نديم العروضيين المجلس السابع عشر

سلام عليكم!

وعليكم السلام!

طبتم مساء -يا أبنائي!- وطاب مسعاكم إلينا!

بسم الله -سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاةً على رسوله وسلاما، ورضوانا على صحابته وتابعيهم حتى نلقاه!

كيف حالكم، كيف أمسيتم؟

بخير، الحمد لله!

بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، ويسر لنا ولكم كل عسير، وسهل كل صعب!

اليوم ننظر في قصيدتين متآخيتين: إحداهما رسالة، والأخرى جواب، على طريقة الشعر الإخواني، هل تعرفون شعر الإخوانيات؟ هل سمعتم عن هذا؟ لا نقصد شعر الإخوان المسلمين -وللإخوان المسلمين شعراؤهم بالمناسبة، وهم معروفون، وقد وُضعت فيهم رسائل ماجستير ودكتوراة، حضرت مرة واحدة مناقشة باحث من الإخوان المسلمين، وضع رسالته للدكتوراة في شعراء الدعوة، هكذا يسمونهم، ومنهم جمال فوزي، وفلان وفلان، كثيرون، بعضهم مشهور، وبعضهم مغمور- لا، بل شعر الإخوانيات، شعر العلاقات الاجتماعية بين الإخوة والأصدقاء، وهو معروف عندكم في عُمان، في مراسلات الأدباء والأصدقاء، يرسل بعضهم إلى بعض، يسأله، فيجيب الآخر، وأحيانا يمازحه، هذا معروف عندكم. وإذا فتحتم دواوين العمانين ولا سيما المتأخرون، وجدتم جانبا منها في هذا. والعادة أن يجيب المجيب من وزن قصيدة المرسل وقافيتها. وهذا الحُصْري -ولعله قيرواني!- المتوفى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة (٤٨٨هـ) يكتب لابن خَلَصة الذي لن يكون إلا في زمانه -وسيبدو من القصائد أن ابن خلصة هذا كان شخصا مهمًّا، كأنه كان الكاتب، والكاتب آنئذ بمنزلة الوزير- يتوسل بالكلام في الغزل إلى الكلام في الأخوّة. ندرس من خلال القصيدتين اللتين كأنهما قصيدة واحدة، نمطا من الوزن قال فيه حازم القرطاجني في كتابه "منهاج البلغاء وسراج الأدباء": "أربأ بالعرب أن تكون قالت من هذا الوزن"! إلى هذا الحد يحتقر هذا الوزن! حرام عليك، يا أخي، لا يستحق كل هذا الاحتقار كما سترون! ولكننا نكاد لا نجد له مادة حقا، هو موجود منذ العصر الجاهلي، لا مفقود كالمتدارك مثلا، لكن في أبيات معدودة على بعض أصابع اليد، حتى إننا في الإحصائية -إن شاء الله!- بعد أن ننتهي، سنجده في الحضيض! ماذا قال فيه حازم -وهذا حازم هذا عالم وشاعر له ديوان- عالم كبير، وشاعر وسط، ومثل هذا معروف، أما أن تجد الشخص عالما كبيرا وشاعرا كبيرا فهذا يكاد لا يوجد إلا في الزمان الطويل بعد الزمن الطويل، عند العرب وعند غيرهم، ومعنا عبدالرحمن يدلّنا على هذا وهو خريج الإنجليزية، يؤكد لنا أن هذا كذلك عزيز في الأمم الأخرى،عنده في الانجليزية يعدُّون الشعراء الكبار العلماء الكبار على أصابع اليد الواحدة على مدار التاريخ، نعم؟

الشافعي كان يقول: كنت سأكون أشعر من لبيد؟

"وَلَوْلَا الشِّعْرُ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِي لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ"!

هذا الشافعي عبقري زمانه وهدية السماء، الفذ، لكنه لم يكن كما تظن مشغولا بالشعر، بل كان يقول في المناسبة البيتين والثلاثة. أما أن يكون شاعرا كبيرا وعالما كبيرا مشتغلا بهما معا فصعب جدا، يكاد لا يكون. والمعروف عن الشافعي أنه كان مشغولا بالعلم، فصيحًا حُجةً، يأتي مجلسه طلاب الحديث، وطلاب الفقه، وطلاب الأدب، وغيرهم، يجلسون حتى يستمتعوا بلفظه كما أستمتع أنا هذه الأيام بشاب مغربي، أستمع إليه فأستمتع بكل ما يقول، أتدرون من هو؟

سعيد الكمَلي.

نعم، سعيد الكملي، أوصيكم أن تتبعوه على اليوتيوب، أهو الكَمْلي أم الكمَلي، أم ماذا؟

علق هو نفسه على هذا.

فماذا قال؟

قال: الكَمَلي، لا الكِمْلي.

الكمَلي بفتح الميم، سعيد الكَمَلي شاب في أواخر الثلاثينيات -ما شاء الله، تبارك الله!- من يستمع إليه يطمئن على أن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة حقا! ما شاء الله! فرغ من كل شيء وهو طفل، كنا نحن نلعب الكرة في الشارع، وكان هو يحفظ الكتب بعد الكتب بعد الكتب، حتى فرغ منها، وانتقل إلى تأملها، ووصل الآن إلى ذروة لا يدانيه فيها كثير من الناس، مع وسامة ولطافة وأناقة، بهجة يجلس على كرسي الإمام مالك في مسجد السنة من مدينة الرباط المغربية، وعلى صغر سنه يجلس يشرح للناس الموطأ، يشرح لهم كل شيء في الموطأ، فإذا عرضت عبارة حكى لهم حكايتها منذ أن كانت إلى الآن، إذا ذُكر اسم حكى لهم كل ما يخصه حفظا من صدره لا قراءة من الكتب.

حينما حكيت هذا لبعض الناس أمس، قال لي: ازددنا كتابا! لا، لا، هذا تقليل من الرجل، أشبه بالحقد، لا، ينبغي أن نفرح لوجوده، ثم هو غير مقتصر على الترديد، لا، بل عنده ما يحمل عنه، بدليل أنه يُدعَى للمؤتمرات، ويستفتى، ويشارك في القضايا، وله على اليوتيوب مشاركات، وقد ظهر نجمه وسطع وصار يُدعى إلى البلاد، كما ظهر نجم الشاب فلسطيني المقيم في النمسا، من؟ من هذا؟ الذي جاء إلى هنا قريبا؟

عدنان إبراهيم.

