سبب العزة
وائل خليل
من التصرفات العفوية التي تعود عليها المصريون، الاعتدال في الجلوس عند مرور أحد عليهم، ويعتبرون مجرد رؤية أسفل حذاء الشخص الجالس أمامهم قلة احترام منه لهم. هذه الحساسية توارثها المصريون أبًا عن جد، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على موروث عريق تأصَّل فيهم، بعد أن أعزهم الله بالإسلام الذي أنقذهم من العبودية والمهانة التي تجرعوها في العصور التي سبقت الفتح الإسلامي، سواء على يد الفراعنة أو الرومان. فهاهم بعد الفتح يتساوون مع فاتحي بلادهم في الحقوق والواجبات حتى قبل أن يدخوا في الإسلام، بل ويؤَمَّنوا على صلبانهم وكنائسهم وشعائرهم، ويحسون بكرامتهم الإنسانية بعد أن افتقدوها أو تعودوا على فقدانها، وأكبر دليل على ذلك الشكوى التي رفعها أحد الأقباط عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على ابن عمرو بن العاص الذي كان قد ضربه بالسوط، مما جعل عمر بن الخطاب يقول له: لو ضربت أباه عمرو لما حلنا بينك وبين ذلك، والتفت عمر إلى عمرو بن العاص وقال مقولته المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا!؟" وبهذه الطريقة المؤثرة والعملية تعرف أهل مصر وغيرها على الإسلام، وفهموا حقيقته بعيداً عن الأخبار الكاذبة والدعاوات المضللة، وأدركوا من خلال التطبيق، عدله وفعاليته وقدرته على علاج مشاكل الناس على نحو منتج ومؤثر وعادل، يؤدي إلى الطمأنينة الحقيقية، فكان مقدمةً لاعتناقه عن قناعة بوصفه دين الله الخالق الواجب الاتباع، والمحقّق للسعادة في الدنيا، والمنجي من العذاب يوم الحساب. فدخلوا في دين الله أفواجا، وهضموا أفكاره حتى أصبحت مفاهيمَ تؤثر في سلوكهم، وتغيرت مشاعرهم حتى أصبحوا لا يرضون إلا بما يرضي الله، ولا يسخطون إلا لما يسخط الله، ورضوا بألا تكون لهم الخِيَرة من أمرهم إذا قضى الله ورسوله أمرًا، فأسسوا جميع علاقاتهم على أساس الإسلام، فكانوا بحق وعن جدارة، يمثلون المجتمع الإسلامي في أبهى صوره. وترسخ فيهم العز والكرم، وتوارثوا الصفتين جيلا عن جيل، حتى أنهما صمدا رغم الهبوط الفكري في أواخر عهد الخلافة العثمانية، ورغم سقوطها فعليا في 1924، وها نحن نراهما في تصرفاتهم اليوم حتى وإن كانت عفوية.
تقول النظرية الفيزيائية: إن أي جسم يُدفع بسرعة معينة في الفراغ المطلق حيث لا جاذبية ولا احتكاك، يحافظ على سرعته الأصلية إلى ما لا نهاية، رغم فقدانه القوة الدافعة، أما في حالة وجود قوىً معاكسةٍ لهذه الحركة وغياب الدافع لحركةِ أي جسم، فتنتهي الحركة إلى السكون أو حتى الارتداد عن ما وصل إليه. وما ينطبق على الأجسام ينطبق على التصرفات، فطالما كانت تلك السلوكيات، نتيجةً للمفاهيم المبنية على الأفكار المنبثقة عن العقيدة الإسلامية التي يعتنقها المصريون، فإنها تحافظ على حركتها وحيويتها في الزمان والمكان، رغم كل القوى المعاكسة، لأنها لم تفقد قوتها الدافعة، أما إن فقدت تلك القوة الدافعة، ومهما كانت سرعة انطلاقها، فلا بد أن تنتهي حركتها إلى السكون بل والتراجع والارتداد في الاتجاه المعاكس، بحسب قوة المفاهيم والأفكار المناقضة للعقيدة الإسلامية، والتي تفانى الكافر المستعمر، ومن بعده الحكام النواطير، في غرسها في عقول المسلمين ومنهم المصريون.
