نديم العروضيين المجلس التاسع عشر
سلامٌ عليكم، طبتم مساءً -يا أبنائي!- وطاب مسعاكم الينا!
بسم الله -سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاة على رسوله وسلاما، ورضوانا على صحابته وتابعيهم حتي نلقاهم!
كيف حالكم، كيف أمسيتم؟
الحمد لله!
لله الحمد والشكر، بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن اليكم، ويسر لنا ولكم كل عسير، وسهل كل صعب! اليوم نستمتع بقصيدة الدكتور عبداللطيف عبدالحليم أبي همام تلميذ العقاد، الأستاذ السابق بهذا القسم من هذه الكلية، جاء الى هذه الجامعة سنة سبع وثمانين، أي في أوائلها تقريبا، متى بدأ العمل بالجامعة؟
سنة ست وثمانين.
نعم؟
سنة ست وثمانين.
سنة ست بدأ العمل فيها، لكن الإنشاءات بدأت سنة ثلاث وثمانين بعد خطاب صاحب الجلالة - حفظه الله!- والطريف أنّ هذا الخطاب كان في عام الشباب!
الشبيبة.
الشبيبة -سبحان الله!- في عام الشباب أمر بإنشاء جامعة الشباب، تلاقت المناسبتان، فجاء هذا الرجل (أبو همام)، ليعمل هنا -كأنه كان من الرواد- وقد درستُ عليه أنا أصلا في جامعة القاهرة قبل أن يأتي إليكم، ولكن بعد أن عاد بالدكتوراة من إسبانية. هو أصلا من طلاب الأزهر، حصل على الثانوية الأزهرية، فالتحق بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة، وكان قبلئذ قد ارتاد مجلس العقاد، وقد نصحه بدخول دار العلوم، فدخلها، وعاش طوال حياته بها معيشة الشعراء، لا يعبأ بأوليّة ولا تقدير، حتى كانت السنة الرابعة النهائية. وآنئذ كان التقدير العام بحسب تقدير هذه السنة الأخيرة فقط؛ فإذا حصلت على ممتاز فممتاز فممتاز فمقبول، فهو مقبول- وإذا حصلت على مقبول فمقبول فمقبول فممتاز، فهو ممتاز! مصيبة هذه -ها!- هكذا كانت الحال، كان عندنا شاب حَوَّلَ من الطب إلى الكلية، وتعثر في السنة الرابعة، فضاعت منه الفرصة! أما أستاذنا هذا الدكتور عبداللطيف عبدالحليم فقد عاش حياته في الكلية كيفما اتفق طوال الأعوام الثلاثة الأول والثاني والثالث، ثم انقطع للدراسة في العام الرابع، وكان ذكيا جدا، كان خطيرا، كان يذهب إلى مسجد قريته أو مدينته -هو ريفي من القرى- يذهب إلى الجدار -ها!- يركز، لا يتلفت، بل يظل يدرس -هكذا حدثني عن نفسه- وكان واسع الحفظ، يحفظ كل شيء، يحفظ شعر الديوانيّين جميعا، وغيره من الشعر من قديم إلى حديث -ما شاء الله!- فتفوق، وعين معيدا بقسم الدراسات الأدبية! هذا الذي بقي طوال حياته الجامعية شاردا في الشوارع، عُيِّنَ معيدا بقسم الأدب، فحاول أن يدرس الدراسات التمهيدية، وأن يحصل على الماجستير، وكان يسخر من زملائه ويضحك عليهم ويراهم يتعبون أنفسهم في المذاكرة وفي التحضيرات، يقول لهم: أنا استطيع أن أكتب رسالتي في وقت قصير، لا أحتاج إلى وقت! وصدق؛ فقد استطاع في أشهر أن يفرغ من الماجستير التي يفرغون منها في سنوات، لأنه كان يحفظ كل شيء، فاعتمد على ذاكرته، ووضع رسالة في المازني شاعرا -تعرفون إبراهيم عبدالقادر المازني، صديق العقاد، قدما كتاب الديوان معًا، الديوان للعقاد والمازني- وحصل على الماجستير في المازني شاعرا، ثم فاز ببعثة إلى إسبانية، وسافر إلى هناك، فلما ذهب اصطدم بالمطالب والتكاليف الشديدة التي اضطرته هو وزملاءه أن يعودوا الى مستوى الثانوية بعد أن حصلوا على الماجستير، يقول: فرجع الناس، أما أنا فبقيت! ودرس من الصفر حتى وصل، وصار أستاذا، وعرف الناس، وعمل مترجما بالإذاعة، ونجح في النهاية! في تلك الأثناء زارهم في إسبانية محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا -رحمه الله، وطيب ثراه!- الذي درسنا له قصيدة "اعصفي يا رياح" -يبدو أنه كان مريضا، أصاب عينه مرض، فذهب للعلاج- فصحبه عبد اللطيف عبدالحليم طوال إقامته -وعندكم على الإنترنت صورهما هناك في قصر الحمراء، أو على أسواره، عندكم صور هذا ها!- واقترب منه في هذه المدة، ثم لما رجع من هناك أستاذًا، كان يحضر مجلسه كل أسبوع -ومجلسه كل جمعة من العصر، وربما أدركنا معه الغداء، ثم أكملنا إلى آخر الوقت!- وله في بلوغه الثمانين قصيدة جرى فيها مجرى قول عَوْف بن مُحَلِّم الشيباني في عبد الله بن طاهر:
"يَا ابْنَ الَّذِي دَانَ لَهُ الْمَشْرِقَانْ طٌرًّا وَقَدْ دَانَ لَهُ الْمَغْرِبَانْ
إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تَرْجُمَانْ
وَبَدَّلَتْنِي بِالشَّطَاطِ انْحِنًا وَكُنْتُ كَالصَّعْدَةِ تَحْتَ السِّنَانْ
وَقَارَبَتْ مِنِّي خُطَا لَمْ تَكُنْ مُقَارَبَاتٍ وَثَنَتْ مِنْ عِنَانْ
وَبَدَّلَتْنِي مِنْ زَمَاعِ الْفَتَى وَهَمِّهِ هَمَّ الْجَبَانِ الْهِدَانْ
وَلَمْ تَدَعْ فِيَّ لِمُسْتَمْتِعٍ إِلَّا لِسَانِي وَبِحَسْبِي لِسَانْ
أَدْعُو بِهِ اللهَ وأُثْنِي بِهِ عَلَى الْأَمِيرِ الْمُصْعَبِيِّ الْهِجَانْ
فَقَرِّبَانِي بِأَبِي أَنْتُمَا مِنْ وَطَنِي قَبْلَ اصْفِرَارِ الْبَنَانْ
وَقَبْلَ مَنْعَايَ إِلَى نِسْوَةٍ أَوْطَانُهَا حَرَّانُ وَالرَّقَّتَانْ"!
"وَلَمْ تَدَعْ فِيَّ لِمُسْتَمْتِعٍ إِلَّا لِسَانِي وَبِحَسْبِي لِسَانْ"!
فقال:
"إِنَّ الثَّمَانِينَ وَضُوعِفْتَهَا لَمْ تُحْوِجِ السَّمْعَ إِلَى تَرْجُمَانْ
وَلَمْ تُبَدِّلْ بِالشَّطَاطِ انْحِنًا وَلَمْ تُذَلِّلْ مِنْكَ صَعْبَ الْبَيَانْ
بَلْ ظَلْتَ كَالْفِتْيَانِ مُسْتَوْفِزًا كَالرِّيحِ لَا يُغْرِيكَ طَعْمُ الْأَمَانْ
حَسْبُكَ أَنْ أَرْضَيْتَ فِيهَا الَّذِي مَلَّأَهَا بِالْعَزْمِ وَالْعُنْفُوَانْ
حَسْبُكَ أَنْ أَرْضَيْتَ شَوْقَ النُّهَى لِعَالَمٍ عَزَّ بِهِ الْأَصْغَرَانْ
حَسْبُكَ أَنْ أَسْخَطْتَ فِيهَا الْأُلَى رَامُوا هَوَانًا لِفَتًى لَا يُهَانْ
إِذَا عَلَتْ فِي النَّاسِ أَقْدَارُهُمْ فَكَمْ عَلَا فِي غَيْرِ شَيْءٍ دُخَانْ
هَالَهُمُ أَنَّكَ فِي عُزْلَةٍ حَجَّ إِلَيْهَا كُلُّ قَاصٍ وَدَانْ
فَلَمْ يَزَلْ حَشْدُهُمُ صَاخِبًا يَرُومُ أَنْ يُوهِنَ مِنْكَ الْجَنَانْ
فَعُذْتَ بِالْبَأْسِ وَجَرَّدتَّهُ وَقُلْتَ كَانَ الْحَقُّ هَذَا فَكَانْ
مِقْوَلُكَ الْعَضْبُ أَنِيسٌ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبُكَ يَوْمَ الطِّعَانْ
سَجَنْتَ سَجَّانِيكَ فِي هُوَّةٍ اَلذُّلُّ فِيهَا وَالسُّطَا تَوْأَمَانْ
سَلِمْتَ يَا مَحْمُودُ مِنْ كَيْدِهِمْ فَاغْفِرْ لَهُمْ مَا كُلُّ جَانٍ بِجَانْ"!
