داعش، والسياسة الشرعية في مراعاة المصالح

محمد عبد الرازق

السياسة الشرعية كما قال شيخ الحنابلة، أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي ( ت 513ه): ( مَا كَانَ فِعْلاً يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ ).

و تكمن أهمية السياسة الشرعية كما يذكر العلماء في أنَّها تقوم على:

1- جلب مصالح الدارين، ودفع المفاسد عنهما.

2- مراعاة العرف وتغير الزمان والمكان والأحوال.

3- مراعاة مآلات الأمور واعتباراتها.

4- مراعاة الأولويات.

و في ضوءٍ من هذا الذي ذكرناه عن السياسة الشرعية، و أهميتها سننظر إلى جملة من المواقف، و الفعال التي بدرَتْ عن دولة الإسلام في العراق و الشام، المعروفة اختصارًا بـ ( داعش )، لنرى الوجه الشرعي، و السياسي فيما كان منهم على الساحة السورية في الآونة الأخيرة، و تحديدًا الأشهر الثلاثة الفائتة التي ظهرت فيها ( داعش ) بهذا الاسم المختصر.

أولاً: جرأتهم على تكفير، و تفسيق، و تضليل مخالفيهم من أبناء الثورة السورية:

من ذلك:

1ـ قيامهم بتكفير لواء عاصفة الشمال بناء على صورة كانت لهم مع عضو الكونغرس الأمريكي جون مكين، حينما زار شمال حلب في ( 29/ أيار/ 2013م )، علمًا أنهم لم يأتوا بأي دليل صوتي، أو مكتوب يثبت حصول خيانة في أثناء الاجتماع.

 وهذه شبهة لا تجيز القتال وسفك دماء المسلمين، فلقد اجتمع صلى الله عليه وسلم بعدد من الكفار، والتقى بهم في أكثر من مرة.

2ـ ما تواتر نقله عنهم من تكفير الجيش الحر بالجملة، لا بل تكفير أهل بلاد الشام عامة؛ بدعوى أنهم عباد قبور.

هذا، وقد طلب من قياداتهم من لدن جبهة علماء حلب عدة مرات أن يصدروا بيانًا يحرِّمون فيه تكفير الجيش الحر أو المسلمين بالجملة ولم يستجيبوا لذلك، وهذا يجعلهم مسؤولين عن تصرفات أفرادهم مسؤولية كاملة بهذا الخصوص.

و التصريح بتكفير مخالفيهم واضحٌ في مقطع تكسير قوارير الخمر التي ادعوا أنها للواء عاصفة الشمال في إعزاز، وَ لْنفترضْ جدلاً أنها له؛ فلا يجوز تكفير المسلم بالكبيرة.

3ـ و ليت الأمر توقف عند خصومهم؛ فهم يكفرون كل من يعمل في المنظمات المدنية، تحت دعوى أنه تابع للائتلاف الوطني. و هم في ذلك يتجنون عليهم من جهتين:

أ ـ افتقارهم إلى إيراد ما يثبت تبعية هذه المنظمات إلى الائتلاف.

ب ـ زيادة الطين بِلَّة على السوريين بطرد هذه المنظمات من المناطق المحررة، مع العجز من قبلهم على القيام بالأعباء الحياتية لشريحة كبيرة من الناس لا يجدون ما يقيم أَودَهم سوى هذه المنظمات.

4ـ اتهام حركة أحرار الشام بزعامة ( حسان عبود ) بأنهم جماعة سُرُورِيَّة ضالَّة ( نسبة إلى مؤسسها الشيخ محمد سرور زين العابدين: سوري من حوران ).

5ـ اتهامهم جبهة النصرة بأنهم بغاة على خليفتهم المزعوم، بل اتهام الظواهري بأنه ضال عندما وجه بحل تنظيمهم بقيادة أبي بكر البغدادي، و إلحاقهم به مباشرة.

6ـ إصدار مذكرة اعتقال بحق الشيخ الدكتور محمد حاتم الطبشي ( رئيس مجلس شورى الإخوان المسلمين السوريين )، في : 1/ 11/ 2013م، على أثر خطبة له في المناطق المحررة، انتقد فيها ظاهرة التكفير التي أصبحت تشيع هذه الأيام، و لاسيما في المناطق الواقعة تحت سيطرة داعش.

و ذكَّر في خطبته تلك بأن الجهاد في الثغور ( أي الجبهات )، وليس بعيدًا عنها في المناطق المحررة.