فها هي العزة التي اكتسبها المصريون من الإسلام، حين فقدت قوتها الدافعة، صارت حركات عفوية، ويمكن التنازل عنها إن اقتضت المصلحة والنفعية ذلك، مثل الذي ربط بيادة العسكر وجعل أسفلها على أم رأسه، إمعانا منه في إذلال إنسانيته، بعد أن كان يعتبر مجرد وضع رجل على الأخرى أمامه عدم احترام له.
وها هو عدم القبول بالدنية في الدين، الذي كان دافعا للتغلب على المغول والتتار والصليبيين، حين فقد القوة الدافعة، صار عكسه ممكنا، فأصبح الدين محلا للمساومة والتوافق والقبول بالتدرج في تطبيقه، بل وأصبح الإصرار على الديمقراطية العلمانية المناقضة للإسلام، والتي أوردت أهل مصر المهالك، عنوانا للدفاع عن الشرعية التي لم تقوَ حتى على حماية نفسها، ضعف الطالب والمطلوب!
فعزة أهل الكنانة إذن، تكمن في القوة الدافعة للعقيدة الإسلامية، وقيادتها الفكرية التي تهديهم إلى سبيل الرشاد، فيصارعون بها الأفكار المناقضة للإسلام، مثل الوطنية والقومية وفصل الدين عن السياسة، والديمقراطية وفصل السلطات والغاية تبرر الوسيلة...إلخ، ومصداقا للحديث الذي رواه البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والله المعطي وأنا القاسم، ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون».
فها هم شباب حزب التحرير في مصر الكنانة يصلون الليل بالنهار، بعد أن تعلموا معنى التقيّد بشرع ربهم، وكيف يتأسّون بنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم. لقد غرس فيهم حزب التحرير معنى الانقياد للعقيدة والإسلام، ونهاهم عن الانقياد للأشخاص، إلا ما داموا مطيعين لأمر الله بالدليل والبرهان، وعلمهم أن مقياس الأعمال هو الحلال والحرام وليس المصلحة ولا المنفعة، وأن الرابطة بين المسلمين هي رابطة العقيدة لا غير... وكل روابط القومية والوطنية روابط فاسدة، وأنهم مسئولون بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الأمة الكريمة، بل عن البشرية جمعاء تكليفاً واجباً لا تشريفاً أو تفضُّلا، وعلمهم أيضا كيف يعرفون أعداءهم ولا يركنون إليهم، والمقياس الذي يعرفون به أحبابهم، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبنى وربّى وثقّف أتباعه على نفس العقيدة الكريمة، وصنع منهم على عين القرآن والسنة رجالَ دولة ورجالَ سياسة قادرين على قيادة العالم بالإسلام.
وهم لا يكلُّون ولا يملُّون من مصارعة الأفكار المناقضة للإسلام، فيدحضون الحجة بالحجة، ويجادلون كل من خالفهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويهيئون الأمة للأمر العظيم، الذي كانت من أجله خير أمة أخرجت للناس، فيحدثون فيها رأيا عاما منبثقًا عن وعي عام بفرضية إقامة الخلافة الإسلامية، التي تمارس السياسة على أساس الدين، فترعى شؤون رعاياها - على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم - بالإسلام، بل وترعى به شئون العالم كله.
فحيهلا أهل الكنانة للعمل على تغيير الواقع معنا في حزب التحرير إرضاءً لله تعالى! وأن لا نتنازل عن ثوابت القرآن والسنة تماشياً مع الواقع لإعادة ما أفسد المسلمون بأيديهم، وتآمر به أعداؤهم عليهم. فتكون العزة بالإسلام: خلافة على منهاج النبوة، وليس بالشرعية الديمقراطية الخبيثة. ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)﴾ [سورة إبراهيم الآية:24-27].