عدنان إبراهيم، هو كذلك مدهش، شباب ما شاء الله في عمر واحد تقريبا، منتهى الجمال، ينظر إليّ مِسعِد شزرا طبعا، يقول: كيف تُعجَب بهذا وبذاك، وكل واحد في واد، كأنّهما متناقضان! أنا أحب هذا، أقدر كل شخص مهما كان اتجاهه. عدنان إبراهيم عند مِسعِد مثلا خارج عن العادات، وخارج عن كذا، لا، لا، أنا أحبه كذلك جدا، نعود. فحازم هذا الذي كان عالما كبيرا وشاعرا وسطا، يربأ بالعرب أن تكون قالت من هذا الوزن، فلماذ ؟ سنعرف. نبدأ بقصيدة الحُصرِي ونُثنّي بقصيدة ابن خلصة.

"وَفَيْنَا"، لِلْحُصْرِي، المتوفى عام ثمانية وثمانين وأربعمة الهجري:

"وَفَيْنَا لَهُمْ وَخَانُوا كَذَا النَّاسُ وَالزَّمَانُ

لَحَوْنِي عَلَى غَرَامِي وَقَالُوا الْهَوَى هَوَانُ

وَمَا ضَرَّ أَنْ يَقُولُوا صَبَا فِي الْهَوَى فُلَانُ

لَحَا اللَّهُ كُلَّ خِلٍّ لَحَا فِي هَوًى يُصَانُ

وَأَبْقَى الْأَدِيبَ فَرْدًا لِمُلْكٍ بِهِ يُزَانُ

فَدَيْنَاكَ مِنْ أَدِيبٍ عَلَيْهِمْ بِهِ امْتِنَانُ

أَسَيْفٌ بِفِيكَ يَقْضِي عَلَى الدَّهْرِ أَمْ لِسَانُ

كَذَا تُنْتَجُ الْمَعَالِي كَذَا يَسْحَرُ الْبَيَانُ

وَفِي كُلِّ حَاجَةٍ لِي عَلَى جَاهِكَ الضَّمَانُ"!

"وَفَيْنَا لَهُمْ وَخَانُوا كَذَا النَّاسُ وَالزَّمَانُ"، يقصد أنه وفي لأحبابه وخانوه، وخيانة الأحباب أشد علي النفس "من وقع الحسام المهند"، كما قال الشاعر. "لحوني على غرامي"، ما "لحوني"؟ لاموني؛ من أين جاء معنى ""لاموني في "لحوني"؟ جاء من لِحاء الشجر، لَحا الشيء قشره، كما تَقشرُ عن الشجرة لحاءها؛ فكأنهم يقشرونه بالعيب! "لحوني على غرامي وقالوا الهوى هوان"، تأملوا اللعب بالكلمة؟ "الهوى هوان"، كنا قديما نقول مع ابن سناء الملك: "الهوى هو المهوى"، طبعا، واللعب بكلمتي الهوى والمهوى أقرب وأشد، لكنه هنا لعب بكلمتين أخريين، الهوى والهوان، والهوى طبعا من مادة "هـ، و، ي"، والهوان من مادة "هـ، و، ن"، أما الهوى والمهوى فكلتاهما من مادة واحدة. "وَمَا ضَرَّ أَنْ يَقُولُوا صَبَا فِي الْهَوَى فُلَانُ"، ما الذي ضرنا به ذلك؟ ما المشكلة؟ هذه طبيعتنا، فطرتنا! "لَحَا اللَّهُ كُلَّ خِلٍّ لَحَا فِي هَوًى يُصَانُ"، يرد عليهم اللَّحْو، "مَنْ نَجَلَ النَّاسَ نَجَلُوهُ"، أي من عابهم عابوه! يسمى الصديق خلًّا في مرحلة عليا من الصداقة، المرحلة التي يتخلل فيها كل واحد صاحبه، فيسمى خليلا وخلا -أتذكرون حينما كنا نتكلم؟ هذا هو!- "الغول والعنقاء والخل الوفي"، هذا أين نجده؟ في الأحلام، إن شاء الله! "وَأَبْقَى الْأَدِيبَ فَرْدًا"، ها! يدعو لصاحبه، بدأ بالغزل من باب التلطف والمفاكهة وكذا، ثم انتقل، "وَأَبْقَى الْأَدِيبَ فَرْدًا لِمُلْكٍ بِهِ يُزَانُ"، هذا البيت هو الذي يدل على أن صاحبه كان ذا شأن في المملكة، كان الكاتب بمنزلة الوزير. "فَدَيْنَاكَ مِنْ أَدِيبٍ عَلَيْهِمْ بِهِ امْتِنَانُ"، على من؟ على الأدباء، وصل منهم واحد إلى الوزارة، حينما يصل عندنا إلى وزارة الثقافة شاعر مثلا، أو إلى وزارة الرياضة رياضي، يتنفس الصعداء الرياضيون هنا والأدباء هناك، ويستبشرون خيرا: نحن على الطريق -إن شاء الله!- قاقتربنا من تحقيق أحلامنا! كان في كليتنا أكثر من واحد حصل على الوزارة، بل عندنا شيء طريف -فاسمعوا هذه الملحة!- يحكون أن المصريين الذين عملوا هنا عندكم في كلية الآداب عادوا فتولوا الوزارات والمناصب العالية، فقلت للمسؤول: جئت أجهز نفسي للوزارة -إي، والله!- ونعم؛ صابر عرب كان هنا في قسم التاريخ، فعاد، فتولى وزارة الثقافة، وكذلك شاكر عبد الحميد وكان في قسم المسرح، وغيرهما، ما هذه الحكاية، ما شاء الله! أي فأل طيب هذا على أساتذتك المصريين يا كلية الأداب بجامعة السلطان قابوس! وأقل المناصب منصب عميد كلية -مشِّ حالك!- أقل شيء عميد كلية، ما شاء الله! ما سر هذه الكلية! "فَدَيْنَاكَ مِنْ أَدِيبٍ عَلَيْهِمْ بِهِ امْتِنَانُ"، "أَسَيْفٌ بِفِيكَ يَقْضِي عَلَى الدَّهْرِ أَمْ لِسَانُ"، وقرن اللسان بالسيف هذا معروف، ماذا قال سيدنا حسان؟ قال:

"لِسَانِي وَسَيْفِي صَارِمَانِ كِلَاهُمَا وَيَبْلُغُ مَا لَا يَبْلُغُ السَّيْفُ مِذْوَدِي"!