في بلوغه الثمانين قالها، ومهما عاش فسيموت، فمات! من مضرب المثل في العمر الطويل؟ من؟ من الذي أُعطِيَ عُمرَ سبعة أنسر، من هذا؟ من الذي خُيِّر فاختار أن يعيش مقدار عمر سبعة أنسر، كلما مات نَسْر وُلد نسر -والنسر أصلا مُعَّمَر- فعاش طويلا، حتى جاء النسر السابع -واسمه لُبَد- وفيه المثل "أتى أبد على لبد""، أي مهما عُمِّرت فستموت، فمات أستاذنا أستاذ الدنيا -رحمه الله، وطيب ثراه!- وكان مباركا في عمره، لأنه كان واصل الرحم؛ فأنا أوصيكم: من أراد منكم أن يعيش طويلا فليصل رحمه -هذه معادلة مضمونة- من أراد منكم أن يعيش طويلا فليصل رحمه، دقائق تزور فيها الأهل تعيش بها سنوات طويلة، ما أربحها من صفقة! تزور الأهل دقائق يمتد بها عمرك سنوات، هذا معروف. وكان أستاذنا بارًّا بأهله وأصدقائه، فلما مات قال فيه أبو همام قصيدة اليوم، فاسمعوا ماذا يقول الشاعر في الشاعر، العالم في العالم، وكان عبداللطيف عبدالحليم أستاذاً جامعيا، أتدرون حينما جاء إلى هنا لمَنْ دَرَّس؟ درس للرواد الأوائل من تلامذته: محمد المعشني، وهلال الحجري، ومحمد المحروقي، وشريفة الإحيائية الوزيرة، كل هؤلاء من تلامذته! فلما مات سنة أربع عشرة وألفين، بادر عميد الكلية الدكتور عبد الله الكندي -وهو من قسم الإعلام، نعم؛ ولكنه كان يحضر له مع الحاضرين، وكان إذا لقيه في الطريق قال له: تعال يا عبد الله تعال عندي محاضرة، فيأخذه ويحضر معه، وهو في قسم الإعلام، فكان الدكتور عبد الله يذهب سعيدا- بادر قبل جامعة القاهرة نفسها، فأقام له هنا حفل تأبين إكراما لهذا الرجل الذي رعاه وحنى عليه وعلى زملائه، وغيَّر لهم حياتهم حقا! اسمعوا رثاءه لمحمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا:
مَرْثِيَّةٌ إِلَى أَبِي فِهْرٍ
"صَوَّحَ نَادِيهِ وَانْطَوَتْ كُتُبُهْ يَا رَاحِلًا لَيْتَ صِدْقَهُ كَذِبُهْ
قَدْ أَعْنَقَتْ لِلْمَنُونِ رِحْلَتُهُ وَأَوْغَلَتْ فِي يَقِينِهِ رِيَبُهْ
وَاشْتَعَلَ الْحُزْنُ فِي الْعُرُوقِ فَمَا يُعْرَفُ إِلَّا بِدَفْقِهَا لَهَبُهْ
وَطَفِئَ الدَّمْعُ فِي الْعُيُونِ وَقَدْ كَانَ سُلُوًّا أَنْ يَنْهَمِي صَبَبُهْ
انْتَهِبِى يَا شُجُونُ أَفْئِدَةً كَانَ مُنَاهَا الْفِدَاءُ تَنْتَهِبُهْ
يَحْصُدُنَا الْمَوْتُ كَيْفَ لَا كَيْفَ وَالْمَوْتُ وَشِيكٌ حَيَاتُنَا سَبَبُهْ
نَقْتَاتُ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَقْتَاتُنَا الْمَوْتُ وَمَا غَالَ طَاعِمًا سَغَبُهْ
إِخَالُنَا لِلْفَنَاءِ يَخْلُقُنَا اللهُ وَمَا يَنْقَضِي بِنَا عَجَبُهْ
أَوْ أَنَّنَا وَاهِمُونَ لَا نَعْرِفُ الْعَيْشَ وَلَا الْمَوْتُ تَخْتَفِي حُجُبُهْ
يَغْلِبُنِي الْوَهْمُ كَيْفَ يَرْحَلُ مَحْمُودٌ وَكَيْفَ الْمَنُونُ تَغْتَصِبُهْ
أَذَلِكَ الْوَجْهُ غَالَهُ رِيَبٌ أَذَلِكَ الْعَقْلُ تَنْطَفِي شُهُبُهْ
لِلتُّرْبِ يَا لَلْخِذْلَانِ يُخْلَقُ هَذَا الْخَلْقُ مَا جِدُّهُ وَمَا لَعِبُهْ
لِلتُّرْبِ يَا لَلْهَوَانِ يُخْلَقُ هَذَا الْخَلْقُ مَا حَظُّهُ وَمَا أَرَبُهْ
مَحْمُودُ ضَلَّ السُّؤَالُ وَانْشَعَبَ الْفِكْرُ وَقَدْ زَادَ حَيْرَةً شُعَبُهْ
فَهَلْ تَرُدُّ السُّؤَالَ أَحْسَبُهُ الْآنَ يَسِيرًا مَجْلُوَّةً سُحُبُهْ
أَمْ إِنَّنَا وَاهِمُونَ لَا يَكْشِفُ الْمَوْتُ سُؤَالًا يَؤُودُنَا وَصَبُهْ
مَحْمُودُ أَنْتَ السُّؤَالُ تَعْرِفُهُ مَحْمُودُ أَنْتَ الْجَوَابُ تَحْتَجِبُهْ
أَيْنَ يَرَاعٌ كَالْبَرْقِ يَسْتَرِقُ الْغَيْبَ عَصِيًّا فَيَنْجَلِي غَيَبُهْ
يُشْعِلُ فِينَا الرِّيَاحَ عَاصِفَةً وَقَدْ تَهَاوَتْ بِحَائِرٍ طُنُبُهْ
أَيْنَ لِحَاظُ الْعُقَابِ لِلْأَبَدِ السَّاكِنِ لَا تَتَّقِيهِ تَجْتَذِبُهْ
يَهْرُبُ مِنْهَا الْبُغَاثُ يَخْتَانُهَا الرِّيشُ مَهِينًا يَصُونُهُ هَرَبُهْ
وَأَنْتَ بَيْنَ الزِّحَامِ لَا لَقَبٌ يَحْمِيكَ إِنْ حَاطَ هَيِّنًا لَقَبُهْ
مُؤْتَنِسًا أَنْتَ بِالتَّوَحُّدِ بِالْفَنِّ رَفِيعًا بِالْوُدِّ تَحْتَقِبُهْ"!
"صَوَّحَ نَادِيهِ وَانْطَوَتْ كُتُبُهْ يَا رَاحِلًا لَيْتَ صِدْقَهُ كَذِبُهْ"، ما "صَوَّحَ"؟ خلا وجف. وما النادي؟ مجتمع الناس -"فَلْيَدْعُ نَادِيَهْ"؛ صدق الله العظيم!- صوح ناديه، لأنه كان له مجلس كل جمعة، فصوح، كان يجلس في القلب هكذا كما رأيتموه في الفِلم، وجميعنا حوله. فـ "صَوَّحَ نَادِيهِ وَانْطَوَتْ كُتُبُهْ"، الهاء ساكنة إذا حركتموها كسرتم الوزن، "كُتُبُهْ"، "يَا رَاحِلًا لَيْتَ صِدْقَهُ كَذِبُهْ"، ليت الخبر كاذب، لكن كيف؟ هذا كأنه أخذه من المتنبي:
"طَوَى الْجَزِيرَةَ حَتَّى جَاءَنِي خَبَرٌ فَزِعْتُ فِيهِ بِآمَالِي إِلَى الْكَذِبِ"!
لكنه كان صادقا، معقول! وهذا يموت، معقول، محمود شاكر ممن يموتون، "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ"، يا أخي! حتى الذي قال: "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى"، مات، ونجاه ربنا من أن يغرق في المياه ببدنه حتى يرى الناس كيف يموت هؤلاء المتكبرون؟ وما زال إلى الآَن جثمان رمسيس هذا -رمسيس فرعون موسى، ها!- ما زال يراه الناس، وينظر هذا: أهذا الذي كان يقول: "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى"، قد صار الأسفل! "قَدْ أَعْنَقَتْ لِلْمَنُونِ رِحْلَتُهُ"، ما "أَعْنَقَتْ"؟ أسرعت، والعَنَقُ سير سريع:
"يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا
إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا"!
