هل انتهت عملية السلام؟
معين الطاهر
أثار تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حول نهاية حل الدولتين، شكوكاً كبيرة حول نهاية عملية السلام برمتها. ذلك أن حل الدولتين القائم على قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع تبادل (طفيف) في الأراضي، قد شكل حجر الرحى للحراك الفلسطيني اللاهث خلف التسوية، منذ برنامج النقاط العشر سنة 1974، وكان هدفاً فلسطينياً كامناً خلف اتفاق أوسلو 1993، وفق شعار "الأرض مقابل السلام"، على الرغم من عدم الاعتراف الإسرائيلي بالحقوق المشروعة للفلسطينيين، والاكتفاء بالاعتراف بمنظمة التحرير طرفاً مفاوضاً عن الفلسطينيين حول مستقبل الأراضي المتنازع عليها، وفق التعريف الإسرائيلي، على الرغم من اعتراف المنظمة الكامل بدولة إسرائيل في هذا الاتفاق المشؤوم.
وفي الحقيقة، جاء نعي نتنياهو حل الدولتين، وتأكيده على أن هذا الحل لن يتحقق، ما بقي رئيساً للوزراء، موافقاً للحقائق التي فرضها الاحتلال وما زال على الأرض الفلسطينية، إذ إن حل الدولتين دُفِن فعلاً تحت معاول الاستيطان، الذي ازداد عشرات المرات، في ظل مفاوضات السلام المزعوم، وتحت نظر السلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي، بحيث ناهز عدد المستوطنين نصف مليون، يقيمون في 140 مستوطنة شرعية، ومائة غير شرعية حسب مقاييس الاحتلال، وهي، في العادة، مقدمة لمنحها الشرعيات والتصاريح اللازمة لبقائها ونموها، وبلغت نسبتهم لعدد السكان العرب في الضفة الغربية ما يفوق نسبة اليهود للعرب في سنة 1948 إبان تأسيس ما سميت دولة إسرائيل.
انتهى اتفاق أوسلو سيئ الذكر، عملياً، منذ الاجتياح الصهيوني لمدن الضفة الغربية ومخيماتها خلال الانتفاضة الثانية، حيث لم يعد للسلطة الفلسطينية ما تسيطر عليه فعلياً، واستبدلت بنوده ومراحله ببنود أخرى، صاغها الجنرال الأميركي، كيث دايتون، وتتعلق بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، وإبقائه بدون ثمن مع استمرار تحكمه بمختلف جوانب حياة الفلسطينيين. واقترن ذلك ببرنامج رئيس الوزراء الفلسطيني السابق، سلام فياض، الذي سعى إلى تحقيق شروط تأهيل الوضع الفلسطيني، ليصبح مستحقا لدولته على أرضه. وهكذا تكامل البرنامج الأمني مع البرامج الاقتصادية والسياسية في رحلة البحث عن الشريك الفلسطيني المؤهل للمشاركة في عملية السلام، التي أصبح شعارها "الأمن مقابل السلام"، وسط ارتفاع مستمر للسقف الإسرائيلي المدعوم بغطرسة القوة والحقائق التي يشكلها على الأرض، مع إبقائه السلطة الفلسطينية على حافة الانهيار، ووسط دوامة من التردد والعجز والبحث المستمر عن سراب لمفاوضات تأتي ولا تأتي، ودور لم يعد مقبولاً له سوى المراوحة في المكان، وبعد أن تم اغتيال الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، الذي رفض شارون، وبغطاء دولي، اعتباره شريكاً في عملية السلام.