كان للكفار شاعرهم وللمسلمين شاعرهم، وقد حكيت لكم مرة أنه لما سب ابن الزِّبَعْرَى شاعرُ الكفار وكان سبَّابا، رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- استنجد بسيدنا حسان -رضي الله عنه!- فأخرج لسانه، فضرب به أنفه - لسان طويل، ما شاء الله، هكذا يحكون، أخرج لسانه، فضرب به أرنبة أنفه!- وكأنه يقول: أنا لهم! ونعم؛ كان شديدا عليهم حقا! لكن عندنا مشكلة: كان للرسول -صلى الله عليه، وسلم!- ثلاثة شعراء: سيدنا حسان، وسيدنا عبد الله، وسيدنا كعب -رضي الله عنهم جميعا!- تمام؟ فكان سيدنا حسان يهجوهم بالكفر، وغيره يهجوهم بمثالب العرب، فكان كلام غيره أشد عليهم في كفرهم، ثم لما أسلم بعضهم صار كلام سيدنا حسان أشد عليهم، لم يكونوا يعبؤون في كفرهم بكلام حسان، يسبهم بالكفر، ولا يرونه كفرا! وكان يقول أيضا:

"لِسَانِي وَسَيْفِي صَارِمَانِ كِلَاهُمَا وَيَبْلُغُ مَا لَا يَبْلُغُ السَّيْفُ مِذْوَدِي"!

مذودي لساني الذي أذود به عن نفسي، أي لساني أقطع من سناني، وله بيت آخر غير به عجز هذا البيت، فقال:

"لِسَانِي وَسَيْفِي صَارِمَانِ كِلَاهُمَا وَلَلسَّيْفُ أَشْوَى وَقْعَةً مِنْ لِسَانِيَا"!

أي السيف أكثر خطأ إصابة من لساني، لساني يصيب المقتل فورا، أما سيفي فربما أصاب وربما لم يصب! "أَسَيْفٌ بِفِيكَ يَقْضِي عَلَى الدَّهْرِ أَمْ لِسَانُ"، والمراد بالقضاء أهل الدهر، كما تعلمنا من قبل. "كَذَا تُنْتَجُ الْمَعَالِي كَذَا يَسْحَرُ الْبَيَانُ"، بمثل ما تفعل -أيها الوزير، أيها الكاتب الوزير!- نبلغ المعالي ونسحر بالبيان. وبمناسبة "تُنْتَج"، أحب أن أنبهكم على طائفة من الأفعال لم تروَ إلا مبنية للمجهول، هل سمعتم عنها؟ عندنا طائفة من الأفعال لم يسمعها أكثر الناس إلا مبنية المجهول، منها "تُنْتَج"، يقال: نُتِجَتِ الناقةُ، ومنها "جُنَّ"، يقال: جُنَّ فلان، ومنها "حُمَّ"، أي أصابته الحمى -عافانا الله وإياكم!- يقال: حُمَّ فلانٌ، ومنها "سُقِط"، في قول ربنا -سبحانه، وتعالى!- "سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ". قال كثير من اللغويين: لم تردنا هذه الأفعال وما أشبهها إلا مبنية للمجهول هكذا، لكن استطاع غيرهم أن يصل إليها مبنية للمعلوم في بعض النصوص، فوقعنا في مشكلة: أبكلام أولئك نأخذ، أم بكلام هؤلاء؟ لا، عندنا قاعدة نرجع إليها، ما هي؟ "مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ"! هؤلاء الذين قالوا: إن "جُنَّ" لم يردنا إلا مبنيا للمجهول ضربنا كلامهم بكلام من قال: بل وردنا مبنيا للمعلوم، ومنه "جَنَّه الليل" مثلا؛ فماذا تقولون في هذا؟ ترون أن الجنون من مسار آخر! كيف والجنون ستر، "جُنَّ"، أي سُتِر عقله، وهكذا؛ فهذا منها. تأملوا، قال: "تُنْتَجُ" بالبناء للمجهول، و"يَسْحر" بالبناء للمعلوم، وهذا أخوه. عندنا مثلا في مصر كانوا يركزون على "نُتج"؛ يقولون في المصنوعات: مَنْتُوجات، وعندنا هيئات كثيرة بهذا الاسم "مَنْتُوجات" -لا يقولون: "مُنْتَجَات"، بل مَنْتُوجات- كذا للمَنْتُوجات الزراعية، أخذا من "نُتِج"؛ فمنه يخرج اسمه المفعول لا الفاعل -ها!- منتوج لا ناتج، ومجنون لا جانّ. "وَفِي كُلِّ حَاجَةٍ لِي عَلَى جَاهِكَ الضَّمَانُ"، أنا مطمئن إلى حصولي على حاجتي بضمان جاهك. فبماذا أجابه صاحبه الكاتب الوزير؟ هذا وزير، لكنه صديقه، والصداقة عنده فوق الوزارة.

"أَفِقْ"، لِابْنِ خَلَصَة:

"أَفِقْ فَالْهَوَى هَوَانُ لِعَهْدِ الصِّبَا أَوَانُ

إِذَا مَا انْطَوَى شَبَابٌ طَوَتْ وُدَّكَ الْحِسَانُ

لَعَمْرِي وَإِنَّ عَمْرِي لَمَا لَيْسَ يُسْتَعَانُ

أَيَا صَادِقًا هَوَاهُ إِذَا الْمُدَّعُونَ مَانُوا

فَلَمْ يَحْوِ مَا حَوَاهُ زَمَانٌ وَلَا مَكَانُ

وَلَمْ يَفْرِ مَا فَرَاهُ حُسَامٌ وَلَا سِنَانُ

إِذَا سَلَّ مُرْهَفَاتٍ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَيَانُ

تَبَيَّنْتُ أَنَّ أَمْضَى مِنَ الصَّارِمِ اللِّسَانُ

فَعِشْ لِلْوَرَى مَلِيًّا فَفِي عَيْشِكَ ازْدِيَانُ

وَلَا زَالَ لِلَّيَالِي بِإِبْقَائِكَ امْتِنَانُ"!