وهذا رجز قديم! "قد أعنقت"، أي سارت العنق السير السريع. "لِلْمَنُونِ"، ما "الْمَنُون"؟ الموت، "رِحْلَتُهُ"، أي سارت إلى الموت سريعا، على رغم أنه بقي طويلا، لكنه وقد كانت في حياته بركة عامة، مَرجوّ لخير كثير. "وَأَوْغَلَتْ فِي يَقِينِهِ رِيَبُهْ"، واليقين الموت –"حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ"؛ صدق الله العظيم! أي الموت- أي صارت كلُّ رِيبةٍ يقينًا، "كَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ"؛ صدق الله العظيم! "وَاشْتَعَلَ الْحُزْنُ فِي الْعُرُوقِ فَمَا يُعْرَفُ إِلَّا بِدَفْقِهَا لَهَبُهْ"، ما يُعرف لهب الحزن بعد ما اشتعل إلا بالتدفق، تدفق الدماء في العروق تدفقا غريبا؛ ما الحكاية؟ الحزن قد أَلَمَّ به، "وَطَفِئَ الدَّمْعُ..."، تأملوا كيف قال: "وَطَفِئَ"، لم يقل: "وَانْطَفَأَ"، من منكم يقول: طَفِئَ؟ لا أحد، من منكم يقول: طفئت الشعلة، من؟ تقولون: انطفأت، أما صاحبنا هذا فيدقق جدا. وعلى ذكر التدقيق أذكر أن له صاحبًا -هو حساني حسن عبدالله- صعيديًّا، حصل مرة بأحد كتبه الشعرية على جائزة الدولة، يقول في بيت من شعره:
"إِذَا قَالُوا حِبَالٌ جَمْعَ حَبْلٍ أَقُولُ وَلَا أُبَالِيهِمْ حُبُولُ"!
أسمعتم! لا، لا نرضى أن نستعمل الكلام المبتذل! ثم "طفئ" غير "انطفأ"؛ في "انطفأ"؟
مطاوعة.
مطاوعة، أحسنتِ! أما "طفئ" فلا مطاوعة فيه؛ فكأنه يقول: طفئ الدمع من نفسه، لا من إطفاء غيره له، "وَقَدْ كَانَ سُلُوًّا أَنْ يَنْهَمِي صَبَبُهْ"، لكنه طفئ، ولم تعد لدينا مادة من الدمع نستعملها في التسلي. وعندنا في "ينهمي" ملحوظة، ما هي؟ "ينهمي" فعل مضارع منصوب بأن؛ فأين النصب؟ أين "أَنْ يَنْهَمِيَ"؟ لم ينصب بأن، أهملها، وهذا من لغة الشعر معروف. سيقول بعض المتمسكين منكم باللغة في الاختبار: "أَنْ يَنْهَمِيَ"، حتى إذا ذهب يُقَطِّعُها لم تتقطع، يتقطع هو ولا تتقطع، فما الحل؟ أن يتذكر دائما هذا الاحتمال الوارد، أن يتذكر أن الشاعر يمكنه أن يهمل الأدوات. "انْتَهِبِى يَا شُجُونُ أَفْئِدَةً كَانَ مُنَاهَا الْفِدَاءُ تَنْتَهِبُهْ"، انتهبي -يا أحزان!- أفئدة كانت تتمنى أن تفديه بأنفسها: فداك فؤادي، اجعل فؤادي مكان فؤاده! "الفداء" اسم كان، و"منى" خبر كان -معي، يا منى!- و"تنتهبه" حال من الفداء، وربما قال بعضكم شيئا آخر، لكن هذا أحسن. "يَحْصُدُنَا"، سيتفلسف الآَن -ها!- وأكثر الشعراء يتفلسفون في حضرة الموت: ما الموت؟ ما الحكاية؟ من أين؟ وإلى أين؟ من أين الطريق؟ إلى أين الطريق؟ أين المفر؟ -ها!- دائما يتفلسفون في حضرة الموت! والدنيا الآن في هذه المشكلة: هل هناك بعث؟ ما حكاية الموت؟ "يَحْصُدُنَا الْمَوْتُ كَيْفَ لَا كَيْفَ"، أرأيتم هذا الأسلوب؟ -ها!- تقول له كيف؟ فيقول لك: لا كيف؟ أو تقول له: أين؟ فيقول لك: لا أين؟ أو متى؟ فيقول لك: لا متى؛ ما معنى هذا؟ لا وجه للسؤال! "وَالْمَوْتُ وَشِيكٌ حَيَاتُنَا سَبَبُهْ"، كيف تموت؟ إذا حييت! وهل تموت من غير أن تحيا؟ فالحياة نفسها إذن سبب الموت. ما "وَشِيك"؟ سريع. تريد أن تموت سريعا؟ عندي وصفة: احيَ سَريعًا! وكيف أحيا سريعا؟ اقلب الدنيا رأسا لعقب، حقق أحلامك سريعا، هذا معروف، هذه وصفة مجربة، كالشمعة إذا احترقت سريعا انتهت، لكن إذا أشعلتها وتركتها، وأشعلتها وتركتها- جلست سنين طويلة؛ أليس كذلك؟ اللهم، بلى! ولتتأملوا حياة العباقرة، من اشتعل منهم سريعا مات سريعا -ها!- حتى إن بعضهم قال في بعض: هذا لا يعيش طويلا، فمات! حينما حضر أبو تمام الخليفةَ، وأنشده، وحضرت بديهته، ورد على الناس في المجلس ردودًا فذة، ثم خرج، قال فيه الخليفة: هذا لا يعيش طويلا، فمات في الثلاثين، هذا الإمام الكبير مات في الثلاثين، ومن العباقرة من مات في العشرين، ومنهم من مات في كذا أو كذا، وبقينا نحن مع الأسف، مات العباقرة، وبقي أمثالنا! "وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ"، كما قال لبيد -ها!- "يَحْصُدُنَا الْمَوْتُ كَيْفَ لَا كَيْفَ وَالْمَوْتُ وَشِيكٌ حَيَاتُنَا سَبَبُهْ"، نقتات بالموت، نأكله كل يوم، نأكل الموت، نعيش على الموت، "نَقْتَاتُ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَقْتَاتُنَا الْمَوْتُ وَمَا غَالَ طَاعِمًا سَغَبُهْ"، الطاعم الشبعان، كيف يقتل الشبعان جوعه، وهو شبعان أصلا! نحن أصلا طعامنا الموت، فكيف يقتلنا الموت؟ فالطعام إذن مسمّم -ها!- "إِخَالُنَا لِلْفَنَاءِ يَخْلُقُنَا اللهُ وَمَا يَنْقَضِي بِنَا عَجَبُهْ"، ما حكاية "إِخالنا" هذه؟ هذه تَلْتَلَة بَهْرَاءَ، أثارة فريدة باقية من تلتلة بهراء، ما "تَلْتَلَةُ بَهْرَاءَ"؟ طريقة لهجية قديمة، تكسر فيها قبيلة بَهراء حرف المضارعة، يقولون: تِعرف، تِفهم، تِقرأ! والطريف أنها الآن المسيطرة على اللهجات العربية؛ في العمانية تقولون: ما يِدري -ها!- ما يِريد، ما يِشوف، ما يِفهم...، وهكذا عندنا: بتِعرف، تِعرف، تِفهم! هذه "تلتلة بهراء"، لكن لم يعد لها في الفصحى أثر، إلا في هذا الفعل فقط، ما أعجب هذا! عندك: "خال، يخال، أخال"؛ فما حكاية "إخال" هذه؟ يبدو أنّ ثَمَّ ظروفًا مكنت لنطق هذا الفعل من أن يسيطر حتى يكون وحده في اللغة المشتركة، سبحان الله! حظوظ، هذه حظوظ، أرزاق تُرْزَقُها الكلمات كما يُرْزَقُها البشر. "إِخَالُنا"، أي أظننا، أي أخالنا، لكن اللغة العالية المشتركة "إخال"، كيف -يا أستاذ!- وهي لهجة؟ ظروف، حظها أحسن من "أخال"، على غير العادة، "إِخَالُنَا لِلْفَنَاءِ يَخْلُقُنَا اللهُ وَمَا يَنْقَضِي بِنَا عَجَبُهْ"، وما ينقضي بنا عجب خلقه، أو كلها من فلسفة الموت، "أَوْ أَنَّنَا وَاهِمُونَ لَا نَعْرِفُ الْعَيْشَ وَلَا الْمَوْتُ تَخْتَفِي حُجُبُهْ"، لا نحن نعرف ولا الموت يعرفنا؛ فنحن إذن في وهم، هذا كلام تسمعه هذه الأيام كثيرا، حتى إن عندنا فلمًا مصريا مُنِعَ من السينما، كان البطل فيه يقول للبطلة: مصيبة لما يكونش فيه حساب، بنكون خدنا مقلب"، أي انخدعنا! هذا الكلام كُفريّة من الكُفريّات المنتشرة هذه الأيام -ما شاء الله!- التي صرنا نجدها على الفضائيات وعلى اليوتيوب، مُمكنّة -ها!- وعندكم في عمان اعتقالات بمثل هذه العبارات في الأيام الأخيرة! لماذا، يا أخي؟ قل ما تشاء، ودع عنك مثل هذه العبارات! لا، يريد أن يقلب الدنيا، أن يفجر ألغاما؛ لعله ينبه الناس! طريقة، أسلوب، ولعله مستقِر الإيمان، بل ربما كان أرسخ منا إيمانًا، لكنه يريد أن يقلب الدنيا، والكلام العادي لا يؤثر، فلْيفجر الناس إذن تفجيرا، يقول كذا كذا، ويسخر منا ببعض الطرق، ونعم؛ تنقلب الدنيا رأسا لعقب حقًّا، ويحدث ما يريد، وهو إنما قال هذا لهذا أصلا؛ فصاحبنا هنا يتماجن قليلا أو يتزندق، ولسان حاله: قليل من التماجن أو التزندق لا يضر!- "أَوْ أَنَّنَا وَاهِمُونَ"، كل هذا خداع -ها!- سنموت من غير بعث، مَقْلَب هذا، "انْضَحَك علينا"، كما نقول في اللهجة! "أَوْ أَنَّنَا وَاهِمُونَ"، مرة قيل لفرنسي من كبار الملحدين المعاصرين -قرأت هذا في كتاب له أخيرا، منذ سنتين أو نحوهما-: ماذا ستفعل اذا كان البعث حقيقة؟ إذا لقيت في آخر الطريق فلانا -شخصا موعودا في النصرانية الكاثوليكية- فماذا ستقول؟ قال: سأقول له لم تدلنا عليك بما يكفي!
