الآثار السلبية لغلاء المعيشة في نفوس المواطنين

من المعلوم أن الغلاء حين يضاف إلى المعيشة  يقصد به ارتفاع تكاليفها  أو ارتفاع  أسعار الأقوات  عن المعتاد ،والتي هي قوام الحياة . وغلاؤها ليس كغلاء غيرها  من المواد والمقتنيات نظرا لضرورتها  التي لا يمكن الاستغناء عنها ، لهذا يرتبط غلاء المعيشة بمشاعر القلق لدى الناس  في كل المجتمعات البشرية ، وهو قلق جماعي ينشأ  لدى الجميع بدءا بالشرائح المعدمة  أو المحاويج ومرورا بالشرائح المتوسطة الحال  أو التي  تعيش على الكفاف ،  ويمثلها غالبا السواد الأعظم من الناس  في المجتمع ، وانتهاء بشريحة الموسرين وهي الأقل نسبة خصوصا في الدول الفقيرة ، كما أنها اقل قلقا من غلاء المعيشة أو قد لا تعبأ بها أصلا.

 ويعد غلاء المعيشة من الكوارث كالبلاء والوباء ، لهذا يستعيذ المسلمون بالله تعالى منه ، وربما عدوه عقابا منه بسبب ذنوبهم ومعاصيهم .

 وعلى قدر أو حجم  غلاء المعيشة ، ترتفع درجات القلق الذي قد يستفحل حتى يبلغ حد الهلع، وتترتب عنه حينئذ  معاناة نفسية قد تتحول إلى أمراض تصير  مزمنة لدى شرائح عريضة من الناس.

ولا يمكن حصر الغلاء في مستوى معين بل  له  هو الآخر مستويات وعتبات ، وهو مرتبط  بدخل كل شريحة من شرائح المجتمع ، ولا يكون الشعور به إلا حين يصير مرهقا للدخل . و يصبح غلاء المعيشة ظاهرة اجتماعية  حين يسود ساد شعور عام  به  لدى معظم  شرائح  المجتمع على اختلاف مداخيلها  ، وحينئذ يصيح منذرا بالعواقب الوخيمة التي قد تصل حد  ما يسمى بثورات الجياع المهددة للأمن العام  وللاستقرار بسبب غياب الأمن الغذائي .  

ومعلوم أن أسباب ظاهرة غلاء المعيشة متعددة ، نكر منها المشهور كندرة المواد الاستهلاكية التي يكثر الطلب عليها  وتكون الحاجة ماسة إليها ، فتقل أو تنعدم  في الأسواق، ويعزى  ذلك إما لتعاقب سنوات الجفاف  ، أو للاحتكار  حين تحبس المواد  الغذائية الضرورية مع توفرها في مخازن ، ولا بعرض منها إلا النزر القليل في الأسواق رفعا لأسعارها  ، وغالبا ما يحصل ذلك في غياب الرقابة  اليقظة والفعالة و الصارمة .  وقد تجتمع ندرة المواد مع احتكارها ، فتكون الأزمة حينئذ خانقة ، ومنذرة بعواقب الأمور .

ومعلوم أن غلاء المعيشة مرتبط ارتباطا عضويا بارتفاع أسعار كل ما به تتوفر المواد الاستهلاكية . وأول ما يقدح شرارة غلاء المعيشة في هذا الزمان  ارتفاع أسعار الوقود الذي يتوقف عليه نقل مختلف المواد ، وعلى رأسها المواد الغذائية الضرورية ، علما بأن أسعار الوقود تتحكم فيها الدول المصدرة للنفط ، والأسواق العالمية المتحكمة في أسعاره .  ولقد صار المواطن في بلادنا وكلما سأل عن سبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية  يواجه من طرف الباعة بمبرر ارتفاع سعر الوقود.

وتحت  تأثير صدمة غلاء المعيشة ،يتهم المشترون  الباعة  من أصحاب تجارة التقسيط  بالتسبب فيها ، بينما يتنكر هؤلاء  لهذه التهمة ،ويشرون بدورهم  بأصابع الاتهام إلى تجار الجملة ، وهؤلاء أيضا  يتذرعون بارتفاع أسعار الوقود التي ترتفع  بسببها أسعار النقل ، مع أنه قد يصح هذا  التبرير في بعض الحالات ، لكنه في حالات الاحتكار لا يمكن قبوله سواء بالنسبة لتجار التقسيط أو بالنسبة  لتجار الجملة بحيث  يكون الجميع مسؤولين عن الغلاء ، وتقع المسؤولية الكبرى على الجهات المسؤولة عن صيانة الأمن الغذائي في البلاد . وفي كل الأحوال  يكون المستهلكون هم الضحايا في نهاية المطاف  .

ودون الخوض في تفاصيل غلاء المعيشة ببلادنا، والتي لا يمكن أن ينكر استفحالها إلا جاحد أو مكابر ، سنركز على الآثار النفسية السلبية أو لنقل السيئة  المترتبة عنه ، والتي قد تصير وطأتها  حادة لدى الشرائح المعدمة، وربما قد تخف قليلا لدى  شرائح متوسطة الحال دون أن تزول نهائيا  .

