دقة فهمنا لثوابتنا
حين يعيش المرء مع الركع السجد، قوام الليل وصوام النهار، وهم متماسكون ثابتون كالطود الأشم لا يبالون بحرارة شمس ولا ضيق مكان، تلتصق أجسادهم بعضهم ببعض فأصبحوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، أقول – حين ترى هذه الصفوف المتراصة والتي تسخر ممن يريد تفريقهم، ويخوفونهم بالذي هو أدنى وهم لا يخشون أحدا إلا الله يستمدون منه القوة والعزيمة ويشد من أزرهم إخوانا لهم في أقطار مختلفة من العالم لأنهم يعلمون أنهم طلاب حق خلقوا لنشره وحمايته ومن هذا المشهد الذي يبكي العيون ويثبت الأقدام يتأكد لك أن الإسلام دين الجماعة.
وكيف لا يكون الإسلام دين الجماعة وهو يدعو إلى تأسيس مجتمع إسلامي يأمن فيه الفرد على نفسه وأسرته (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) إنه مجتمع يريد أن يقيم حضارة إنسانية تسع الجميع مؤمنهم وكافرهم، مؤيدهم ومعارضهم، أسودهم وأبيضهم، عربهم وعجمهم (وما أرسلناك إلا كافة للناس) إنه هدف يحتاج إلى جماعة منظمة تحققه تقيم الإسلام أولا في واقع حياتهم حتى يرى الناس فيهم القدوة الصالحة ويروا محاسن هذا الدين فيمن آمن به ماثلة في هذه الجماعة ككل أو في الغالب الأعم، فيدركوا أثر هذا الدين في أتباعه ويستشعروا عظمته فيسارعوا في الدخول فيه إيمانا واقتناعا لا كرها وإجبارا.
وهذا الفهم من ثوابت الإسلام نفسه الذي يدعو إلى تحقيق النظام في أبسط وأقل عدد يتصوره المسلم حتى ولو كان مسافرا إلى جهة معلومة فإن كان بمفرده في سفره هذا فالشيطان يصاحبه، وإن كان أكثر من ذلك ولو ثلاثة كان لابد من أن يؤمر أحدهم أميرا عليهم، فما بالكم بمن يريد أن يحيي أمة، ويقيم دولة، ويصنع حضارة، ألا يحتاج إلى من يعينه (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا) ... (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءاً يصدقني ...).
لذا يتعجب من لم يفقه هذا الأمر كيف تعيش الملايين في رابعة العدوية دون أن تحدث حادثة واحدة تؤذي واحدا منهم؟ ويتساءلون كيف يأكلون وهم لا يعلمون أن أصحاب العقائد والمبادئ يكفيهم كسرة خبز يشبعون بها جوعتهم، وشربة ماء يروون بها عطشهم ولا يبالون أين ينامون في كهف أو قصر، وتأمل ما يحدث في غير ميادينهم من انتهاك لحدود الله، واعتداء على الأعراض يقول كل منهم (أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين)، لا يعملون إلا لدنيا همهم الدرهم والدينار فهل يتسوون مثلا؟ أين هؤلاء من الذين يتحملون الشدائد ولا يبالون بالموت يرتبطون بالعمل الجماعي ويشعر كل منهم:
أولا: بالاعتزاز بالانتماء إلى جماعة تدافع عن إسلامها.
ثانيا: يشعر بالاطمئنان في وجوده بين إخوانه بعد أن كسر حاجز الخوف من نفسه.
ثالثا: أن هذه – جماعة الميدان – تسعى لتحقيق أهدافه وأمانيه.
رابعا: يشعر أنه لبنة أساسية في تماسكها وبنائها.
خامسا: يشعر أنه خلية فيها تمده ويمدها ويستمد منها الثبات والتضحية فإذا انفصلت عنها ماتت وإذا اتصلت حيت.
يقول الإمام الأوزاعي: خمس كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون:
1- لزوم الجماعة
2- اتباع السنة
3- عمارة المسجد
4- تلاوة القرآن
5- الجهاد في سبيل الله
ولا شك أنه كلما قوي إيمان الأفراد واشتد عود الجماعة سعت نحو أهدافها تحققها الواحد بعد الآخر وإلا تفكك الصف لوهن أصابه، والحمد لله إني لمستبشر بما نراه من تماسك الشباب وإصرارهم على مواصلة الطريق وبين النصر والهزيمة صبر ساعة (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).
سأل أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم – أو كما قال صلى الله عليه وسلم -، يقول ربنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير).
فالإسلام قادم قادم وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء .. فاللهم اجعلنا منهم.