ههه!
لم تدلنا عليك بما يكفي ، يا سلام! هذا عندهم -ها!- والكتاب موجود! بمناسبة الإيمان بالبعث وغيره، عندنا حوارات قوية جدا -فراجعوها!- جميلة جدا، جميلة جدا في هذا السياق، بمنتهى القوة، أثرت في حياة بعض الناس، غيرتهم من الإلحاد إلى الإيمان، حوارات رزينة هادئة قوية موجودة. "يَغْلِبُنِي الْوَهْمُ كَيْفَ يَرْحَلُ مَحْمُودٌ وَكَيْفَ الْمَنُونُ تَغْتَصِبُهْ"، أمثل هذا يقدر عليه الموت؟ ها! وكان أستاذنا هذا جبارًا من الجبابرة، قويًّا جدًّا، حتى بنيان جسمه قوي، يبدو أنها صادقة حكمة "العقل السليم في الجسم السليم"! كان العقاد طويلا، قوي البنية، وكان سيدنا عمر طويلا يجر رجله على الأرض إذا ركب الفرس، وكذلك سيدنا خالد. يبدو أن القوة البدنية معتبرة هنا؛ فاحرصوا علي تقوية أجسامكم، لأن فيها تقوية عقولكم أيضا! "أذَلِكَ الْوَجْهُ غَالَهُ رِيَبٌ أَذَلِكَ الْعَقْلُ تَنْطَفِي شُهُبُهْ"، و"تنطفي" فيه ملحوظة كذلك، أصله "تنطفئ"، خففت همزته، وهو من ألطف ما يفعله الشعراء، يقال: تبتدي، وأصله تبتدئ -ها!- وهكذا، هذه معروفة سهلة لطيفة جدا. "أذَلِكَ الْوَجْهُ غَالَهُ"، ما "غاله"؟ اغتاله، أخذه علي غفلة، "غَالَهُ رِيَبٌ"، أي غالَتْه ريب، والريب جمع يُؤنَّث، ولكن يجوز أن يُذكَّر له فعلُه، يذكره له من يستثقله، ويؤنثه من يستخفّه! "أَذَلِكَ الْعَقْلُ تَنْطَفِي شُهُبُهْ"، معقول! يختفي من الوجود! كان المازني في بعض ما كتب يقول: كيف يمكن أن أكون أنا تحت الأرض والناس من فوقها يذهبون ويجيئون! "لِلتُّرْبِ يَا لَلْخِذْلَانِ يُخْلَقُ هَذَا الْخَلْقُ مَا جِدُّهُ وَمَا لَعِبُهْ"، "لِلتُّرْبِ يَا لَلْخِذْلَانِ يُخْلَقُ هَذَا الْخَلْقُ مَا جِدُّهُ وَمَا لَعِبُهْ"، ها! قليل من التماجن والتزندق! سنؤول جميعا إلى التراب، كما سبق في قصيدة الشريف الرضي:
"يَا أَرْضُ نَاشَدتُّكِ أَنْ تَحْفَظِي تِلْكَ الْوُجُوهَ الْغُرَّ وَالْأَعْيُنَا"!
فأجبنا نحن نيابة عن الأرض -لو كان لها لسان لقالت له-: : هيهات، هذه بضاعتي رُدت إليّ! هذه فلوسي، أنتم مني أصلا، وقد رجعتم إليّ خالصين! "لِلتُّرْبِ يَا لَلْخِذْلَانِ يُخْلَقُ"، في كلمة الخذلان هذه قليل من الزندقة! "لِلتُّرْبِ يَا لَلْخِذْلَانِ يُخْلَقُ هَذَا الْخَلْقُ مَا جِدُّهُ وَمَا لَعِبُهْ"، كل هذا الجد وكل هذا اللعب هباء، "نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ" -صدق الله العظيم!- دخلنا في الزندقة -ها!- وهذا من غضب الشاعر على الموت طبعا، ومن قبل ما قال محمود حسن إسماعيل:
"لَا أَرْفُضُ الْمَوْتَ لَكِنِّي أُسَائِلُهُ هَلْ ذُقْتَ مَا أَنْتَ بِالْإِنْسَانِ فَاعِلُهُ"!
قال لي أبو همام مرة: مساكين أساتذة الجامعات هؤلاء؛ يتنافسون في التفاهات، وفي التفاهات يتخاصمون! عندنا -يا جماعة!- في جامعة القاهرة أم الجامعات المصرية، كتب المقررات، من تأليف الأساتذة -هم الذين يؤلفون ما يُدرّسون- تباع للطلاب، ويتنافسون في بيعها، وفي رفع أثمانها وخفضها كما يشاؤون، فهي عندهم غنيمة، وهو يراها حقيرة جدا، لأنه كان يأخذ مرتبا شهريا كبيرا من جريدة الأهرام، وجريدة الأهرام هذه هي المؤسسة الصحفية السادسة عالميًّا، وأموالها لا تحصى، فكان يرى كيف يتنافس أولئك المساكين في الملاليم، وصحفيو جريدة الأهرام يجمعون الملايين؟ فيسخط! "مَحْمُودُ ضَلَّ السُّؤَالُ"، ما هذا الأسلوب؟ ها!
نداء.
"محمود" نداء، أحسنت! "مَحْمُودُ ضَلَّ السُّؤَالُ وَانْشَعَبَ الْفِكْرُ وَقَدْ زَادَ حَيْرَةً شُعَبُهْ"، زادته شعبه حيرة، عدنا إلى تذكير الفعل للفاعل المؤنث مجازا؛ "فَهَلْ تَرُدُّ السُّؤَالَ"، كان من عادات محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا، رحمه الله، وطيب ثراه...! أحكي لكم عن الكبار الآن؛ فانتبهوا؛ فسلسلة رواياتي ذهبية، كما كانوا يحكون عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- انتهت! وأنا مع مراعاة الفرق أروي لكم عن محمود شاكر، دون فاصل، لا، لا وسيط، ها! هذه سلسلة ذهبية -فانتبهوا!- لا تعوض! كان أستاذنا يحب أن يُسأل، وكان إذا سُئل صَحَّحَ السؤال قبل أن يجيبه، يعلمك كيف تسأل أولا، فإذا أخطأت السؤال صححه لك، ثم اطمأن للإجابة حتى ربما ظننت أنه لن يجيب! سألته مرة، ثم استأذنت، فقال: لم أجبك بعد! وهل أجلس انتظارَ الإجابة إلى الأسبوع القادم! فكان لا يتسرع في الإجابة -وهذه طريقه العمانيين!- لكن تأملوا التنبيه الأول؛ يصحح لك السؤال إذا وجد فيه خطأ: ما هكذا تسأل الأسئلة! ثم يتمهل، ولا يتعالم، بل يتأنى، ويطلب الكتب من مكتبته النفيسة: يا فلان هذا كتاب كذا، افتح كذا في كذا، وهو -ما شاء الله- في جنته، عنده مكتبه فذة، يعرف مكان الكتب وقد قرأها جميعا، فالآن يتذكر شاعرنا ذلك، يقول: "فَهَلْ تَرُدُّ السُّؤَالَ أَحْسَبُهُ الْآنَ يَسِيرًا"، لأنه كشفت عنك الحجب "كَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ"؛ صدق الله العظيم!- تستطيع أن تجيب الأسئلة، لكن هيهات، لم يعد إلينا من الموت أحد ليخبرنا ماذا كان هناك، حتى الذين أماتهم الله معجزةً لم يكونوا في الموت -ها!- بدليل أنهم لما قام أهل الكهف مثلا لم يعرفوا أنهم ناموا كل هذا، لم يموتوا أصلا! هناك ناس ماتوا، أماتهم الله –"فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ"؛ صدق الله العظيم!- فرجع مستغربًا، وهناك من أماتهم ما لا ندريه، ثم بعثهم، لم يموتوا كما يموت الناس، معجزات لا يقاس عليها، فليس لك أن تسألهم -ها!- ما الموت، ولا كيف وجدتموه؟ لا، لم يموتوا كما يموت الميتون، بل ينتقلون إلى حياة خاصة لها ظروفها في فهم المسلمين، ولها شروطها وكذا، فيها كذا، وفيها كذا. ثم عاد الى الزندقة -وقليل من الزندقة لا يضر!- "أَمْ إِنَّنَا وَاهِمُونَ لَا يَكْشِفُ الْمَوْتُ سُؤَالًا يَؤُودُنَا وَصَبُهْ"، إِلامَ تريد أن تصل؟ كل هذا خداع، مقلب! "مَحْمُودُ أَنْتَ السُّؤَالُ تَعْرِفُهُ مَحْمُودُ أَنْتَ الْجَوَابُ تَحْتَجِبُهْ"، تأملوا التعبير؛ أنت السؤال، وأنت الجواب، أنت نفسك في نفسك، أنت السؤال، وأنت الجواب، لكن يستدرك طبعا، فيقول: "تَعْرِفُهُ"، "أنت" مبتدأ، و"السؤال" خبر، و"تعرفه" حال، و"أنت مبتدأ، و"الجواب" خبر، و"تحتجبه" حال، و"محمود" ربما ظن بعضكم أن "أنت" مبتدأ، وجملة "السؤال تعرفه" خبره، لا، هذا أضعف، والأول أقوى وأدل وأصلح للشعر. "تَحْتَجِبُهْ"، تستقل به، لا يعرفه غيرك. "أَيْنَ يَرَاعٌ كَالْبَرْقِ"، ما اليراع؟ القلم، واليراع في الأصل القصب، وكانوا يصنعون الأقلام من القصب -ها!- أتذكرون في الحكايات القديمة كيف يأتون ويسنون كذا -ويتواصَون: افعل كذا!- يأتون بشق من القصبة حتى يجعلوه قلمًا، ويغمسونه في الحبر، ويكتبون. "أَيْنَ يَرَاعٌ كَالْبَرْقِ يَسْتَرِقُ الْغَيْبَ عَصِيًّا فَيَنْجَلِي غَيَبُهْ"، تأملوا فرق ما بين الغيْب والغيَب، والغيَب الغائب. "يَسْتَرِقُ الْغَيْبَ عَصِيًّا"، على رغم أنه عصي، ينتزعه من مكامنه، مبالغات طبعا، "فَيَنْجَلِي غَيَبُهْ". وكان محمود محمد شاكر معروفا بأنه يدقق ويتأمل ويعيش في الكلام عند القراءة وعند الكتابة، يستغرقه الكلام، حتى إن إحدى الصحفيات كتبت عنه، فقالت: جئتُ بيته، فطرقت الباب، ففتحت لي زوجه، فدخلت، فوجدته على مقعده يقرأ، فخشيت أن أكون قطعت عليه، فقالت زوجه: لا، لا، هوني عليك؛ فهو إذا قرأ غاب عن الدنيا! هونت عليها: اهدئي، هوني على نفسك، هو الآن في عالم آخر! هذه مقدرة خاصة، لا أستطيع أن أدعيها لنفسي، تستغرقني الكتابة، فأما القراءة فلم أبلغ منها بعدُ منزلة أن أدخل فيها وأغلق خلفي! هذا مقام من مقامات الصالحين، يسمى الواحد فيه قارئا، أو كاتبا؛ فأين ذاك القارئ؟ وأين هذا الكاتب؟ "أَيْنَ يَرَاعٌ كَالْبَرْقِ"، قلمٌ كالبرق، "يَسْتَرِقُ الْغَيْبَ عَصِيًّا"، فجأه يذهب إلى الأفق، ويسترق الغيب، ويعود، فينجلي غيَب الغيْب، "يُشْعِلُ فِينَا الرِّيَاحَ عَاصِفَةً"، كلما قرأنا كلامه، نعم؛ أصابتني مرة مشكلة، أزمتني أزمة، فذهبت أقرأ له، وعدت قديرا عليها! كنا إذا وقعنا في المشكلات قرأنا كلامه -ها!- فعدنا أقوياء بعد ضعف، قادرين بعد عجز، قد حدث لي هذا حقا وصدقا ويقينا! "يُشْعِلُ فِينَا الرِّيَاحَ عَاصِفَةً وَقَدْ تَهَاوَتْ بِحَائِرٍ طنبَه طُنُبُهْ"، ما الطُّنُب؟ حبل الخيمة، حينما تأتي الرياح الشديدة فتضرب الخيمة تتهاوى الحبال، وهذا الرجل هو نفسه يشعل فينا الرياح عاصفة؛ فكيف تصيبنا الرياح؟ نحن نقهر الرياح بالرياح! "أَيْنَ لِحَاظُ الْعُقَابِ لِلْأَبَدِ السَّاكِنِ لَا تَتَّقِيهِ تَجْتَذِبُهْ"، ما العُقاب؟ أحد جوارح الطير، كالصقر، هو أقرب إلى الصقر منه إلى النسر، لأن النسر معروف بشيء من خساسة النفس، أما العُقاب -سبحان الله!- فكأنه من العِقاب،كأنه عقاب يصبه الله على الطيور! أين لحاظ العُقاب؟ وهذه الطيور تَرى أبعد مما تظن، ترى المياه في باطن الأرض -سبحان الله!- لهذا يتتبعونها حتى يعرفوا أماكن المياه! "أَيْنَ لِحَاظُ الْعُقَابِ لِلْأَبَدِ السَّاكِنِ لَا تَتَّقِيهِ تَجْتَذِبُهْ"، أين نظر العُقاب للأبد الساكن، لا تخاف منه، بل تنتزعه، تنتزع الأقدار من مكامنها! "يَهْرُبُ مِنْهَا الْبُغَاثُ"، ما البُغاث؟ خسيس الطير، ذاك شريف، وهذا وضيع خسيس، ومنه قولهم في المثل : "إِنَّ الْبُغَاثَ بِأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ"، "يستنسر"، لا "يستعقب"، يتعاظم الحقير في غيبة العظيم –"إن غاب القط العب يا فار، ها!- نعم:
"أَلْقَابُ مَمْلَكَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَوْلَةَ الْأَسَدِ"!
"يَهْرُبُ مِنْهَا الْبُغَاثُ يَخْتَانُهَا الرِّيشُ مَهِينًا يَصُونُهُ هَرَبُهْ"، تخيلوا: هل رأيتم في السماء مرة جارحًا من جوارح الطير، يتتبع طيرًا عاديًّا، يمامة، أو حمامة؟ أنا رأيت هذا! ترون منظرًا عجبًا، كأنه سهم طائر، والآخر مسكين في هلع، لا يعرف يمينًا من يسار، والريش يتناثر ولا يحمله، لا يعينه الريش، مسكين، والآخر خلقه ربنا صاروخًا موجهًا! تأمل؛ فأنا دائما أتتبع هذا، وحقا تجد الحمامة أو اليمامة في الجو قد أصابها الهلع واختانها الريش ولم تدر إلى يمين تذهب أم إلى يسار، صارت في حالة يُرثى لها! "وَأَنْتَ بَيْنَ الزِّحَامِ"، بين زحام الناس في سياقات مختلفة في الحياة الثقافية، "لَا لَقَبٌ يَحْمِيكَ"، لم تكن معه شهادة لا أستاذية، ولا دكتوراة ولا ماجستير ولا بكالوريوس، لا شيء -ها!- "إِنْ حَاطَ هَيِّنًا لَقَبُهْ"، ربما أراد بالهيّن طه حسين -ههه!- وكان عميد كلية الآداب، فصار يسمى عميد الأدب العربي بغيًا وعدوانًا، أما صاحبنا هذا فليس في يده شيء، لكن بيته تحول إلى جامعة توازي الجامعة! "مُؤْتَنِسًا أَنْتَ بِالتَّوَحُّدِ بِالْفَنِّ رَفِيعًا بِالْوُدِّ تَحْتَقِبُهْ"، تشتمل عليه كله، لك الود كله، مؤتنسا أنت بالتوحد، هناك من غير لقب، تركن إليه، تأتنس بتفردك بالفن، في حال رفعته، وبالود في حال استيلائك عليه كله. يحبه الناس حين يحبونه فيعطونه قلوبهم كلها، حتى إن أحد العلماء عند الكعبة قال للدكتور محمود محمد الطناحي -وهو الذي حدثنا بهذا-: أنا أحل للأستاذ محمود عرضي، أحل له عرضي، على أن يكتب، فليكتب، وعرضي له حلال! وإن الأستاذ محمودا قليل الكتابة، إذا عددتم ما كتبه بالقياس إلى ما يحكى وما يعرف عن علمه وجدتموه قليلا -وإن كان كثيرا بالقياس إلى غيره!- لكن بالقياس إليه هو نفسه قليل. تأملوا هذه الكلمة، كأنها كبيرة من الكبائر، عند الكعبة يقول لمحمود محمد الطناحي: أحل له عرضي على أن يكتب، فليكتب وإن قذفني أنا، يقصد هذا، فليكتب وإن قذفني! قصيدة صعبة -ها!- مَنْ ينافس فيها على خمس درجات، وجودًا أو عدمًا وزيادة أو نقصًا أو طردًا، من؟ ميسون؟ لا، ميسون غابت اللقاء السابق ينبغي أن نعاقبها، لماذا غبت اللقاء السابق؟
كنت مريضة.