"أَفِقْ فَالْهَوَى هَوَانُ، يعابثه كما عابثه! تأملوا كيف قلنا: "هوانُ"، لم نقل: "هوانٌ"؛ لماذا؟ لمراعاة التقفية. صاحبه قَفّى، لكنه لم يفعل شيئا؛ تيسر له الكلام من غير تصرف، "خَانُوا" هي بنفسها مسندة إلى الواو والكلام مستقيم. لكن هذه "أَفِقْ فَالْهَوَى..."، العاديَّ أن يقول: "... فَالْهَوَى هَوَانٌ"، خبر المبتدأ "الهوى"؛ فلماذا لا ينونها؟ إما أن يقف عليها بالتسكين، وإما أن ينونها في الوصل، إما يقول: "أَفِقْ فَالْهَوَى هَوَانٌ لِعَهْدِ الصِّبَا أَوَانْ"، هذا في طريقة النثر، ولكننا هنا في شعر لا نثر؛ وللشعر طريقته الخاصة التي منها أن يحافظ على التحريك ويشبعه فيقول: "أوانُ"، ومنها أن يأتي إلى المنتصف إذا أراد أن يزين المقطع، فيفعل مثل هذا، يقول: "هَوَانُ"، لتشبه "أَوَانُ". "إِذَا مَا انْطَوَى شَبَابٌ طَوَتْ وُدَّكَ الْحِسَانُ":

"يُرِدْنَ ثَرَاءَ الْمَالِ حَيْثُ عَلِمْنَهُ وَشَرْخُ الشَّبَابِ عِنْدَهُنَّ عَجِيبُ"!

ومن هنا كان قولهم في المثل: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ"! ما أصل هذا المثل؟ جاءها الشيخ يخطبها وهو ثري ذو أموال لا حصر لها، وجاءها شاب فقير، فآثرت الشاب على الشيخ -"وَشَرْخُ الشَّبَابِ عِنْدَهُنَّ عَجِيبُ"!- وعاشت في ضنك، فاحتاجا، فذهبَت الى الشيخ -يبدو أنه كان بجوارهم- فقال لها: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ"، أيام جئت أخطبك فرفضتني ضيعتِ اللبن؛ فابكي على ما أصابك، وليسعك بيتك -وابكي على خطيئتك!- هذا طبعا نصب واحتيال، وهو المخطئ، لا هي! "لَعَمْرِي وَإِنَّ عَمْرِي لَمَا لَيْسَ يُسْتَعَانُ"، ما هذا الأسلوب؟

قسم.

قسم؛ فبم أقسم؟ بعَمْرهِ هو، وما عَمْرُه هذا، إن شاء الله؟ العَمْر الذي به يُسمى الرجل التَّعْمِير.

الإحياء.

أحسنت! أو كأنه الإحياء، كما في تعمير البيوت، تقول أحيانا تنسب التعمير إلى الله: لَعَمْرُ اللهِ! هذا العاديّ، وهذا المقبول عند المسلمين، أن تقسم بتعمير رب العالمين للأشياء. لكن ما قيمة أن تُقسم بتعميرك أنت للأشياء، كأنك تقسم بنفسك، تقول: لعمري! وما ألطف قسم رب العالمين -سبحانه، وتعالى!- بعَمْر رسوله -صلى الله عليه، وسلم!-: "لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ"! وهو عند المفسرين من التقدير الرفيع الباهر، أن يقسم بعمره! وهو -سبحانه، وتعالى!- الذي يقسم بما يشاء، أعلم بكل عظيم، يقول: لعمرك! و"لعمري" هذا معروف عند الشعراء، وهو من تبسطهم. في مرة كتبت هذا على طريقة الشعراء، في فتواي بالمجمع المكي، فاستثقل، ولم يُقبل: تقسم بعمرك! "أَيَا صَادِقًا هَوَاهُ إِذَا الْمُدَّعُونَ مَانُوا"، ما معنى "مانوا"؟ كذبوا، ومنه "المين" الكذب. "فَلَمْ يَحْوِ مَا حَوَاهُ زَمَانٌ وَلَا مَكَانُ"، لا، هذا بيت ممتاز، أحسن ما في القصيدتين كلتيهما جميعا معا، وفي الحق أن الرجل فيها أعلى كعبا! ومن فورنا نذكر الأثر "مَا وَسِعَتْنِي أَرْضِي وَلَا سَمَائِي، وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ"! ألا ما أعظم جدوى هذا الأثر على الشعراء! "وَلَمْ يَفْرِ مَا فَرَاهُ حُسَامٌ وَلَا سِنَانُ"، ما الحسام؟

السيف.

السيف، وما السنان؟

الرمح.

الرمح، والسنان أصلا سلاح الرمح، فهذا مجاز مرسل علاقته الجزئية. والسنان السن، بدليل قول المتنبي:

"كُلَّمَا أَنْبَتَ الزَّمَانُ قَنَاةً ركَّبَ الْمَرْءُ فِي الْقَنَاةِ سِنَانَا"!

يقصد هذا؛ فالسنان هو هذه الحديدة المسنونة فقط، لكن يُعبَّر بها مجازا عن الكل. والرمح أصلا ثلاثة أجزاء: السنان والقناة والزُّجّ. والزج سلاح صغير هنا يركز به الرمح في الأرض، وهو عندكم في عصا الشِّيب؛ في هذه العصا حديدة من هنا وحديدة من هنا، على طريقة الرماح/ يبدو أنها من بقايا العادات القديمة، ولهم فيها مآرب أخرى عند الحاجة! وما معنى "يَفْرِ"، فرى يفري قطع قطع، وقد استفاد هنا من الحديث الشريف، الذي ذكر فيه رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- أنه رأى في رؤياه أصحابه يغترفوا من مياه بئر، وسيدنا عمر يغترف أكثر منهم -ولعله أُوِّل هذا بطول العمر أو الخلافة أو كثر الأعمال العجيبة!- فقال "فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ"، فمنذئذ نقلد التعبير، وهكذا يعبر العرب، كيف يعبرون؟ يقرؤون القرآن الكريم والنثر الشريف والشعر النفيس، ويستفيدون من التعبيرات، ما يقلدونه، ثم ينتقلون بعد زمان إلى كلام أنفسهم، يبدؤون بالتقليد، وينتقلون من التقليد الأعمى إلى التقليد البصير، ثم ينتهون إلى الإبداع، لا بد من هذه المراحل الثلاث: تقليد أعمى، ثم تقليد بصير، ثم إبداع، أو اتباع أعمى، ثم اتباع بصير، ثم ابتداع. "إِذَا سَلَّ مُرْهَفَاتٍ..." -بهذا أجاب قسمه "لعمري"- "إِذَا سَلَّ مُرْهَفَاتٍ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَيَانُ"، "تَبَيَّنْتُ أَنَّ أَمْضَى مِنَ الصَّارِمِ اللِّسَانُ"، معنا -يا بيان!- اسمعي الكلام، يتكلم عنك! إذا سلَّ البيان -والبيان فاعل- سيوفاً من المنطق (الكلام)، تبينت أن أمضى من الصارم اللسان، وحينئذ حين يقول الواحد كلمة يقطع بها أشد مما يقطع السيف، تُعرف فضيلة البيان. ثم يدعو له: "فَعِشْ لِلْوَرَى مَلِيًّا فَفِي عَيْشِكَ ازْدِيَانُ"، ما معنى مليا؟

طويلا.