7ـ زرع الفتنة بين مكونات المجتمع من أبناء الطوائف الأخرى، من خلال هدر دم عدد من أبناء الطائفة الدرزية في بلدة ( كفتين ) شمال إدلب، على إثر سعيهم للسيطرة عليها في يوم الاثنين: 21/10/2013م، علمًا أن الدروز في إدلب يلتزمون الحياد الإيجابي، و قد كان لهم مواقف مشرفة تجاه أبناء القرى السُّنية المجاورة عندما نزحوا إليهم بالمئات، و مازالوا يسكن عددٌ من أبناء مدينة معرة مصرين بينهم، و قد كان من لطفهم أن بادروا إلى إعطائهم المسجد العمري في البلدة كي يصلوا فيه التراويح في رمضان هذا العام، غير أن النازحين فضلوا أن يقيموا شعائر الصلاة و الأذان جهرة في المدرسة التي يقيمون فيها.

و قد كان من غرائب حُكمهم لحلّ ما نتج من إشكال بعد ذلك ـ بحسب ما أبلغهم به أمير داعش في بلدة كللي اتفاقهم ( مع أنفسهم جريًا على عادتهم في رفض مشاركة أحد في الأحكام الصادرة عنهم بحق خصومهم )، على شرطين هما:

أـ اعتناق أهالي كفتين للإسلام (السُّني) وما يترتّب على ذلك من بناء جامع آخر، إلى جانب المسجد العمري الأثري المهجور عندهم، و تعيين دعاة عندهم لتعليمهم الدين الإسلامي.

ب ـ محاكمة الأشخاص السبعة المطلوبين لهم في محكمتهم حصرًا، و من غير إبداء أيّ اعتراض على الأحكام التي ستصدر بحقهم؛ بحجة أنهم قاوموا اعتقالهم لهم، و رفعوا السلاح بوجههم.

و قد قبل الوسيط ( الأستاذ عبد المجيد شريف من كفتين ) هذين الشرطين على أن تتم المحاكمة للمطلوبين كمسلمين، وليس مسلم وكافر . غير أن الأمر في اليوم الخامس تطور إلى مطالب أخرى ، تشمل تسليم سلاح القرية كاملاً، ثم تدرج الأمر إلى تسليم خمس عشرة بندقية روسية، و رشاشbkc، و قاذفي rbg، يقولون أنهم شاهدوهما في القرية.

ثالثا: تجرؤهم على سفك الدم الحرام:

و من ذلك ما كان منهم من الإقدام على قتل، و تصفية:

1ـ الشيخ يوسف عشاوي رئيس الهيئة الشرعية في إعزاز، بتارخ: 7‏/8‏/2013 م، ( غِيلةً ) في أثناء محاولتهم اختطافه، فقد وجدت سيارته بعد مدة قصيرة من الجريمة بيد مقاتلي ( داعش )، و أبناء المنطقة يعرفون أنها عائدة له؛ و لاسيّما بعد التعميم على مواصفات السيارة للقبض على الفاعل.

2ـ أبي عبيدة البِنِّشي، ( أحمد فهمي نينال ) أحد مسؤولي المكتب الإغاثي في حركة أحرار الشام الإسلامية، بتاريخ: 11‏/9‏/2013م، و تحت ذريعة جِدُّ واهية ( رفع العلم الأمريكي فوق سيارات الإغاثة التي كان برفقتها )، و تبيَّن لاحقًا أنه العلم الماليزي؛ كون تلك المساعدات كانت من منظمات إغاثية ماليزية مقدمة إلى الشعب السوري.

  هذا و قد بُذلِت جهودٌ كثيرة من أجل أن تقبل ( داعش ) بالتحقيق في مقتله، و لكنهم كانوا يرفضون و بشدة أن يحصل ذلك؛ إلاَّ أن يقوموا هم بذلك وحدَهم.

3ـ الإعلامي الشاب محمد سعيد ( 25 سنة ) في: 23/10/2013م، على يد ملثمين منهم، في بلدة حريتان في ريف حلب، و ذلك عندما اقتحموا محلاً تجاريًا كان يتواجد فيه سعيد، ليطلقوا عليه ثلاث رصاصات استقرت إحداها في رأسه فأردته قتيلا.

و الإعلامي محمد سعيد ليس الأول الذي يلقى حتفه على يد ملثمين من التنظيم، حيث قتل واعتقل عشرات الإعلاميين السوريين والأجانب في مناطق تقع تحت سيطرتهم، و لاسيّما في الأشهر الأخيرة؛ بغية ترهيبهم، و إخراجهم منها؛ حتى لا تُنقل الصورة الحقيقية لما يجري على أيديهم بحق النشطاء، و الثوار المخالفين لهم في التوجه و الرأي.

