هل يمكن للمجلس المركزي تدوير المربع "الأمني"... بعد تربيع الدائرة؟
هل يمكن للمجلس المركزي تدوير المربع "الأمني"
بعد تربيع الدائرة؟
د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين
إن العمليات السياسية كما العمليات الرياضية قد تستهدف المستحيل، ولكن الفرق بين علماء الرياضيات والساسة أن الرياضيين يعترفون بالمستحيل من العمليات، أما الساسة (الدجّالون) فيلتفون حول الاعتراف بالمستحيل عبر التضليل. وهو ما يبدو جليا في محاولة التفاف المجلس المركزي الفلسطيني عبر قراره وقف التنسيق الأمني مع "إسرائيل" (حسب بيان المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية).
ومن المقرر رياضيا أنه لا يمكن تحويل المربع إلى دائرة لها نفس مساحة المربع باستخدام المسطرة والفرجار، لأنها عملية مستحيلة مهما حاول المسّاحون والرياضيون. ولذلك استعارت الأدبيات السياسية هذا التعبير الرياضي لتصوير صناعة المستحيل في انجاز مهام أمنية وسياسية، كما كانت مجموعة الأزمات الدولية قد عنونت تقريرها السياسي-الأمني قبل خمسة سنوات: "تربيع الدائرة: إصلاح الأجهزة الأمنية الفلسطينية تحت الاحتلال"، إذ وجدت فيه انعكاساً لاستحالة رياضية أُسقطت على استحالة المعضلة السياسية في خلق ثقافة أمنية حوّلت "المناضلين الفلسطينيين" ضد الاحتلال اليهودي إلى حرس حدود عند محتلهم.
وكنت قد كتبت في حينه مقالا بعنوان "تنسيق السجين مع محتلة وتربيع الدائرة"، مصورا بشاعة الانجاز الفلسطيني -بل الأمريكي- الذي عبّر عنه صانع ذلك المستحيل السياسي –الجنرال دايتون- وهو يمدح انجازه المتمثل في خلق ثقافة أمنية تحمي أمن الاحتلال، في قوله: "ما فعلناه هو بناء رجال جدد"، وذلك عندما وقف متفاخرًا في معهد "واشنطن" لسياسات الشرق الأوسط عام 2009م، مستعرضا مهمته في صناعة جيل أمني فلسطيني جديد، وقد اقتبس فيه خطاب ضابط فلسطيني كبير لخريجي دورة أمنية "لستم هنا لتتعلموا كيف تقاتلون (إسرائيل)".
إذن نجحت أمريكا عبر جنرالاتها وأموالها (الوسخة) وعملائها في تربيع دائرة الثقافة (الوطنية!)، وفي تكوين عقيدة أمنية (فلسطينية!) تعتبر الدفاع عن أمن اليهود مشروعا وطنيا، بل وصل الأمر لدرجة التقديس (كما عبر رئيس السلطة الفلسطينية في أكثر من مناسبة). وهو لا شك صناعة مستحيل ثقافي، يسطّر سجلا في كسر تلك القاعدة المستحيلة رياضيا والممكنة سياسيا وأمنيا!
ولذلك فإن قرار المجلس المركزي الفلسطيني الجديد يطلب اليوم الالتفاف على معضلة (رياضية) سياسية أخرى، وهي مكافئة رياضيا لتلك المعضلة السابقة، وهي إعادة تدوير ذلك المربع الأمني الذي خلقه دايتون. ولا شك أن الرياضيات تقرر أن استحالة تدوير المربع هي على نفس مستوى استحالة تربيع الدائرة.
ولا شك أن السياق الوصفي لهذا المقال معقد لأنه تصوير لعمليات رياضية-هندسية معقدة، ولا شك أن إسقاط تلك العمليات على السياسة يزيد من تعقيدها، ولكن ذلك التعقيد هو التعبير البسيط عن حالة التيه التي تدفع نحوها "القيادة الفلسطينية!" هذا الجيل من أبناء فلسطين.