لله الحمد على سلامتك! ها، من ينافس على خمس درجات زيادة أو نقصا أو طردًا؟ حصل مصعب في اللقاء السابق على خمس درجات، ولم يحصل أحد في التي قبلها على شيء، وطردنا الضيفة! نعم؛ كانت عندنا ضيفة مسكينة من كلية الطب، أرادت أن تقرأ، فأخطأت خطأ، فسكتنا عليه والطلاب ينظرون: واسطة واسطة! ثم أكرمنا الله بخطأ آخر، فقلت لها: وجبت، والجماعة يقولون: واسطة! فقالت لي: اسمح لي أن أجلس حتى اسمع بقية القصيدة، وتطوعت أسماء -وهي ممتازة- فأقرأناها، فأخطأت خطأ لن أذكره حتى تخطئوه -ها!- فقلت لها: برا. قالت: اسمح لي أن أكمل القصيدة! فأكملت القصيدة، ثم طردناهما معا صحبةً إلى الخارج -ها!- فمن يقدر على هذا؟ من؟ اتقوا الله؟ اتقين الله! النساء دائما جريئات -يا أخي!- تَعَلَّمْنَ من هؤلاء الحكماء! ها، أماني؟ قرأت من قبل؟ طيب، فرصة، جميل، أماني، لله الحمد والشكر -ها!- تفضلي ومنى طبعا بجوارك تنتظر! ها، اسمعوا ها السمعة، ها السمعة الطيبة، ها!
صَوَّحَ نَادِيهِ وَانْطَوَتْ كُتُبُهْ يَا رَاحِلًا لَيْتَ صِدْقَهُ كَذِبُهْ
قَدَ اعْنَقَتْ...
ها، أعيدي!
قَدَ اعْنَقَتْ...
ها، أعيدي!
قَدَ اعْنَقَتْ...
ما "قَدَ اعْنَقَتْ" هذه؟ تخفيف على قراءة ورش!
ههه!
تقرئين على ورش! "قَدْ أَعْنَقَتْ"، برا! خطأ، تقول: "قَدَ اعْنَقَتْ"، ها!
أعطها فرصة!
فرصة للطرد، طيب! نسمح لك، نعديها هذه المرة، لأنها شيء بين بين، كأنها "قَدْ أَعْنَقَتْ"، نطقت نطقا موهما، لو سألتُها لقالت: قُلتُ لَقَدْ أَعْنَقَتْ! طيب، ننتظر، وستخطئ خطأ آخر، أنا متأكد، أعيدي !
قَدْ أَعْنَقَتْ لِلْمَنُونِ رِحْلَتُهُ وَأَوْغَلَتْ فِي يَقِينِهِ رِيَبُهْ
وَاشْتَعَلَ الْحُزْنُ فِي الْعُرُوقِ فَمَا يُعْرَفُ إِلَّا بِدَفْقِهَا لَهَبُهْ
وَطَفِئَ الدَّمْعُ فِي الْعُيُونِ وَقَدْ كَانَ سُلُوًّا أَنْ يَنْهَمِي صَبَبُهْ
انْتَهِبِى يَا شُجُونَ...
"يا شجونَ"، مع السلامة، قلت: يا شجونَ، هذا منادي مفرد مبني على الضم.
هي السرعة!
ها! طبعا، أعرف طبعا، أداء طيب لا بأس به، لكن نحتاج إلى تطوير أنفسنا، هذه منافسة عالية جدا.
دكتور، أنا أقرأ بالمجان!
بالمجان؟ لا، بعد أن ننتهي من المنافسات. ها؟ من؟ هاجر؟ اسمعوا هاجر، أكملي، عندنا فضاء واسع للخطأ! انْتَهِبِى...
انْتَهِبِى يَا شُجُونُ أَفْئِدَةً كَانَ مُنَاهَا كَانَ مُنَاهَا الْفِدَاءُ تَنْتَهِبُهْ
ارفعي صوتك !
يَحْصُدُنَا الْمَوْتُ كَيْفَ لَا كَيْفَ وَالْمَوْتُ وَشِيكٌ حَيَاتُنَا سَبَبُهْ
نَقْتَاتُ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَقْتَاتُنَا الْمَوْتُ وَمَا غَالَ طَاعِمًا سَغَبُهْ
إِخَالُنَا لِلْفَنَاءِ يَخْلُقُنَا اللهُ وَمَا يَنْقَضِي...
ها، ها، أعيدي! انقطع الإرسال، ها!
ههه!
ها!
إِخَالُنَا لِلْفَنَاءِ يَخْلُقُنَا اللهُ وَمَا يَنْقَضِي بِنَا عَجَبُهْ
يخلقنا اللهْ!
اللهُ.
لا، لا، سمعتك سكنتِ الكلمة، أهي قراءة سرية -ها!- "يَخْلُقُنَا اللهُ"، ها!
أعيدها.
أعيديها، وحققي الحركات!
إِخَالُنَا لِلْفَنَاءِ يَخْلُقُنَا اللهُ وَمَا يَنْقَضِي بِنَا عَجَبُهْ
أَوْ أَنَّنَا وَاهِمُونَ لَا نَعْرِفُ الْعَيْشَ وَلَا الْمَوْتُ تَخْتَفِي حُجُبُهْ
يَغْلِبُنِي الْوَهْمُ كَيْفَ يَرْحَلُ مَحْمُودٌ وَكَيْفَ الْمَنُونُ تَغْتَصِبُهْ
أَذَلِكَ الْوَجْهُ غَالَهُ رِيَبٌ أَذَلِكَ الْعَقْلُ تَنْطَفِي شُهُبُهْ
لِلتُّرْبِ يَا لَلْخِذْلَانِ يُخْلَقُ هَذَا الْخَلْقُ مَا جِدُّهُ وَمَا لَعِبُهْ
لِلتُّرْبِ يَا لَلْهَوَانِ يُخْلَقُ هَذَا الْخَلْقُ مَا حَظُّهُ وَمَا أَرَبُهْ
مَحْمُودُ ضَلَّ السُّؤَالُ وَانْشَعَبَ الْفِكْرُ وَقَدْ زَادَ حَيْرَةً شُعُبُهْ
نعم؟
... شُعَبُهْ.
مع السلامة، لكن لها صوتًا جميلًا، اكتشفته الآن، اكتشفته، نضمها إلى الخاصة، ها، من؟ أمل؟ أتقدرين؟ طيب، ولم لا تقدر؟ أكملي، عندنا فضاء من الخطأ ما زال! ابدئي بالرابع عشر.
ما توقعت أن أُختار!
ها! ما توقعت أني اختارك؟ طيب -الحمد لله!- لعله يكون باب الخطأ -يا رب!- ها!
مَحْمُودُ ضَلَّ السُّؤَالُ وَانْشَعَبَ الْفِكْرُ وَقَدْ زَادَ حِيرَةً شُعَبُهْ
ما شاء الله!
ههه!
معها، بسرعة قبل ما تطلع، انتظري، مع السلامة!
ليه ما تعطيهم فرص؟
لا، لا، "حِيرة"! "الحِيرة" هذه في العراق، أيام النعمان بن المنذر! "حِيرة" مع السلامة، انتهينا من المنافسات، انتهينا، مَنْ يقرأ مجانا؟ من؟ مسعد -مسعد يا تنور يا مجمع الزينات!- أكمل، "مَحْمُودُ ضَلَّ السُّؤَال..."!
مَحْمُودُ ضَلَّ السُّؤَالُ وَانْشَعَبَ الْفِكْرُ وَقَدْ زَادَ حَيْرَةً شُعَبُهْ
فَهَلْ تَرُدُّ السُّؤَالَ أَحْسَبُهُ اَلْآنَ...
ها، لا يجوز؛ "أَحْسَبُهُ الْآنَ"، ها!
فَهَلْ تَرُدُّ السُّؤَالَ أَحْسَبُهُ الْآنَ يَسِيرًا مَجْلُوَّةً سُحُبُهْ
أَمْ إِنَّنَا وَاهِمُونَ لَا يَكْشِفُ الْمَوْتُ سُؤَالًا يَؤْدُنَا...
ها، "يُؤْدنا"، ما "يُؤْدنا"هذه؟ آه؛ لم نتكلم فيها! في كتاب الحق -سبحانه، وتعالى!-: "لَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا"، ما معنى "يَؤُودُه"؟ يعجزه، يتعبه، يثقل عليه، ها "لَا يَؤُودُنَا وَصَبُهْ"، ها!
أَمْ إِنَّنَا وَاهِمُونَ لَا يَكْشِفُ الْمَوْتَ...
... لَا يَكْشِفُ الْمَوْتُ...
... لَا يَكْشِفُ الْمَوْتُ سُؤَالًا يَؤُودُنَا وَصَبُهْ
أحسنت!
مَحْمُودٌ...
"مَحْمُودٌ"! هذه سبعون درجة راحت -ها!- هذه القراءة المجانية ممتعة، نعمة كبيرة -ها!- لكن عندك طلاب حصلوا على عشر درجات، مصعب حصل في المساء على خمس بعد خمس، حظوظ! قلت له: مَنْ علمك؟ أعندك معلم يراعيك؟ قال: لا. قلت: أو مركز تذهب إليه لتقرأ وتتعلم؟ قال: لا. قلت: آلمدرس في المدرسة كان يعتني بك أكثر؟ قال: لا. هذا اجتهاد خاص. ما شاء الله لا قوه الا بالله، ها!
