نصائح لكل من ينتمون إلى قطاع التربية سواء كانوا مستنصحين أم كانوا زاهدين في النصح ( الحلقة الأولى )
مما رواه أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بلغوا عني ولو آية " ، ويجدر بكل مؤمن أن يعمل بهذا الحديث طاعة لله تعالى، ولرسوله عليه السلام على قدر ما يعلم من الكتاب والسنة ، وما ارتبط بهما ، وبكل ما به صلاح أمة الإسلام .
والمبلغ يكون بالضرورة ناصحا ، والنصح مهمة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، لم يثنهم عنه الزاهدين فيه أو الراغبين عنه . ولقد قضى منهم سنوات طوات أوشك على القرن عند بعضهم كنبي الله نوح عليه السلام ينصحون ،ولا يسأمون حتى قضى الله ما قضى في الذين قبلوا النصح ، وفي الذين رغبوا عنه ، وكانوا جميعا يصرحون بالنصح لأقوامهم كما جاء في الذكر الحكيم ، ويحذرون الراغبين عنه بسوء العاقبة .
ومعلوم أن النصح في اللسان العربي هو إخلاص المشورة سواء لمن استنصح ، أو لمن يستنصح . والجميل في هذا التعريف هو اقتران النصح بالإخلاص، وهو النقاء والصفاء من كل شائبة . ولا يكون الناصح إلا أمينا ومخلصا ، ومن لم يكن كذلك ،فما هو بناصح بل يكون نصحه كنصح إبليس الكاذب لعنه الله لسيدنا آدم وزوجه عليهما السلام .
قد يتسأل بعض المربين ممن لا يعرفون صاحب هذا النصح الوارد في هذا المقال عنه ، فأقول لهم إنه درس في القسم عقدين من الزمان ، وطاف بين الأقسام مشرفا تربويا لعقدين ونصف ، فراكم بذلك تجربة متواضعة في المجال التربوي ، وأحسب أنها ربما أفادت من جاء بعده ، أو لعلها تذكر من صاحبه ،ولا زال مرابطا في ثغر هذا المجال الذي لا يضاهي شرف الانتماء إليه شرف غيره.
ولمن شاء أن يعرف الباعث على تقديم هذا النصح، أقول له إنني سمعت أحد الفضلاء في فيديو تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي يقول إن المجال التربوي لا يؤتي أكله إلا لمن ولجوه عاشقين لا مضطرين ، فأعجبتني فكرته ، ففكرت في نصح ربما زاد عشاقه عزيمة وإقبالا ، أوربما نقل المضطرين من وضعية الاضطرار إلى مقام العشق.
أقول في نصحيو بالله تعالى التوفيق والسداد ، إنني أستهدف بهذا النص كل الأطر التي لها صلة بالمجال التربوي أساتذة ، وإداريين على اختلاف مهامهم ، ومفتشين على اختلاف تخصصاتهم ، وموجهين ، ومخططين ، ومسؤولين إقليميين ، وجهويين ، ومركزيين سواء كانوا من العشاق أم كانوا من المضطرين . ولقد سمعت يوما في مركز تكوين المفتشين بالرباط الأستاذ الدكتور عباس الصوري وهو يميز بين عاشق التدريس ، والمضطر إليه ، مشبها الأول بنجار ماهر مبدع ، والثاني بداق مسامير في الألواح .
ومن المعلوم أن المتعلمين هم أهم رأسمال بشري في الوطن ، ومن أجلهم وجد كل هؤلاء المربين كي يوفروا لهم كل الظروف المناسبة لتنشئتهم التنشئة الصالحة والتربية السوية ،التي تؤهلهم لحسن خدمة هذا الوطن في شتى المجالات ، والسير به نحو ما يستحق من تطور وازدهار ردا لجميله الذي لا يقدر بثمن .
ولا بد أن تحصل قناعة لكل الفاعلين في المجال التربوي ممن لم تحصل لديهم قبل أنهم لا يمكنهم التعامل مع المتعلمين دون تحصيل المعلوم بالضرورة مما تجب معرفته من علوم التربية التي تدور كلها حول طبيعة وأحوال المتعلمين .