4ـ فادي القش، أحد ضباط الجيش الحر في مدينة الدانا، شمال إدلب في: 7/ 7/ 2013م، الذي ذُبِح هو وأخوه بالسكين من القفا، بعد خداعه واستدراجه إلى اجتماع لعقد هدنة واتفاق في إطار سعيهم للسيطرة عليها؛ لجعلها عاصمة لإمارتهم التي يحلمون بها في سورية، بعد فشلهم في ذلك في العراق.

5ـ أبو بصير الطرطوسي ( كمال حمامي )، عضو مجلس القيادة العليا، الذي اغتيل على أحد حواجزهم في: 12/7/ 2013م، فبمجرد أن توقف موكبه تقدم أمير داعش هناك، وأطلق رصاصة على رأسه فأرداه صريعًا، ثم أطلق النار على باقي عناصر الموكب وأبلغهم أن: (هذا مصير المتعاملين مع الغرب، و الائتلاف ).

6ـ الشيخ صلاح الدين حبلص ( مسؤول تجمع حلف الفضول في شمال إدلب )، الذي نجا من القتل على أيديهم بأعجوبة، بتاريخ: 21/ 9/ 2013م، حيث أفادت مصادر في قرية ( حتان ) التابعة لمنطقة حارم في محافظة إدلب، أن الجيش الحر أحبط محاولة لاغتيال الشيخ ( صلاح ) أحد رموز الثورة السورية.و ذلك في أثناء قيامه في مهمة ثورية عند نقطة قريبة من أحد حواجز الجيش الحر، عندما فتح مسلحون ملثمون النار على سيارة الشيخ؛ ممّا أدى إلى استشهاد مرافقه، وإصابته هو بعدة طلقات في صدره، نجاه الله منها بلطفه و عنايته.

7ـ قتل عدد كبير من المجاهدين والمدنيين، تجاوزوا المائة و الخمسين، عندما سيطروا على مدينة إعزاز شمال حلب في: 22/ 10/ 2013م، بعد قتالهم لواء عاصفة الشمال، من الجيش الحر ــ من دون أي مسوّغ شرعي يبيح لهم ذلك ــ و من هؤلاء:

ـ الإعلامي عمر حاجولة، المجاهد صبحي دربالة، أبو إياد الحمصي ( قاموا بتقطيع وجهه بالسكاكين وهم يصرخون: كافر ٌكافرٌ، آجِرْ آجِرْ)، محسن عكاش، محمد الشيخ، شريف جعفر دربالة، منير حسون، محمد أحمد حسانو، محمود صبري كنو، محمد نور زعموط، محمد عثمان، عبدو محمود لحموني، سامر رشيد زعموط، حسين عموري، و الطفل محمد الذي كان متواجداً في المعسكر يوم اقتحامهم له.

8ـ التساهل في القتل على الحواجز والإصابة في مقتل، مع أنهم في مناطق محررة كل أهلها من المسلمين، ويمكنهم القبض على من شاؤوا بالتواصل مع الحاجز التالي لهم، أو لغيرهم من الفصائل الثورية، ومن ذلك على سبيل المثال: وليد محو على طريق معرين إعزاز، والطفل مصطفى رجوب داخل إعزاز.

رابعاً: تعاطيهم عمليات الخطف:

من ذلك ما كان منهم من اختطاف، أو السعي لاختطاف كلٍّ من :

1ـ  شخص يُدعى أبو كامل، فقد كتبَ اسمَه باللغة الإنجليزية في المعتقل ليتعرف عليه من يدخل المعتقل لديهم لاحقًا، و هذا ما كان عندما أُحضِرَ مختطفون آخرون إلى هذا المعتقل.

2ـ الشيخ محمد الكنج، قائد لواء أصحاب اليمين في منبج شمال حلب، مع ثلاثة من مرافقيه في: 22/10/ 2013م، فقد شوهدت سيارته برفقة سيارات عناصرهم عند سد تشرين. هذا و إنّ نفيهم عملية خطفه لا يعني تبرئتهم من ذلك؛ فهم مسؤولون: شرعاً وقانوناً عن المناطق التي اختطف فيها الشيخ بسبب طردهم للمجاهدين من الفصائل الأخرى من منطقة الاختطاف.

3ـ الكاهن الإيطالي الكاثوليكي، باولو دالوليو، في:30‏/07‏/2013  المعروف بمواقفه المؤيدة للثورة، الذي تُشير القرائن إلى اختطافه في منطقة من محافظة الرقة، حيث يُحكم مقاتلو ( داعش ) السيطرة عليها.