مَحْمُودُ أَنْتَ السُّؤَالُ تَعْرِفُهُ مَحْمُودُ أَنْتَ الْجَوَابُ تَحْتَجِبُهُ
أَيْنَ يَرَاعٌ كَالْبَرْقِ يَسْتَرِقُ الْغَيْبَ عَصِيًّا فَيَنْجَلِي غَيْبُهْ
"غَيَبُه"، "غيْب" شيء، و"غَيَب" شيء، بينهما مثل ما بين "خَبْط" و"خَبَط"، وما بين "حسْب" و"حسَب"، ها.
أَيْنَ يَرَاعٌ كَالْبَرْقِ يَسْتَرِقُ الْغَيْبَ عَصِيًّا فَيَنْجَلِي غَيَبُهْ
يُشْعِلُ فِينَا الرِّيَاحَ عَاصِفَةً وَقَدْ تَهَاوَتْ بِحَائِرٍ طُنُبُهْ
ها!
أَيْنَ لِحَاظُ الْعُقَابِ لِلْأَبَدِ السَّاكِنِ لَا تَتَّقِيهِ تَجْتَذِبُهْ
يَهْرُبُ مِنْهَا الْبُغَاثُ يَخْتَانُهَا الرِّيشُ...
مهينا ذليلا.
يَهْرُبُ مِنْهَا الْبُغَاثُ يَخْتَانُهَا الرِّيشُ مَهِينًا يَصُونُهُ هَرَبُهْ
وَأَنْتَ بَيْنَ الزَّحَامِ...
وَأَنْتَ بَيْنَ الزِّحَامِ...
وَأَنْتَ بَيْنَ الزِّحَامِ لَا لَقَبٌ يَحْمِيكَ إِنْ حَاطَ هَيِّنًا لَقَبُهْ
تجدون -سامحوني- حمارًا بدرجة دكتور، دكتور فلان، والحمار نفسه يستنكر أن يشبه به -ها!- وتجدونه لصًّا -عافانا الله وإياكم!- ومثله قلة -وإن تزايدت!- لكنهم المذكورون المدعوون إلى الندوات، الدكتور فلان، وأحيانا ألف دال (الأستاذ الدكتور)؛ فكان الدكتور محمود محمد الطناحي يسخر منهم قائلًا: الدال دلو!
ههه!
تعرفون الدلو -والتشبيه بها قبيح جدا- فيقال له: دال هذه دلو -يا أستاذ!- فماذا عن ألف دال؟ فيقال: أكبر دلو -دال الدكتور دلو، وألف دال الأستاذ الدكتور أكبر دلو- سخرية من هؤلاء الجهلة الذين حصلوا على الدكتوراة، ها!
مُؤْتَنِسًا أَنْتَ بِالتَّوَحُّدِ بِالْفَنِّ رَفِيعًا بِالْوُدِّ تَحْتَقِبُهْ
أحسنت، أحسنت، بارك الله فيك! والآن نكتب البيتين الأولين، أعرف أنهما كافيان إلى حد بعيد، وانتبهوا؛ فاليوم صعب؛ لهذا سنعتمد على الأداءات الفردية اعتمادًا واضحًا. بسم الله!
صوح ناديه وانطوت كتبه يا راحلا ليت صدقه كذبه
قد أعنقت للمنون رحلته وأوغلت في يقينه ريبه
هل من خطأ في الإملاء؟ دع عنكم الخلط -ها!- هذا قدر مقدور، اللهم، لا حيلة لي فيه، طيب! الآن نضيف التشكيل وشعارنا التشكيل التام أو الموت الزؤام:
صَوَّحَ نَادِيهِ...
شكلوا في وقت النطق كيلا تُرحلوا الحركات!
... وَانْطَوَتْ كُتُبُهْ
هكذا.
يَا رَاحِلًا لَيْتَ صِدْقَهُ كَذِبُهْ
يا سلام متعة!
قَدْ أَعْنَقَتْ لِلْمَنُونِ رِحْلَتُهُ
أي سافرت سريعا.
وَأَوْغَلَتْ فِي يَقِينِهِ رِيَبُهْ
طيب! لابد أن نتفق على لحن لهذا الوزن الصعب، سأحكي لكم عنه كثيرا كثيرا، انتبهوا!
صَوَّحَ نَا| دِيهِ وَانْطَـ| ـوَتْ كُتُبُهْ| يَا رَاحِلًا| لَيْتَ صِدْقَـ| ـهُ كَذِبُهْ
قَدْ أَعْنَقَتْ| لِلْمَنُونِ| رِحْلَتُهُ| وَأَوْغَلَتْ| فِي يَقِينِـ| ـهِ رِيَبُهْ
هكذا نعيد .
صَوَّحَ نَا| دِيهِ وَانْطَـ| ـوَتْ كُتُبُهْ| يَا رَاحِلًا| لَيْتَ صِدْقَـ| ـهُ كَذِبُهْ
قَدْ أَعْنَقَتْ| لِلْمَنُونِ| رِحْلَتُهُ| وَأَوْغَلَتْ| فِي يَقِينِـ| ـهِ رِيَبُهْ
وننزل هذا على الصفحة بالألوان المختلفة، هكذا -طيب!- بالأحمر نكمل، والدندنة لا خلاف عليها بين قبائل الدنيا.
لابد من الإشباع، هي أصلا بطبيعتها في اللغة يجب إشباعها؛ إذا تحركت بعد متحرك وجب إشباعها!
وهذه واجب الإشباع.
لابد من إشباعها.
مستعِلن، مطوية.
فاعلاتُ.
ههه!
نعم -والله!- حدثنا بهذا عنه أستاذنا وصديقنا الدكتور محمود محمد الطناحي؛ فانظروا إلى المصيبة، وكان يحصل على ممتاز في الجامعة! مسكين! كان المنسرح له رعبا من الرعب، كان عفريت البحور -ها!- فجأة يخرج لك، فيقض مضجعك! ومشكلة المنسرح "مفعولات"؛ لهذا رمز بها أبو همام عبداللطيف عبدالحليم إلى العروبة والعزة والكرامة، في قوله من قصيدته "صورة مصرية من زمن المماليك":
"فَلْتَغْضَبِي مَفْعولَاتُ وَارْتَقِبِي غَضْبَةَ وَادٍ تَرُدُّ مَا غَصَبُوا
وَلْتَجْرُفِي فِي الْوُلَاةِ قَزْمَتَهَا لَا تَتَسَاوَى الرُّؤُوسُ وَالذَّنَبُ"!
متفعلن.
ها!
ها!
ها!
والله! عندنا في هذا البيت مشكلتان، واحدة من أوله، وواحدة من قبل آخره: أما الأولى فـ"وَطَفِئَ" هذه، ها؟
آه! أخطأتم، أعرف؛ هذه "مفعولات" سالمة -يا مساكين!- "وًا أَنْ يَنْهَـ"، "وًا أَنْ يَنْهَـ"، "وًا أَنْ يَنْهَـ"، نعيد من الأول:
و"مفعولات" هذه إذا سلمت اتهم الناس أنفسهم: مَنْ الذي أخطأ، نحن أم الشاعر، أو كذا، أو كذا! كنت في تحكيم مسابقة كبيرة، وكان معنا شاعر عراقي معروف، فخطأ بيت شاعر من المنسرح، وما فيه غير أن "مفعولات" قد سلمت! ألم أقل لكم إنها رأس الفتنة! إذا سلمت هي لم نسلم نحن -ها- إذا سلمت "مفعولات" لم يسلم المتلقون من أذاها، وإذا زُوحِفت سلموا وغنموا وارتاحوا كثيرا! ها، أكملوا!
جميل، ها!
"ـمَوْتِ كَيْـ"، لا، "كَيْفَ"، ها! "نَقْتَاتُ بِالْـ"، "ـمَوْتِ كَيْفَ"، هكذا، "دن ددن د، مفعولات، مطوية". نعيد:
ها!
الدكتور: ها ها أعيدوا
طيب ننتقل الى الأداء الفردي وبميسون نبدأ، لأنها رأس الفتنة!
ههه!
هي التي أفسدت علينا! ها، اقرئي "أَذَلِكَ الْوَجْهُ غَالَهُ رِيَبٌ أَذَلِكَ الْعَقْلُ تَنْطَفِي شُهُبُهْ"، معقول، أهذا يحدث! "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ" -يا أخي!- صدق الله العظيم! ها، خَرِّجي، واضربي على الخشب وهو سُخْن!
خطأ!
الدكتور: خطأ!
جميل!
خطأ، طبعا خطأ!
خطأ! طيب، لحظة! ما رأيكم في أن نجعل للخطأ كذلك عقابا في اللقاء القادم: من أخطأ مرة أو مرتين أو ثلاثًا ينطلق الى الفضاء الواسع، ها!
والله! لم لا تكملين البيت كله في مرة واحدة، فترحينا، وتستريحي!
دكتور، صعب!
طيب! سأعيد عليك السابق، لتقيسي عليه اللاحق، تمام، ننتبه؟
ها، طبقي!
خطأ! "أَذَلِكَ الْـ".
خطأ، "وَجْهُ غَالَـ".
أحسنت!