طويلا، وما "ازديان" هذه؟ ما معنى ازديان؟

زينة.

زينة، ومن أين جاءت؟ هي من الزاء والياء والنون حقا، لكن فيها تغيير تدرسونه في الإعلال والإبدال، تقول: زِنْتُه فَازْدَانَ، مثل جمعته فاجتمع؛ فأصل ازْدَان ازْتَيَن، بتاء فياء -واعجب للسحر اللغوي!- ثم قلبت التاء دالا والياء ألفا! تدرسون هذا في المستوى الرابع -إن شاء الله!- بعد عمر طويل -إن شاء الله!- إن وصلتم إلى هذا المستوى!

الفصل القادم، إن شاء الله!

القادم مباشرة؟ لا حول ولا قوة الا بالله! الأيام -يا أخي!- الأيام تجري سريعة! "وَلَا زَالَ"، ما هذا الأسلوب -"لا زال"، غير "ما زال"- ما هذا الأسلوب؟

دعاء؟

دعاء، أحسنتِ، بارك الله فيكِ! إذا قال: ما زلتَ حاضرا، أخبر أنك ما زلت حاضرا، لكن إذا قال: لا زلت حاضرا، سأل الله أن تظل حاضرا! يا سلام، رأيتم الفرق! "وَلَا زَالَ لِلَّيَالِي بِإِبْقَائِكَ امْتِنَانُ"! هاتان القصيدتان بمنزلة قصيدة واحدة، نحتاج في أدائهما إلى شخصين صديقين جدا، ومن خلال خبرتي بكم لا أرى في الفتيان اثنين متلازمين، لكن أرى في الفتيات مثلا منى وإيمان، وأمل وميسون -ها، ومن؟- أصيلة ومريم؟ ولكنْ بينكما كرسي؛ لماذا هذا الفاصل؟ هل يدل الفاصل المادي على...، لا، بل على كل خير، إن شاء الله! طيب، من يؤدي؟ ننافس أم لا ننافس؟ طيب، ماذا نفعل؟ نعطي كل واحد خمس درجات؟ طيب، وكيف نطرد؟ كيف نعاقب؟ أإذا أخطأ واحد طردنا الاثنين؟ هذا، طيب!

لا، لا!

لا، هو هذا، أليسا أخوين حبيبين متصافيين؟ يحمل كل واحد صاحبه في السراء والضراء؟ ها؟ منطق، نتيح إذن لاثنين من الطلاب أو الطالبات، أن يؤديا القصيدتين، يقول هذا بيتا ويقول هذا البيت الذي أمامه، وبهذا نكتشف أن الثانية فيها بيت زائد، على طريقة قول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا"، فقد أجاب الرجل التحية بأزيد منها! يجيب "السلام عليكم"، بـ"وعليكم السلام ورحمة الله"، و"السلام عليكم ورحمة الله"، بـ"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته" -طيب!- فكيف يجيب "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"؟ اخترعوا، لا، اخترعوا زيادة، قيل "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وأطيب صلواته"! سمعتها -ما شاء الله!- إحسانات لا نهاية لها، ولا حدود للإبداع -ها!- فمن نختار؟ من ؟من؟ سالمة وانتصار، وإذا أخطأت واحدة طردنا الاثنتين!

إذا طُرِدْنَا نتغدى!

ما شاء الله، طيب، اعزميني معاك ! طيب، من تبدأ؟ تبدأ انتصار، وتثني سالمة.

أنا أبدأ.

تبدئين؟ نعم؛ وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، يسلم عليك، من؟ مادح نفسه! من؟ إبليس! ابدئي، يا سالمة!

وَفِينَا...

"وَفِينَا" -ما شاء الله، مع السلامة!- خطأ!

ما بدينا أصلا!

خطأ، خطأ!

لا، دكتور، ما بدينا!

الغدا، الغدا بسرعة، الغدا، يالله، مع السلامة، سالمة وانتصار، برا! "وفِينا"؟ المرة الماضية لما قالت: "وا"، طردناها؛ فما الفرق؟ كلكم في محبة واحدة، وبمنزلة واحدة، مع السلامة! من نختار؟ من؟ مروة وأصيلة. من تبدأ؟ مروة، تبدئين؟ أصيلة؟ طيب، انتبهي؛ المسألة صعبة! تبدئين ببيت، وتثني أصلية ببيت، أو تبدأ أصيلة، وتثنين، لأي خطأ من أي جهة نطرد الاثنين جميعا، أو نحذف خمسا من هنا وخمسا من هنا! إذا لم تخطئي حصلتما جميعا على عشر درجات، اسمعوا اسمعوا ها السمعة!

وَفَيْنَا لَهُمْ وَخَانُوا كَذَا النَّاسُ وَالزَّمَانُ

أَفِقْ فَالْهَوَى هَوَانُ لِعَهْدِ الصِّبَا أَوَانُ

لَحَوْنِي عَلَى غَرَامِي وَقَالُوا الْهَوَى هَوَانُ

إِذَا مَا انْطَوَى شَبَابٌ طَوَتْ وِدِّكَ الْحِسَانُ

مع السلامة، برا! يا جماعة، ما شاء الله، الغداء في انتظاركم، طعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية! على شدة السهولة! أصيلة، أين صديقتك؟ أصيلة تغيب كثيرا، والغياب كثيرا يقطع الصداقة، ما هذه الحكاية؟ يا جماعة، مدة الجامعة هذه فرصة لتكوين الصداقات، أنا لا أدعو إلى التكثُّر من الأصدقاء، صديق واحد كاف جدا؛ إذا أكثرنا من الصخب لم نستطيع أن يُنصت كل واحد إلى نفس الآخر، صديق واحد بسبعين صديقا، بسبعين زميلا، ها ، من؟ لميس، أين صديقتك، يا أصيلة؟ أين؟ ها؟ لميس، وبيان.