والمتعلم الذي يلتحق أول مرة بالمؤسسات التربوية سواء كانت عمومية أم خصوصية كائن بشري نشأ في وسط اجتماعي أو سوسيولوجي مؤثر في نفسيته أو سيكولوجيته، لا بد من أن يفتح له ملف أو سجل يعرف بوسطه الاجتماعي بكل دقة من أجل فهم كل سلوك يصدر عنه ، ويجب أن يظل هذا السجل مفتوحا يخضع للتحيين المستمر ، ويرحل معه في مختلف أطوار تعلمه حتى يغادر أخر مؤسسة تربوية . ودون الاطلاع على هذا السجل لا يمكن لطرف من الأطراف المشتغلة في قطاع التربية أن تعرف طبيعة الناشئة المتعلمة أو تؤدي وظائفها على الشكل المطلوب وبنجاح .
ولعل الأطر الإدارية ممن تشرفت بمصاحبتهم في تدريبهم على العمل التربوي بعد العمل بالأقسام ، وبإقرارهم في مناصبهم الإدارية، أنني كنت ألح على توفرهم على مثل هذا السجل الذي يجب أن يتضمن ما يلي :
معرفة الوسط الأسروي ومكانته الاجتماعية ، ويتعلق الأمر بأحوال الآباء والأمهات من حيث وجودهم أو غيابهم بسبب وفاة أو طلاق أو غياب تكون بعده عودة أو غياب دائم بسبب هجران ، أومن حيث أرصدتهم المعرفية ، أومن حيث طبيعة العلاقات الزوجية بينهم ، ذلك أن المتعلمين يتوقف نموهم السيكولوجي المؤثر في سلوكهم، وفي تربيتهم، وفي تعلمهم على وجود أوغياب الآباء والأمهات ، حيث أن يتيم الأبوين معا ليس كاليتيم لأب أو لأم ، وليس من يعيش في أسرة مفككة بسبب طلاق أو غياب أحد الأبوين أو هجران بعضهما أو صراعهما الدائم كمن يعيش في عش هادىء تسوده المودة والانسجام . ، وليس من يعاني والداه من آفة عجز كمن والداه في صحة وعافية ، وليس من والداه يعانيان من فاقة ، كمن والداه يعيشان في كفاف أو في بحبوحة من العيش ، وليس من يعيش في أسرة متعددة الأفراد إخوة وأخوات مع فاقة كمن يعيش في أسرة قليلة الأفراد مع حسن الحال . هذه كلها عوامل مؤثرة في سيكولوجية المتعلم ، وفي مساره التعلمي نجاحا أو إخفاقا يجب أن تدون بدقة متناهية مع شرط احترام سريتها .
ولا يجب أن يغيب عن أذهان كل المربين على اختلاف مهامهم التربوية أن المتعلمين يعون بشكل أو بآخر منذ صغرهم الفوارق الاجتماعية التي بينهم ،لأنهم يخوضون فيما بينهم في أحاديث تكشف كما يدور في أسرهم من باب التباهي ، وقد يبدأ حديثهم عنها بكل براءة ودون حرج ،ثم يتحول حسب مراحل العمر إلى ما هو محرج حين يقارنون بين وضعياتهم الاجتماعية ، الشيء الذي تترتب عنه مشاعر تتراوح بين بالزهو والارتياح وبين شعور البعض الأخر بالغبن والحرمان والإحباط انطلاقا من المقارنة بين اختلاف الملبس، والمأكل، والمشرب والمسكن، والمركب ... وغير ذلك مما يتداولونه فيما بينهم من أحاديث تتعلق بأسرار أحوالهم الاجتماعية .