على الرغم من ذلك كله، لا تنتهي عملية السلام ولا تتوقف، بل ومن غير المسموح لها بالتوقف، أو بالإعلان عن فشلها، إذ لا بد دوماً من سراب يتم التلويح به، عن بُعد حيناً وعن قرب أحياناً، ويزداد حوله الجدل، وتتشكل الوفود وتعقد المؤتمرات وتعود المفاوضات، لكنه يبقى يدور في الحلقة المفرغة نفسها القائمة على إبقاء الاحتلال، وما بين جولة وجولة، ينخفض السقف العربي. قد يتم، أحياناً، وضع مشاريع وقرارت وتنظيم لقاءات ومؤتمرات تتضمن رؤى لحل شامل، أو تقوم بمعالجة قضايا جزئية، مثل أموال الضرائب ومشاريع اقتصادية ومبادرات تضمن بقاء التنسيق الأمني والتعاون بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، وتنزع فتيل أي خلافات قد تنشأ، أو تلجم التوجه الفلسطيني نحو المقاومة الشعبية ومطاردة إسرائيل في المحافل الدولية.
استمرار هذه العملية وبقاؤها مطلوب لذاتها، لأن الإعلان عن فشلها يجر المنطقة إلى ما لا يمكن السيطرة عليه، ويجعل من تغيير أدوات الصراع ووسائله أمراً حتمياً. هي عملية لا تستهدف الوصول إلى السلام، أو تحقيق تسوية ما، مهما بلغت نسبة عدالتها، أو اشتد منسوب ظلمها وإهدارها الحقوق العربية، بقدر ما ترغب في إدامة إدارة هذا الصراع، والسيطرة عليه، ووضعه في حدود مقبولة. وهي عملية مستمرة، منذ بدأت محاولات إنشاء الكيان الصهيوني عبر وعد بلفور، والمبادرات والتطمينات واللجان والقرارات والمؤتمرات والجولات المكوكية لم تتوقف يوماً، ولو أردنا تعدادها لامتلأت بها صفحات الجريدة عن آخرها، وربما احتجنا لنكملها في أعداد قادمة.
الأزمات التي تجتاح المنطقة، والحروب الإقليمية المشتعلة فيها، تستوجب أن تزداد وتيرة الحديث عن استمرار عملية السلام، وسنشهد مبادرات ومشاريع عديدة، إذ لن يتحمل أحد في المنطقة أن يصب زيت إعلان وفاة عملية السلام على النار المشتعلة، وستتكرر مراراً وتكراراً الوعود والمبادرات الشبيهة بما أعلنه الرئيس الأميركي، جورج بوش، إبان حرب الخليج.
وفي غمرة ذلك، يأتي المشروع الفرنسي المزمع تقديمه إلى مجلس الأمن الدولي في الأسابيع المقبلة، وهو نسخة معدلة عن مشروع القرار الفلسطيني الذي فشل في الحصول على أغلبية في أروقة المجلس، وكان السقف الفلسطيني فيه قد هبط إلى هاوية جديدة، وصفها بعضهم بأنها كارثة وطنية. ما تسرب حول المشروع الفرنسي يشير إلى أنه سيتضمن آليات جديدة لإستئناف المفاوضات، إضافة إلى الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، كما أنه يجعل من اتفاق الطرفين حول الحدود مرجعية جديدة، بديلة لكل القرارات السابقة، والتي تنص على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتلت في 1967، بما فيها القدس. ويقدم مشروع القرار هذه التنازلات الجديدة أملا في أن يتجاوز الفيتو الأميركي، وأن تقبل به إسرائيل مرجعية جديدة لعملية السلام.
ستستمر عملية السلام، وسترتدي، في كل يوم، ثوباً جديداً، لكنها ستفشل في تحقيق السلام. ومثل هذه المشاريع ستتوالى، لكنها لن تغيّر من واقع الحال، سوى أنها ستهبط دوماً بالسقف الفلسطيني والعربي الرسمِيَّيْن، من هاوية إلى هاوية أخرى. أما ما يغيّر الحال، ويضمن زوال الاحتلال، فهو استمرار المقاومة المسلحة في غزة، وتحويل المقاومة الشعبية والهبّات الجماهيرية في باقي فلسطين إلى انتفاضة شعبية، والانتهاء بأسرع ما يمكن من الحروب الأهلية الدامية الممتدة في المنطقة، عبر الخلاص من الفساد والاستبداد والإقصاء، لكي تعود المقاومة، وفلسطين بوصلة لا تخيب أمل من يحمل رايتها.