وَفَيْنَا لَهُمْ وَخَانُوا كَذَا النَّاسُ وَالزَّمَانُ

أَفِقْ فَالْهَوَى هَوَانُ لِعَهْدِ الصِّبَا أَوَانُ

لَحَوْنِي عَلَى غَرَامِي وَقَالُوا الْهَوَى هَوَانُ

إِذَا مَا انْطَوَى شَبَابٌ طَوَتْ وُدَّكَ الْحِسَانُ

وَمَا ضَرَّ أَنْ يَقُولُوا صَبَا فِي الْهَوَى فُلَانُ

لَعَمْرِي وَإِنَّ عَمْرِي لَمَا لَيْسَ يُسْتَعَانُ

لَحَا اللَّهُ كُلَّ خِلٍّ لَحَا فِي هَوًى يُصَانُ

أَيَا صَادِقًا هَوَاهُ إِذَا الْمُدَّعُونَ مَانُوا

وَأَبْقَى الْأَدِيبَ فَرْدًا لِمُلْكٍ بِهِ يُزَانُ

فَلَمْ يَحْوِ مَا حَوَاهُ زَمَانٌ وَلَا مَكَانُ

فَدَيْنَاكَ مِنْ أَدِيبٍ عَلَيْهِمْ بِهِ امْتِنَانُ

وَلَمْ يَفْرِ مَا فَرَاهُ حُسَامٌ وَلَا سِنَانُ

أَسَيْفٌ بِفِيكَ يَقْضِي عَلَى الدَّهْرِ أَمْ لِسَانُ

إِذَا سَلَّ مُرْهَفَاتٍ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَيَانُ

كَذَا تُنْتَجُ الْمَعَالِي كَذَا يَسْحَرُ الْبَيَانُ

تَبَيَّنْتُ أَنَّ أَمْضَى مِنَ الصَّارِمِ اللِّسَانُ

وَفِي كُلِّ حَاجَةٍ لِي عَلَى جَاهِكَ الضَّمَانُ

فَعِشْ لِلْوَرَى مَلِيًّا فَفِي عَيْشِكَ ازْدِيَانُ

وَلَا زَالَ لِلَّيَالِي بِإِبْقَائِكَ امْتِنَانُ

الله، الله، ما شاء الله، ما شاء الله! عشر درجات؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله! عشر درجات؟ تستحقان، تستحقان! حتى لميس في أدائها لمحت في صوتها خصوصية، يبدو أننا سنصنفها مع انتصار، في ذوات الأصوات الخاصة، جميل، جميل، أداء طيب جدا! عندنا إذن لميس حصلت في المنتصف على أربع وعشرين، وستتجاوز بهذا المئة! وبيان -وإن من البيان لسحرا!- من مجموعة أخرى، لا حول ولا قوة إلا بالله! من أية مجموعة؟ في المساء أم الصباح؟

الصباح.

نعم؛ بيان خليفة، درجتها في المنتصف كذلك أربع وعشرون ونصف، ستتجاوز بهذا الشكل المئة! ما شاء الله، هذه خمس درجات، ولا بأس. طيب! نكتب مطلع هذه ومطلع هذه، لا بأس. جميل هذا الذي فعلناه، يبدو أن الواحد في هذه المحاضرة يطرب أكثر. بسم الله! ماذا يقول الحصري؟ "أَفِقْ فَالْهَوَى هَوَانُ"، لا، لا، "وَفَيْنَا لَهُمْ":

وفينا لهم وخانوا كذا الناس والزمان

أفق فالهوى هوان لعهد الصبا أوان

هل من خطأ في الإملاء؟

لا.

نشكِّل؟ نتقرب إلى الله...

بالتشكيل.

وَفَيْنَا لَهُمْ وَخَانُوا كَذَا النَّاسُ وَالزَّمَانُ

أَفِقْ فَالْهَوَى هَوَانُ لِعَهْدِ الصِّبَا أَوَانُ

طيب، أنصتوا إلى غناء هذين ،البيتين وتذكروا كلمة حازم القرطاجني، هل يستحق هذا الوزن ما وصمه به؟

وَفَيْنَا لَـ| ـهُمْ وَخَانُوا| كَذَا النَّاسُ| وَالزَّمَانُ

أَفِقْ فَالْهَـ| ـوَى هَوَانُ| لِعَهْدِ الصِّـ| ـبَا أَوَانُ

سهل، وواضح؛ لماذا قال ما قال؟ يبدو أن الذي يؤديه يؤديه خاليا من النغم على طريقتنا الغنائية، فيحس أنه تكاثرت فيه الحركات، فكاد يشبه النثر، فاستقبحه لهذا -ربما!- لكننا نوصيه أن يغنيه كما غنيناه. طيب! ننزل هذا الغناء على السبورة نفصّل بلون، ونضيف بلون، نستفيد من الألوان المختلفة، ...، "لِعَهْدِ الصِّـ"، أين نضع الخط؟ في الصّاد؟ لا، بعد الصاد، هكذا نغني، هكذا نغني ونتدلل، نطرب، هكذا في الأداء، أظن أن هذا يعالج ما كرهه حازم؛ فالمشكلة إذن عنده أنه لم يحسن الغناء، وربما لم يحسن الشعراء كذلك، أو تلَهُّوا بغيره، أو لأي سبب آخر، ...، "وَالزَّمَانُ"، هذه كيف ندندنها؟

دن ددن د.

دن ددن د!

دن ددن دن.

"وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ"!

"أَفِقْ فَالْهَـ"، طيب! وهذه "ـوَى هَوَانُ"؛ ما دندنتها؟

دن د دن د.

خطأ؛ دن ددن دن.

أو دن د دن دن.

أربع.

خامس حرف.

متى كان...

سابع حرف.