وعلى الأطر الإدارية أن تدون سجلات تتضمن كل ما يتصل بتلك الأحوال ، ويستحسن أن تكون سجلات خطية ، ولا بأس أن تكون رقمية أيضا، خصوصا ونحن في زمن التطور المعلوماتي الهائل ، وأن يزودوا بها أولا المدرسين قبل غيرهم في كل مراحل التعليم ، وأن تصحب المتعلمين حيثما حلوا و ارتحلوا ، منتقلين بين المؤسسات التربوية، وتكون قابلة للتحيين المستمر كلما اقتضت الضرورة ذلك ، ويكون تقديمها إجباريا وسريا بين مؤسسة وأخرى كما هو الشأن بالنسبة للسجلات المتعلقة بنتائج المتعلمين .
ومما يجب أن يدون أيضا في تلك السجلات الأحوال الصحية العضوية والنفسية للمتعلمين بحيث تجب الإشارة إلى العلل الدائمة كالسكري والصرع ، ومرض القلب، وعلل البصر والسمع ، و التخلف الذهني أو العاهات أوالاحتياجات الخاصة أو غيرها من الأمراض المزمنة ،و التي يجب أن يؤخذ تأثيرها السيكولوجي على المصابين بها ، وكذا تأثيرها على تعلمهم ،وتربيتهم، ومردوديتهم .
ومما يجب أن يدون في تلك السجلات أيضا طبيعة أمزجة المتعلمين بناء على ما يلاحظه من طرف ومن يتعاملون معه من مربين ، ويتعلق الأمر برصد طبائعهم كالانفتاح أوالانغلاق ، والخجل، أوالجرآة ، والسوية أو الدلال ، والانضباط أو التهور ، والحضور الذهني أو الشرود ، والجد أو التكاسل ، والحيوية أو الخمول ، والمواظبة أو الغياب ... إلى غير ذلك من الطباع الايجابية أوالسلبية مما يجب أن يوثق بدقة في تقارير تشمل ملاحظات يدونها أقرب المربين منهم ، فضلا عما يصرح أو يقر به أولياء أمورهم عند حضور وازع الوعي .
ومعلوم أن هذه الطبائع خصوصا السلبية منها تتطور مع تطور مراحل الأعمار ، وقد تكون ملازمة لبعض المتعلمين تزيد ولا تنقص حتى تصير مزمنة ، ومستعصية على التقويم ، فتصير حينئذ طباعا لا تنفك عن أصحابها ، وقديما قيل من شب على شيء شاب عليه أو كما قال الشاعر :
وإن سفاه الشيخ لا حِلْم بعده وإن الفتى بعد السفاهة يَحلُم
ولا بد أن الطباع الحسنة والسيئة هي نتاج عدة عواملـ نذكر منها ثلاثة عوامل هي : عامل التربية الأسرية وهو عامل في غاية الأهمية ، وعامل تأثر وتأثير المتعلمين في بعضهم البعض داخل أسوار المؤسسات التربوية وفي محيطها ، وذلك في غياب الرقابة التربوية فيها أو في داخلياتها، ثم عامل التأثر بسلوكات المحيط العالم أو الشارع أو الحي أو الزقاق ... و غيرها من المرافق الاجتماعية رياضية أو ثقافية أو فنية أو جمعوية ... التي يرتادها المتعلمون من مختلف الأعمار .
ودائما نقول للأطر التربوية خصوصا الإدارية الموكول إليها تتبع أحوال المتعلمين المختلفة ، ونخص بالذكر السادة الحراس العامين للخارجية والداخلية عليكم تدوين كل ذلك في سجلات الهويات .ونقترح على ذوي الهمم العالية أن يعدوا شبكات قابلة للتعبئة لتسهيل جمع المعلومات المتعلقة بها ، وتزويد مختلف الأطر التربوية المعنية بها لتوظيفها كل حسب موقعه ومهمته .
وما لم تستثمر مضامين تلك السجلات الاستثمار الأمثل ، فلا يمكن أن تزول العقبات التي تحول دون معرفتنا كمربين بمن نربيهم ونعلمهم المعرفة الصحيحة والدقيقة .
ونقف عند هذا الحد في هذه الحلقة الأولى، وللحديث بقية في حلقة قادمة بمشيئة الله تعالى .
وسوم: العدد 1101