ولا تقف تلك المعضلة عند حد الثقافة، بل هي أيضا في استحالة محو ذلك السجل التاريخي من الاتفاقات الأمنية التي أنجبت هذه السلطة "الوطنية!"، كابنة سفاح المجلس المركزي مع قادة الكيان اليهودي، إذ إن تلك الولادة المسخ هي نتيجة سلسلة من الوقاحات السياسية لقادة منظمة التحرير، وللتهجين الأمني لرجالاتهم، وقد أُنضجت بويضاتها (الأمريكية) في أنابيب مشروع حل الدولتين:
وكانت منظمة التحرير قد عبّرت مبكرا عن فحشها السياسي عام 1982 عندما تجرّأت في قمة فاس على إعلانها المبكر بالتجاوب مع مشروع ريغان الذي يفرض القبول "بسلطة فلسطينية للحكم الذاتي، ترمي إلى إثبات أن الفلسطينيين قادرون على حكم أنفسهم، وأن هذا الحكم الذاتي لا يهدد أمن (إسرائيل)، تكون فيه المفاوضات من أجل التوفيق بين المطالب الأمنية المشروعة لـ(إسرائيل) والحقوق المشروعة للفلسطينيين"، ومن ثم أخذت ترسخ ذلك الالتزام، كما أقرّت في المجلس الوطني في الجزائر عام 1988، والذي أبدى استعداده الكامل لحفظ أمن الاحتلال ضمن الحل السياسي، ونصت مقرراته على "ترتيبات الأمن والسلام لكل دول المنطقة"، ومن ثم جاءت أوسلو الأولى (1993) سياسية، فلحقتها أختها الثانية (1994) أمنية، ومن ثم تتابعت الاتفاقيات الأمنية تبث سمومها كما في اتفاقية الخليل عام 1997، التي وضعت الترتيبات الأمنية لحماية المستوطنين فيها، واتفاقية "واي ريفر" سنة 1998، التي أوصلت الفلسطيني الجديد حد الانخراط في مواجهة "الإرهاب" تحت إشراف المخابرات الأمريكية. وجاءت خارطة الطريق عام 2002 ملزمة للسلطة الفلسطينية بتعهد أمن "إسرائيل"، وصارت مرجعا أساسيا في كل حراك سياسي لاحق، وهي البنود المرجعية لمهام الجنرالات الأمريكيين الذين تعاقبوا على قيادة وتدريب ذلك الفلسطيني (الجديد)؛ لتنفيذ مهامه الأمنية.
إن المعضلة في إعادة تدوير ذلك المربع الأمني الفلسطيني من خلال قرار المجلس المركزي لا تقف عند حد الثقافة والاتفاقيات التي كبلت المنظمة رجالها عبرها، بل تتعدى ذلك نحو معضلة معنوية-عاطفية تقف سدا منيعا بين قادة المنظمة وسلطتها وبين أهل فلسطين، بعدما استباحوا المحرمات الثورية وأراقوا دماء المقاومين.
إذن تزداد تلك المعضلة استحالة أمام قدرة المجلس المركزي على محو ذلك العار "الوطني!" بعد رفع الهراوات الوطنية على أبناء فلسطين وفتح الزنازين للمقاومين، واستحالة إعادة التحام "البلور الثوري المنكسر" بعدما تبعثر في الطرقات وتلطخ بدماء أهل فلسطين.
إن قرار المجلس المركزي الجديد هو مجرد "توصية" لا يمكن أن تحرف مسار السلطة الأمنية ولا أن تعطل مهمتها في حفظ أمن الاحتلال، وهو فقاعة إعلامية، وتحمل بعض انعكاسات التصعيد الدبلوماسي بين حكومة نتنياهو والإدارة الأمريكية الراعية لهذا المشروع الأمني، إذ لا يمكن لأجير عند أمريكا أن يغرد خارج سربها.
إن خلاصة المشهد أن قادة المشروع الوطني يصرون على تصوير المستحيل ممكنا، أولا عندما استهدفوا تخريب الثقافة التي تجرّم التعاون مع الاحتلال اليهودي، وثانيا عندما يتبجحون اليوم بدعوى قدرتهم على وقف التنسيق الأمني، بعد ذلك التخريب والتكبيل "للرجال الجدد"، ومع تلك الهوّة العاطفية، وهو ما يستحيل فيه ترميم تلك الثقافة الأمنية التي زرعوها في ذلك الجيل من "الرجال الجدد" على حد تعبير دايتون. فالمسألة ليست بيانا سياسيا بل هي إعادة تشكيل الوعي:
إذ هل يمكن وقف التنسيق الأمني قبل الكفر بتلك العقيدة الأمنية المقدسة؟!
إن قرارا (بل توصية) لا يمكن أن تمحو عار المنظمة ومجلسها المركزي، وليس أمام اولئك "القادة" إلا إعلان التوبة السياسية على الأشهاد، وطلب العفو من الناس على سجل تلك الخيانات (الوطنية) التي ارتكبوها عبر عقود من الزمن، قبل أن يدغدغوا مشاعر الناس بشعار أجوف، يناقض عقيدتهم الأمنية وفلسفة مشروعهم الوطني.