سابع حرف -نعم- فحذف الخامس قبض، وقد كدت أنا أنسى؛ لا تظنوا أنني أحفظ كل شيء، لكن اربطوا بعضها ببعض: الخبن حذف الساكن الثاني، والطي حذف الساكن الرابع، والقبض حذف الساكن الخامس، والكف حذف الساكن السابع، وهي كلها كما ترون، حذف ساكن السبب الخفيف. طيب! كل "مفاعيلن" في كل مكان "مفاعيلُ"، ماذا نسمي هذا الزحاف؟ زحافًا جرى مجرى ،العلة لأن العلة في الأصل ينبغي أن تُلتزم. ويجوز أيضا أن تجري العلة مجرى الزحاف؛ فهذا عندنا وهذا عندنا، لكن الحلال بيّن والحرام بيّن، للزحاف طبيعته، وللعلة طبيعتها، يشبه بعضهما أحيانًا بعضًا، ولكن لا يخرجه الشبه عن أن يكون شاذا عارضا، والشاذ لا يقاس عليه، والعارض لا يعتد به، طيب! قد وجّه التزام كف "مفاعيلُ"، بأنه زحاف جرى مجرى العلة، فكيف وجه تَرْبيع البيت؟ على أنه واجب الجَزْء. والجَزْء كما تعرفون حذف تفعيلة من آخر كلا شطري البيت، لأننا لو قلنا من أي مكان في البيت أحدثنا اضطرابا كبيرا، ووقعنا في خلل، وتفلتت منا البحور، فالأمور منضبطة. ليس الجزء إذن حذف أي تفعيلة، لا، بل حذف أخرى تفعيلات الشطرين، أو آخرتها، ما فرق ما بين "أخرى" و"آخرة"؟ أخطئ أحيانا، فأقول: أخرى تفعيلات الشطرين، والأخرى الغَيْر، أما الآخرة فالأخيرة! الأخرى المخالِفة؛ ما لنا بالمخالفة؟ نحن نريد التي في الآخر. ماذا فعل الخليل إذن؟ قال: بيت لامضارع مجزوء أبدا، كما قال في بيت المجتث، وكما قال في بيت الهزج، أي لم يُعثر لعربي منه على شعر مسدس، لا من الهزج، ولا من المجتث، ولا من المضارع، حتى إن بعض الناس جمع هذه البحور في كتاب وسمّاها القصار. كان ينبغي لبيت الهزج أن يكون مسدسا (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن)، فلم يستعمل إلا مربعا (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن)، وكان ينبغي لبيت المجتث أن يكون كذلك مسدسا (مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن)، فلم يستعمل إلا مربعا (مستفعلن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن)، وكذلك كان ينبغي لبيت المضارع أن يكون مسدسا (مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن)، فلم يستعمل إلا مربعا (مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن فاع لاتن)، فجمع تلك الأبحر بعض الباحثين في كتاب سماه "القصار"، يعني أنها قصيرة في نفسها منذ استعملت. وإذا سألتَني عن السبب ذكرتُ لك الطرب؛ فالشاعر حر فيما يطرب وفيما يرتاح إليه، وقد ارتاح إلى هذا! طيب! والآن لا تحتاجون كذلك إلى أن تشدوا دساتين أعوادكم، ولا إلى أن تحموا طبولكم ودفوفكم، ولا إلى أن تشربوا، ولا إلى أن تطربوا، ولا إلى أن تتعبوا أنفسكم بالعزف الجماعي - فسيتحدر وحده!- ولا إلى أن تجعلوا النغمة أكثر زرقة، وإن كان هذا أثقل قليلا من المجتث، أعترف بأن المجتث ألطف منه! لكن هل يستحق أن يحتقره حازم في "منهاج البلغاء"، ذلك الاحتقار، حتى يربأ بالعرب -أي ينزههم- عن أن يكونوا قالوا من مثل هذا! هيا، معا معا، نبدأ، وننتهي من القصيدة لنعود إلى الثانية، دعوا عنكم الأداء الثنائي الذي جلب عليكم العقاب؛ نحن هنا في عمل آخر، ها!

ها!

الله، الله! عاشوا، عاشوا! فيكم طرب، وفيكم وناسة! جميل، جميل! حتى إنكم فعلتم شيئا جديدا؛ لما كنت أقول لكم إذا سكتم لتقلبوا الصفحة: يا للعار- تجنبتم ذلك العار، ووجدت من يقلب الصفحة فورا قبل أن يصل إلى البيت! ما شاء الله! لو حضَرَنا الخليل بن أحمد، لو جالَسَنا لأعجبه هذا الذي فعلنا، ولقال: هذا هو الذي كنت أفعله في السوق! في مرة بعد أن طورنا هذا الأسلوب حضر معنا ناس ممّن درسوا علينا قبل أن نطوره، فاحمرت وجوههم طربًا لما نفعل: معقول، أمثل هذا يحدث، أمثل هذا يكون، ما شاء الله! طيب! نريد طالبا واحدا -أو طالبة- يخرِّج هذا في نفس واحد من غير خطأ، وإذا فعل أعطيته خمس درجات -من غير خطأ- لكن لو أخطأ حذفنا منه خمس درجات، أو طردناه، سُنَّةً عن أخيكم مسعود -رضي الله عنه!-: زيادة أو نقصا أو طردا! صار الناس جميعا يقولون هذا! هل تريدين يا نورة؟ أكيد؟ أكيد؟

فيها طرد؟

نعم؛ فيها كل شيء، فيها ما لاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب طالب.

القصيدتان كاملتان؟

نعم؛ كاملتان، وفي المجموعة السابقة خاف الطلاب من هذا في الحقيقة، ثم أفضى الأمر إلى هاجر، فأدت أداء لا بأس به، وإن أخطأت عدة أخطاء، لا، فلوس، هذه فلوس، خَفْ على فلوسك!

نورة، ها!

هذه القصيدة مضارعية الـ...

لحظة، لحظة! ماذا تفعلين؟ ماذا فهمتم عني؟ ستعيدين تخريجها، لا بياناتها، ما شاء الله! أهذا بخمس درجات! ولا بنصف درجة! نريد أداء كاملًا؛ أفهمتِ هذا -يا رحمة!- أفهمت هذا في الأول؟ فهمت هذا المقصود؟ متأكدة؟ طيب! أما نورة ففهمت إضافة العبارات: هذان القصيدتان بمنزلة قصيدة واحدة كذا كذا، مسكينة! طيب، رحمة، توكلنا على الله، يا رب، بسم الله، ها!

نعم! ما هذا، ما هذه التقطُّعات، ما هذه الفواصل من غير داع، أعيدي! سؤال قبل أن تمضي في عملك -وأنا محترف طبعا-: هل وضعتِ خطوط التقطيع على أبيات القصيدة قبل أن تخرجيها؟

نعم.

أحسنتِ -ههه!- أعيدي البيت ها؟ أعيدي، وانتبهي؛ في هذه حذف وطرد، انتبهي، وأعيدي!

أعيدي!

أحسنت!

أعيدي!

لا، أعيدي، انتبهي!

ها!

عندك مشكلة مكررة؛ تسقطين ضربة، لم تُخطِئي في التقطيع، لكنك أخطأت في العزف، دائما تُسقطين ضربة، كأنك حذفت الفاء في عزف "فَدَيْنَاكَ"، وبدأت بـ"ديناك"، تكرر هذا!

والدرجات!

أكملي!

والله!