وأخطر أثر نفسي يترتب عن غلاء المعيشة القلق النفسي الذي قد يصير حادا   لدى البعض، بحيث يصير هو شغلهم الشاغل  ليل نهار، لأنه مرتبط  بالقوت اليومي  أو بالوجبات اليومية .  وسبب  تفاقم هذا القلق هو عجز الأجور  أو المرتبات عن تغطية أسعار المواد الاستهلاكية الضرورية التي يتوقف عليها استمرار الحياة . ويتسبب غلاء المعيشة في استفحال تراكم الديون حين تستهلك مصاريف المعيشة اليومية  معظم  الأجور والمرتبات ، ولا يجد الناس سبيلا إلى مداخيل أخرى من شأنها أن تغطي تكاليف  لقمة العيش المتزايدة أو لنقل المتفاقمة  إلا عن طريق الاستدانة التي  تكون سببا في تتراكم الديون  على المدينين  مع عجزهم عن  تسديدها ، فتترتب عن ذلك عواقب وخيمة حيث يفضي عجزهم إلى سلب حرياتهم خلف القضبان ، فيصير بذلك  من يعولونهم  عرضة للضياع  الذي  قد تنشأ عنه آفات اجتماعية  في منتهى الخطورة من قبيل  اللجوء إلى السرقة  واحترافها ، أو اللجوء إلى  التسول ، وربما الوقوع فيما هو أسوأ حين  تقايض الأعراض بما يسد الرمق  في تغييب السجون للمعيلين... إلى غير ذلك مما لا تحمد عقباه ،وما يورث آلاما نفسية مبرحة غالبا ما تتطور إلى أمراض نفسية مزمنة قد تؤدي إلى نهاية مؤلمة  تصل حد التفكير في الانتحار. ولا يجب أيضا الاستهانة بدور غلاء المعيشة في تفكك الأسر إما بالطلاق أو بتخلي أربابها عمن يعولونهم ، فتتضاعف بذلك  معاناة  أفرادها عائلين ومعولين على حد سواء .

ومع استفحال ظاهرة غلاء المعيشة وما تنذر به من عواقب وخيمة ، يغيب التفكير الجاد من طرف الجهات المسؤولة  عن تأمين الأمن الغذائي  في تدارك هذه الآفة الاجتماعية قبل وقوع الانفلات الأمني المهدد للاستقرار، ويكون السبب هو غلاء  المعيشة السريعة وتيرته  في هذا الظرف  ، علما بأنه على تلك الجهات  تقع مسؤولية  التفكير في تسريع وتيرة الإجراءات الوقائية لمحاصرة الغلاء ، وعلى رأس تلك الإجراءات  الرقابة الفعالة والصارمة التي  يجب أن تنطلق بداية من أماكن الانتاج  بالتدرج من  أماكن انتاج المحاصيل حبوبا، وخضروات ،وفواكه...  ،ومن أماكن تربية المواشي والدواجن ،  من أماكن صيد الأسماك ،ومن  أماكن تصنيع ما يصنّع من مواد غذائية  ، ثم  بعد ذلك مصاحبة ومتابعة  مراحل تسويقها  المختلفة  على مستوى تجارة  الجملة ، وتجارة التقسيط مع  مداومة  إذاعة نشرات  اقتصادية يومية في المواطنين عبر  وسائل الإعلام الرسمية  ، ومع حضور دائم للعناصر التي تنتدب للمراقبة عبر كل  المراحل والأماكن التي تمر بها أقوات الناس .

ويمكن  اليوم وبكل جلاء معاينة مدى ما يعبر عنه المواطنون من حرمان بسبب غلاء المعيشة بلسان الحال قبل لسان المقال ، وذلك حين يقفون  على سبيل المثال في طوابير عند أبواب المجازر لاقتناء القليل من اللحوم على اختلاف أنواعها وهم يشعرون بالغبن أمام عجزهم ، كما يشعرون بامتهان كرامتهم  بحضور ومعاينة بعضهم البعض وهم يتسوقون تحت  خجل وحرج كبيرين بسبب اقتنائهم كميات  جد متواضعة من اللحوم ، وهم يشعرون أنهم يريقون بسبب ذلك ماء الوجه . وقد يجرؤ بعضهم  تحت ضغط الحاجة على استجداء بعض العظام أو بعض الشحم يدعمون به تلك الأقساط المتواضعة من اللحوم  التي يقتنونها ، مع أنه لا تلبى طلباتهم في الغالب . هذا بخصوص اللحوم ، أما بخصوص الفواكه ، فلم تعد مما يطمع في اقتنائها، لأن أسعارها تضاعفت بشكل غير مسبوق ، ولم يعد الناس يفكرون فيها ، وقد شغلهم عنها التفكير في الخضر الأساسية كما هو الشأن بالنسبة لثالوث البطاطس، والطماطم ،والبصل . ومما يزيد من معاناة المعيلين أن عيالهم لا يكفون عن الإلحاح عليهم من أجل الحصول على ما يشتهون من مأكولات صارت مكلفة  مع تدني قدرتهم الشرائية ولذلك لا يستطيعون تلبية  رغباتهم خصوصا الصغار منهم الذين لا يمكن تفهمهم لما هو عليه وضع المعيشة عندنا أو إقناعهم بضيق ذات اليد أو بشيء اسمه آفة أو كارثة الغلاء .   

ونختم بالقول أن ظاهرة غلاء المعيشة المستفحلة عندنا يوما بعد يوم  ، صارت تنذر بعواقب الأمور ، ولا يمكن الاستهانة بها أو تجاهلها، لأنه حين  وقوعها لن ينفع ندم، ولات حين مندم . 

وسوم: العدد 1093