4ـ مُطرانا حلب: بولس اليازجي للروم الأرثوذكس، و يوحنا إبراهيم للسريان الأرثوذكس، اللذان اختُطِفا في:13/8/ 2013م، على مقربة من ( الفرقة التاسعة ) العاملة في حلب، و تحمل اسم ( لواء أنصار الخلافة )، و القرائن تشير على أن الأمر بتدبير من ( داعش ).

5ـ الرهائن اللبنانيون الشيعة التسعة، حين اجتياحهم مقرات لواء عاصفة الشمال في:20/9/ 2013م، و هم الذين كان لواء عاصفة الشمال في إعزاز يحتجزهم عنده بعد اعترافهم بالقتال إلى جانب قوات الأسد في منطقة ( نُبُل ، و الزهراء ) الشيعيتين في شمال حلب؛ الأمر الذي جعل صفقة مبادلتهم تطبخ على نار لاهبة، برعاية ( تركية ـ قطرية ) من غير أن تحقق كبير فائدة للثورة.

و لا يعدو ما أشاعته ( داعش ) عن قبض لواء عاصفة الشمال مبلغ ( 125 مليون دولار ) مقابل إتمام تلك الصفقة؛ إلاَّ من باب إبعاد التهمة عنهم سعيًا للوصول إليهم لأغراض لا تبعث على الطمأنينة.    

خامسًا: سعيهم للتضييق على الثوار، و كتائب الجيش الحر:

و قد تجلّى ذلك من خلال سعيهم المحموم للسيطرة على المناطق المحاذية لتركيا، و لا سيّما المعابر فيها، و التي تعدّ الشريان الوحيد الذي تتغذى منه الثورة السورية، على مستوى عموم أبناء الشعب السوري، أو على مستوى الفصائل المقاتلة، سواء أكانت من الجيش الحر، أو من الفصائل الإسلامية المتفاهمة معه.

و هم يعلمون يقينًا أن تركيا لن تسمح بسيطرتهم عليها؛ الأمر الذي أدى إلى إغلاق ما تمّت السيطرة عليه من لدن ( داعش ) من المعابر، كباب السلامة، و جرابلس.

و قد ذاق الناس من جرّاء ذلك مرارة لا تقلّ عن مرارة القتل، و التجويع، و الحصار التي يتبعها الأسد بحقهم منذ ما يزيد على سنتين خلتا من عمر ثورتهم ضده.

سادسًا: تماديهم في الإتيان على منجزات الثورة السياسية:

من ذلك قيامهم ببث مقاطع مصورة لحالات الإعدام بقطع رؤوس من يقع تحت أيديهم من رجالات الأسد، أو من هو منتمٍ إلى طائفته النصيرية كما حصل للسائقين الثلاثة في صحراء الرمادي، و قد جاء ذلك متزامنًا مع حادثة الكيماوي في الغوطة، التي ذهب ضحيتها ( 1800 شخص )، و قد كاد البناء السياسي الذي بذلته المعارضة السياسية أن يؤتي أُكله في تغيير المزاج الغربي العام نحو التعاطف مع هؤلاء الضحايا لولا حسابات ساسة الغرب المصلحية، و مشاهد قتل هؤلاء السائقين بدمٍ بارد في محاكمة لم تدم أكثر من ربع ساعة، كانت التهمة العظمى فيها أنهم لا يعرفون طريقة الأذان، و عدد ركعات صلاة الفجر.

و الأمر دواليك في كل نازلة فاقرة تقع على السوريين من لدن نظام الأسد، فما إن يبدأ البناء السياسي يقف على سوقه ليعطي نتائجه تجاه ما يحصل حتى تفاجئنا ( داعش ) بمقطع مصور يستفز مشاعر الغربيين، و يسيء للثورة، يأتي على هذا البناء السياسي لذلك الحدث بأكمله.

بعد هذا السرد المؤلم لجانب من تصرفات، و فعال ( داعش ) على الأرض السورية، ألا يحق لنا أن نسألهم عن المصالح المرعية في سياستهم هذه التي ينتهجونها مع شعب أطبق عليه البلاء من الخارج، و الداخل؛ بما يحقق له أهدافه في ثورته على نظام الأسد؟

و هل هم فيما يقومون به يحققون المصلحة من السياسة الشرعية، التي قال عنها شيخ الحنابلة، أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي ( ت 513ه):( بأنها مَا كَانَ فِعْلاً يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ )؟.