها المتلقي المسلم ، وقد وضع لهم معالم يستنيرون بها، وصاغها في ثمانية أصول عامة هي كالآتي :

1 ـ الأصل الأول : ضرورة إنشاء الفيلسوف المسلم المعاصر إشكالية خاصة به ، مع ضرورة الانطلاق من واقع العالم اليوم واستحضار وضع الإنسان  فيه ، ومن التصور السائد فيه . وقد وصف عالم اليوم بأنه عالم تُنتهك فيه القيم ، وتُخان فيه الأمانات ، وتُنقض في العقود ، الشيء الذي أدى به إلى التسفّل .

وفي سياق الحديث عن هذا الأصل وقف عند ما سماه تصور علمي للفلسفة ، وتصور معرفي لها ، وهما تصوران على طرفي نقيض، لا بد أن يستوعبهما الفيلسوف المسلم المعاصر . وعنده أن الفلسفة تنشد الحكمة ،وغايتها الوصول إلى الحقيقة إلا أن مفهوم الحقيقة لم يستقرعلى وجه واحد، بل هو في تطور ، وقد صارت الحقيقة اليوم هي خضوع الفلسفة للعلم . ومن معاني الحكمة عنده أيضا  مفهوم القيمة ،ولم يستقر هو الاخر على وجه واحد بل تطور كذلك ، والقيمة في عالم اليوم مستمدة من الذات و تحصيلها للمصالح  .

2 ـ الأصل الثاني : يشترط المحاضر على الفيلسوف المسلم المعاصر أن يضع في اعتباره آفتين هما :

أـ آفة تسيّب العلم  لغياب الحكمة فيه ، وقد صارت الفلسفة تابعة له ، لأن منطقه هو الحسابية، والمردودية ،والفعالية ، وعنده كل شيء ممكن ، وكل ممكن متحقق. و هنا ذكر بأن الإسلام يقيد العلم بالحكمة .

ب ـ آفة تجرد المعرفة من القيم ، ذلك أن الذات تجردت من المطلقات ، وصارت تابعة لأهواء الذات واستمتاعها . وهنا ذكر أن الإسلام رفع من قدر الذات لكنه قيدها بالقيم السامية  التي مع فقدانها  يحصل التسيّب .

3 ـ الأصل الثالث :يشترط المحاضر على الفيلسوف المسلم المعاصر التفكير في كيفية التخلص من ذلك التسيّب  من خلال تقييد العلم بالحكمة ، وتقييد الذات بالقيم السامية .

4 ـ الأصل الرابع : يشترط المحاضر على الفيلسوف المسلم المعاصر التفكير في تغيير نمط العلاقات مع عالم اليوم إذ لا بد من تهذيب العلم ، ومن تسديد المعرفة . ووقف عند علاقات الإدراك السائدة اليوم وهي علاقة الاقتناص حيث يعتبر الفرد المدرك للأشياء أنه يقتنصها ، وأنه يستعملها بمقتضى الانتفاع ، وهذا سبب سيادة التسيّب التقني ، وتجرد الذات من القيم  .  والبديل  لإسلامي الذي يقترح المحاضر عن هذا التسيّب ، وعن هذا التجرد  القيمي للذات ،هو اعتبار المالكية لله تعالى ،  ولا ملكية للإنسان ويعوضها بالإئتمان والاحتضان ، وبهذا يخرج العلم من التسيّب ، وتخرج الذات من التجريد إلى التسديد،  وتنصلح  بالاستقامة العملية  أو السلوكية.

5 ـ الأصل الخامس : يشترط المحاضر على الفيلسوف المسلم المعاصر أن يخرج الفلسفة من التبعية للعلم ، ويجعله هو تابعا لها ، وفي هذا تغيير لمفهوم الفلسفة. المهيمن اليوم في العالم .

6 ـ الأصل السادس :  يدعو  المحاصر الفيلسوف المسلم المعاصر إلى  أن تكون له  مراجعة للصورة المعرفية للفلسفة والتي  تقوم  عنده على ثلاثة مبادىء هي : مبدأ التفكر ، مبدأ التخلق ، مبدأ التشبه .