ها!

ها!

ها!

ها!

ها!

ها!

بارك الله فيك! مستوى رحمة أحسن مما حصلت عليه في المنتصف؛ لهذا كنت حريصا على تطوير الوضع، تستحق، إن شاء الله! رحمة عبدالله، خمس درجات، بارك الله فيك! طيب -يا جماعة!- ما قافية البيت الأول؟

ـمانُ.

"ـمانُ"، ماشاء الله! "ـمانُ"، متأكد؟ على أي أساس؟ أنني قدمت لك آخر ساكنين مع ما بينهما ومع المتحرك الذي قبلهما، من غير أن أزيد ولا أنقص. هذا الساكن الأول الألف، وهذا الساكن الثاني الواو غير المكتوبة، وبينهما النون المضمومة، وقبلهما الميم المفتوحة، فالقوافي إذن: ـمانُ، ـوانُ، ـلانُ، نستطيع أن نطمئن إلى هذا الإيقاع، فسيمنع عنا هذا الردف المفاجآت، ها!

ـصان، ـزان، ـنان...

نانوتكنولوجي!

ـسَانُ، ـيان، ـمان، وان، ـسان، ـعَانُ، مَانُوا، ـكَانُ، ـنَانُ، ـيانُ، ـسانُ، يانُ، ـنانُ.

كأنكم محرجون -ههه!- من ترديد هذه الأصوات: ـنان، ـيان، ـسَانُ...؛ فهي أشبه بكلمات ملاعبة الأطفال وتدليلهم، ها! عندنا شيء آخر سنفعله حين نأتي إلى القوافي، سنقول: ما مقدارها من الكلمات الأخيرة؟ فتقولون: هي كلمة، أو أقل، أو أكثر- وما أثر هذا في الشعر؟ ما أثره؟ إذا ما القافية طابقت الكلمة ظهرت أكثر، أي إذا كانت القافية بكلمة تميزت جدا، لأن للكلمة كيانًا، فيكون معنى هذا أن الشاعر يزيد من ظهور قافيته بأدائها بكلمة مستقلة لها كيان مستقل، هذا يزيد القافية قوة، أما إذا كانت بعض كلمة فستقل فرادتها! يا سلام، كلام جميل جدا! طيب، من يقدم لنا عبارة البيانات؟ نورة، قدمي هذا الذي أردته، مجانا هذه المرة مجانا!

هذه القصيدة مضارعية الأبيات نونية القافية...

خطأ!

صحيحة...

ما شاء الله! اختصرَت الدنيا كلها، بدأَت بعبارة من الأول، ثم ثَنَّت بعبارة من الآخر، والحشو ساقط! هذه القصيدة، أو قولي: هاتان القصيدتان -فهما بمنزلة القصيدة الواحدة- مضارعية الأبيات...

صحيحة...

خطأ! بقي شيء، المجزوءة، في الاختبار واحد من عشرين هاتان القصيدتان بمنزلة القصيدة الواحدة مضارعية الأبيات، المجزوءة...

الصحيحة...

أحسنت! الصحيحة العروض والضرب، انتقلي!

نونية القوافي المردوفة...

المَرْدُوفة!

المُرْدَفة...

قبل هذا، أهم من هذا، النون هذه مفتوحة، مكسورة، مضمومة؟ هذا خطير جدا في القافية! أتدرين أنك إذا جمعت الضمة إلى الكسرة وقعتِ من عيوب القافية البشعة في عيب الإقواء أو جمعت أيا منهما إلى الفتحة وقعت في عيب الإصراف، كما سيأتي في حينه! ماذا نقول إذنن؟ نونية القوافي...

المضمومة...

المضمومة، ثم نلتفت إلى ما بعدها: المردفة -ومردوفة كذلك كلمة صحيحة لكنني لا استعملها، قليلة يستعملونها من باب أن في العربية رَدِفَه وأَرْدَفَه، أنا أقول أردفها، جعل لها ردفا؛ فأنا أحس أن "أَفْعَلَ" هو الذي يساعدني على التعبير- هذه القصيدة نونية القوافي المضمومة المردفة بالألف -وإذا أُرْدِفت بالألف لم يشاركها شيء، لكن إذا أردفت بالواو جاز أن تشاركها الياء، طيب، وإذا أردفت بالياء جاز أن تشاركها الواو، أما الألف فلا؛ لماذا يا أستاذ؟ لأن مقدار الذبدبات التي في الألف أكثر مما في الواو والياء معا، بقياس الأصوات، بقياس الذبدبات؛ فكيف يحدث هذا الخلل هذا النشاز، ها!- نونية القوافي المضمومة المردفة بالألف...

الموصولة بالواو...

الموصولة بالواو فقط. ماذا بقي؟ تقول الموصولة بالواو، وتريد أن تكمل! لا، أكملي بنغمة هادئة هابطة، الموصولة بالواو. يا جماعة، على موقعي هذه الأشياء، هذه صور التمرينات التي في كتاب "العروض المغنى"، كلها، انظروا إليها في الفلاشة، هذه كلها؛ فليذهب من شاء أن يتدرب أكثر، يستطيع أن يذهب إلى الموقع، ويبحث باسم أسئلة "العروض المغنى"، لتخرج له. يستطيع أن ينزّلها ويستفيد منها؛ فقد تعب فيها كثيرا هلال الحجري. أسئلة مهمة، ومنها سؤال يذهب فيه إلى بيت من البحر، فيغير ترتيبه، ليقول لك: رتب هذا البيت من الطويل، رتب! فتستمتع بالتفكير في المعنى: ما المعنى؟ كيف أغني؟ تقدم، وتؤخر حتى تصل، سعيدا جدا إذا وصلت إلى البيت. عنده مثلا أسئلة يحذف لك فيها من البيت حرفا، ليقول لك: ما الحرف الناقص، أو كذا، أو في هذا البيت أو في أي هذه الأبيات خلل... عنده إبداعات أسئلة لا يصوغها إلا فنان. نعم؟

أو يغير العبارة، ويخيّرنا، ويسأل: بأي ذلك يستقيم الوزن!

أحسنت! تنوعات باهرة جدًّا، إضافة إلى قطعة يقول لك: قطعها! قطعة كاملة، لكن عنده قبل هذه على كل بحر ستة أسئلة أو ثمانية، يُحاسِن بعضُها بعضًا، وأصعبها على الإطلاق سؤال الترتيب (رتب هذا البيت)، منتهى التحدي! بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، والسلام عليكم!

وسوم: العدد 1102