لا، "ـعَقْلُ تَنْطَ".
جميل، سالمة!
لِلتُّرْبِ يَا لَلْخِذْلَانِ يُخْلَقُ هَذَا الْخَلْقُ مَا جِدُّهُ وَمَا لَعِبُهْ
إذا أسرعتم وأحسنتم خرجتم، وإلا بقينا إلى أن تطلع الشمس من مغربها، ها!
خطأ!
خطأ! وما الجديد؟ هو نفسه، أعيدي -زادت الأخطاء!- أعيدي!
خطأ
أحسنت! سارة، وإذا أسرعتم خرجتم!
لِلتُّرْبِ يَا لَلْهَوَانِ يُخْلَقُ هَذَا الْخَلْقُ مَا حَظُّهُ وَمَا أَرَبُهْ
الله، الله، أحسنت! مَنْ؟ راية؟ مَنْ؟ ذكرى؟ سامحيني؛ سأحفظ الأسماء، قد حفظت أكثر الأسماء، ها!
مَحْمُودُ ضَلَّ السُّؤَالُ وَانْشَعَبَ الْفِكْرُ وَقَدْ زَادَ حِيرَةً شُعَبُهْ
"حِيرة"! فيها خمس درجات، فيها طرد، مات فيها ناس هذه، مات فيها ناس، وهلكت أمم، طيب! "حَيْرَةً"، طيب، خرِّجي، واضربي على الخشب وهو سُخْن!
"مَحْمُودُ ضَـ"! وكيف نقرأ ما بعدها، إن شاء الله! "مَحْمُودُ ضَلْـ"، أعيدي!
خطأ!
زَادَ حَيْرَ.
أحسنت، أعيدي!
أحسنت، أحسنت! مَنْ، راية؟ تفضلي!
فَهَلْ تَرُدُّ السُّؤَالَ أَحْسَبُهُ الْآنَ يَسِيرًا مَجْلُوَّةً سُحُبُهْ
ها، اضربي على الخسب وهو سُخْن!
خطأ!
خطأ! "فَهَلْ تَرُدْ".
لا، "أَحْسَبُهُ الْـ".
أحسنت، مني!
أَمْ إِنَّنَا وَاهِمُونَ لَا يَكْشِفُ الْمَوْتُ سُؤَالًا يَؤُودُنَا...
وَصَبُهْ، أي عناؤه وتعبه، ها!
البيت نفسه سهل، لم تفعل شيئا كثيرا، هو في نفسه سهل!
ههه!
أحسنت، أحسنت، أنوار -آه!- نورة!
أحسنت! وهذا البيت كذلك من نفسه يقطع بعضه بعضا! ابتسام، أنوار!
أَيْنَ يَرَاعٌ كَالْبَرْقِ يَسْتَرِقُ الْغَيْبَ عَصِيًّا فَيَنْجَلِي غَيَبُهْ
ها!
لا ، "يَسْتَرِقُ الْـ".
أحسنت! مَنْ؟ مريم المقبالية من صُحار!
يُشْعِلُ فِينَا الرِّيَاحَ عَاصِفَةً وَقَدْ تَهَاوَتْ بِحَائِرٍ طُنُبُهْ
ها!
لا، "وَتْ بِحَائِـ"!
أحسنتِ البيان، وإن من البيان لسحرًا! ها، من؟ تفضلي!
أيْنَ لِحَاظُ الْعِقَابِ لِلْأَبَدِ السَّاكِنِ لَا تَتَّقِيهِ تَجْتَذِبُهْ
"العِقاب"! "العُقاب" الطائر الكاسر، أما "العِقاب" فالمعاقبة، ها، واضربي على الخشب وهو سخن!
أَيْنَ لِحَا
ظُ العُقابِ
لا، "لِلْأَبَدِ السْـ".
عندك ضربة تضيع في الوسط، ها!
ها! طبعا يحتاج إلى سرعة، إلى سرعة فقط، لا تدريب؛ عليك ثلاث مرات بعد الأكل أن تحركي يدك عشر مرات: "دن دددن"، "دن دددن"، أو اجعليها "دددن"، لأنها أكثر الحركات المتوالية، بعد الأكل ثلاث مرات كل يوم "دددن" -إن شاء الله!- على مدار أسبوع تتقنينها منتهى الإتقان -إن شاء الله!- أعيدي!
ها! سقطت؛ أرأيت؟ إذن بعد العشاء، ها!
أحسنت!
أحسنت!
ها!
لا تحتاج إذن إلى شيء بعد العشاء، يكفي بعد الإفطار والغداء! ها، لميس!
يَهْرُبُ مِنْهَا الْبُغَاثُ يَخْتَانُهَا الرِّيشُ مَهِينًا يَصُونُهُ هَرَبُهْ
يا سلام!
الله، الله، مسعود!
الله، الله! أحمد، من زمان لم تشارك، وختامه مسك، أحمد الناصري مسك الختام!
أَنْتَ بِالتَّـ
أحسنت!
أحسنت، جميل! وأنا أعرف أنك تعرف، هذا أحمد الطروب بالفطرة! ها، ما قافيه البيت الأول؟ أسرعوا، أسرعوا!
كَذِبُهْ.
ها، "كذبه"،كذب!
ـهُ كَذِبُهْ.
أحسنت! هذا الصدق، هذا الصدق -سبحان الله!- ما قافية البيت الأول إذن؟ "ـهُ كَذِبُهْ". لماذا؟ عندك الساكنان: الهاء في الآخر، والواو غير المكتوبة بعد الهاء، بينهما الكاف المفتوحة، فالدال المكسورة، فالباء المضمومة، وقبلهما الهاء المضمومة، فهي إذن "ـهُ كَذِبُهْ"، ها!
ـهُ رِيَبُهْ.
ها!
ـهَا لَهَبُهْ.
ها!
ـمِي صَبَبُهْ.
ها!
تَنْتَهِبُهْ.
ها!
ـنَا سَبَبُهْ.
ها!
ـمًا سَغَبُهْ.
ها!
ـنا عَجَبُهْ.
ما شاء الله! طابقت التفعيلة؛ التقت القافية والتفعيلة على وزن، ها!
ـفِي حُجُبُهْ.
ها!
تَغْتَصِبُهْ.
ها!
ـفِي شُهُبُهْ.
ها!
مَا لَعِبُهْ.
ها!
مَا أَرَبُهْ.
ها!
ةً شُعَبُهْ.
ها!
ةً سُحُبُهْ.
ها!
نَا وَصَبُهْ.
ها!
تَحْتَجِبُهْ.
ها!
ـلِي غَيَبُهْ.
ها!
ـرٍ طُنُبُهْ.
ها!
تَجْتَذِبُهْ.
ها!
ـهُ هَرَبُهْ.
ها!
ـنًا لَقَبُهْ.
ها!
تَحْتَقِبُهْ.
أحسنتم! فما أقوى المكررات؟ هل يجوز أن يكون الهاء؟ لا، لا يجوز. وهل تظل الهاء هكذا، مكتوبًا عليها ألا تكون يومًا ما حرفًا قويًّا! سأعلمكم بعد أسبوعين أو أسبوع، أنها تقوى إذا ضعف ما قبلها؛ إذا كانت قبلها ألف كما في "جناحاه" مثلا: "فَكَانَ كَالطَّيْرِ مَقْصُوصًا جَنَاحَاهُ"، قويت هي فكانت الروي! طيب، ما حركة هذه الباء؟
مضمومة.
هل قبلها ألف أو واو أو ياء ساكنات؟
لا.
هل قبل الذي قبلها ألف؟
لا.
هل بعدها مد أو هاء أو تاء أو كذا أو كذا؟
هاء ساكنة.
ينبغي أن نعتبر هذا كله؛ لماذا؟ لأننا سنحاكم إليه الشعراء، فنقول: أحسنتم أو أسأتم، وأظهرتم أو أخفيتم، ووفقتم أو أخفقتم. ماذا نقول؟ من يقدم هذه البيانات كاملة، من؟ كاذية، تفضلي!
هذه القصيدة منسرحية الأبيات الوافية.
الوافية، نعم؛ فليست تامة، لأنكم ترون أنه طوى التفعيلتين الثالثة والسادسة، والتزم طيهما، فجرى الطي وهو زحاف مجري العلة، في حين أن "مستفعلن" الأخرى هنا وهنا الأولى والرابعة، سلمت، وخبنت، وطويت، وتحركت؛ فلم تستو عنده التفعيلات إذن؛ فلا يستحق أن يسمى تامًّا، ولكنه هو واف، لأنه استوفى أعدادها، ها!
هذه القصيدة إذن، منسرحية الأبيات الوافية المطوية العروض والضرب.
أحسنت! على رغم أنه أفلتت منه "مستفعلن"، فسلمت مرة أو مرتين، لكنني أرى أن هذا من النشاز، لأن هذه الصورة معروفة بالطي في شعر العرب؛ فهذا من إفلات الإيقاع من صاحبنا، ها!
بائية القوافي المضمومة المجردة -أي المجردة من الردف ومن التأسيس- الموصولة بالهاء الساكنة، ولابد من وصفها بأنها ساكنة. بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، والسلام عليكم!
وسوم: العدد 1104