 فبالنسبة لمبدإ التفكر ،لا بد من التفريق بين العقل الفلسفي، والعقل العلمي ، فالأول لا يستغني عن القيم مطلقا ، بينما الثاني يستغني عنها ،بل يعتبرها معطلة للعلم ، وهذا يقتضي التمييز بين العقل المجرد الذي لا يعني عند الدكتور طه تجريد الكليات من الجزئيات  كما فهم كثير  من قرائه  كما أشار إلى ذلك ،بل يعني تجريد القيم ليصرفها ، وبين العقل المسدد  الذي لا يصرف القيم .

أما بالنسبة لمبدإ التخلق، فلا بد من قياس الأخلاق على الفطرة ، وتعميمها على كل الأشياء وفي كل الأحوال .

7 ـ الأصل السابع  :  لم يرد في كلمة المحاضر ، فهو إما قفز عليه بسبب ضيق الوقت المخصص للمحاضرة أو سقط أثناء تسجيل المحاضرة  .

8 ـ الأصل الثامن : على الفيلسوف المسلم  في نظر المحاضر أن يستبدل  مقولة التشبه بالإله التي آخذ بها الفلاسفة بمقولة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم باعتباره الإنسان الكامل ، ولا أكمل منه ، ويكون هذا الاقتداء بالمنهج العقلي للنبي ،  وبمسلك الخلقي . أما منهجه العقلي فكان يتحقق بالسلوك، وليس بطرق الفلاسفة حيث كان يختلي للتفكر حتى جاءه الوحي ، فتوصل إلى أن أسمى ما يصل إليه العقل هو الصدق، فاتخذه خلقا حتى وصف ودعي (بالصادق) ، والصدق إقرار بالحقيقة ، وهي غاية العقل ، والصدق أسمى القيم العقلية ، وقد أفضى الصدق بالنبي إلى أسمى الحقائق ، وهي  توحيد الربوبية . أما الاقتداء بالنبي في مسلكه الخلقي فهو الأمانة التي وصف ودعي بها أيضا (الصادق ) صلى الله عليه وسلم ، وقد أفضت به الأمانة إلى العدل بين الناس ، وهو عدل موصول بتوحيده لله تعالى ، وهكذا يكون التوحيد أساس الأمانة، والعدل وسيلتها، وهو ما جعلها خلقا جامعا لكل أخلاق الفطرة التي جاء الدين على وفقها. ومتى اقتدى الفيلسوف المسلم بالنبي عقلا وتخلقا ، توصل إلى حقيقتين : الأولى هي أن كمال الحياة الطيبة لا يدرك إلا بالاقتداء بالنبي الكامل ، والثانية  أن يدرك رتبة الصدّيق .

خاتمة المحاضرة :

 إن أية  فلسفة إسلامية معاصرة في نظر الدكتور طه عبد الرحمان لا تحظى بالأصالة حتى يكون إشكالها الرئيس من إبداع الفيلسوف المسلم المعاصر ، وهو ما لا يتأتى له إلا بالتفاعل مع التصورات الفلسفية الراهنة ، ومع التحديات العالمية القائمة، فيصوغ  نتائج هذا التفاعل المزدوج على مقتضى خصوصية مجال التداول الإسلامي ، لهذا لا بد أن يأخذ هذا الفيلسوف بالفلسفة التي تنحو منحى الحكمة، منصرفا عن الفلسفة التي تنحو منحى العلم ، كما أن  عليه أن ينشغل بالتحدي الجذري الذي يواجه العالم اليوم، وهو تسفّل الإنسان ، وحينها يمكنه أن يبلغ مراده بالنهوض بمهمتين: إحداهما دفع التسفل الذي سببه التسيّب التقني للعلم ، والتجرد القيمي للمعرفة، ويقف على أنجع الوسائل التي ترفعه ،وهي تهذيب العلم ، وتسديد المعرفة ، والمهمة الثانية أن يصل إلى تجديد التفلسف الحكمي بحيث يميز بين العقل المجرد ، والعقل المسدد ، ويؤسس الخلق على الفطرة ، ويصل كمال الاقتداء برتبة الصدّيقية مستدلا بإشكال فلسفي يدعو إلى  ضرورة الرجوع بالفلسفة إلى أصلها ،وهو الحكمة التي هي وحدها القادرة على إنقاذ الإنسان من التسّفل حاضرا ومستقبلا .

تنويه : لا تغني هذه الوقفة مع هذه المحاضرة عن سماعها ،فهي موجودة على اليوتوب.

وسوم: العدد 1091