"إذا عُرف السبب.. بَطُل العجب"...
"إذا عُرف السبب.. بَطُل العجب"...
عقاب يحيى
وداعش... مثال ....
يكثر الحديث عن أسباب انتشار داعش، وأخواتها من المتشددين، والغلاة، ويحلو للكثيرين من المحللين، والمهتمّين، والعاديين ربط الظاهرة بالصناعة الأمريكية وغيرها من دوائر المخابرات الغربية والعربية.. وكفى بالتحليل تحليلاً، وفي بحث العوامل الجدّية لنشوء هذه الظاهرة، واستمرارها، وتوغلها، وتصاعدها..
ـ الكل يعرف ويجمع أن فكرة الجهاد ليست جديدة في الإسلام، وكانت على مدى مسارات التاريخ أحد الأعمدة التي تحفّز عديد المسلمين، وتثير الخلافا والاجتهاد في مضمونها، وزمانها، ومساحاتها.. وحين انتقلت من الجهاد ضد" دار الكفر" إلى مواجهة الحكام العرب، والمناطق التي تقطن فيها غالبية أو أقلية مسلمة.. عبّرت عن منسوب الاحتقان الذي ينفجر في وجه واقع الظلم، والتهميش، والإذلال، والنهب، والإفساد التي تمارسه تلك النظم، وقمع الاتجاهات الإسلامية وغيرها درجة المنع الشامل والتصفية..
ـ حينما غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان.. اتجهت المخابرات المركزية الأمريكية، ومعها دوائر عديدة نحو استنفار المسلمين تحت رايات الجهاد ضد " عدو كافر" ووجدت في الوهابية الأرض الخصبة التي تغذيها أنظمة الحكم لتجنيد الشباب وتوجيههم نحو القتال في أفغانستان.. فكانت فكرة، وولادة القاعدة، وبروز اسامة بن لادن ..
ـ " جهاد الكفّار" المدعوم من مختلف أجهزة المخابرات العربية والغربية.. انتشر في عموم الأرض العربية وبلاد المسلمين.. يلقى الدعم الرسمي والخفي، ويستقطب فئات واسعة من الشباب العاطل عن العمل، والمهمّش، والناقم على معيشته، وحكوماته.. فكان تنفيساً لهؤلاء وتعويضاً، وبالوقت نفسه ترحيلاً من النظم المعنية لمشاكلها بصرف الأنظار عن أوضاعها الداخلية، وخلق اهتمامات أخرى لدى الغاضبين تبعدهم عن الشأن الداخلي غلى آخر خارجي جاذب...
ـ أكيد أن الاختراقات كانت كبيرة، وان أجهزة جميع تلك الدول المعنية كانت نشيطة في بثّ الألغام لصالحها، وإيجاد العملاء التابعين لها، ومحاولة الاحتواء، والتوجيه، والضبط.. لكن وكأي ظاهرة تمتدّ شعبياً، وفكرياً وتلقى ذلك الحماس من عشرات آلاف الشباب وأكثر، وبما توفر لها من قدرات مالية، ومستوى تنظيمي جيد، يرافقه ذلك الإعداد التعبوي، والنفسي والعقيدي يمكن لها أن تخرج من دائرة الأسر، وما خطط لها مسبقاً، وأن تنقلب على الأهداف التي وضعت لها، أو أريد أن تكون سجينتها.. وهذا ما يمكن اعتماده في ظاهرة القاعدة.. بغض النظر عن أسباب المنشأ، وعن حجم الاختراق ..
*****
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.. وحدوث ذلك الزلزال الكبير.. كانت المؤسسات الغربية الاستراتيجية والأمنية، والصهيونية العالمية معنية بإيجاد وتصنيع" بعبع" كبير ـ كما هي العادة ـ لتوجيه الأنظار نحوه، بكل ما يقتضي ذلك من تضخيم، وافتعال، و"توثيق".. فكان الإرهاب هو العنوان الكبير، والإسلام المتشدد.. هو المضمون..
ـ ورغم أن الأمر يحتاج إلى وقفة بحثية عميقة في تناول المواقف الغربية مما يحكى عن "الصحوة الإسلامية" ومكانها من الدعم، والتوجيه، والتعامل، والتخوم التي وضعت بينها وبين التشدد..إلا أن تلك الرهانات القديمة من لدن القوى الغربية على إيجاد مصدّات، ورؤوس حراب ضد الفكر الشيوعي، والاتجاه نحو الحركات الإسلامية لتنشيطها، وتغذيتها، وتصديرها.. أوجد التربة الخصبة لنمو كافة الاتجاهات الإسلامية : الوسطية والمعتدلة، والمتشددة، والجهادية.. وهي ترضع من حليب الواقع العربي الرسمي المتهاوي، الاستبدادي، الإخضاعي..
وبالوقت نفسه.. فإن "انقلاب السحر على الساحر" كان بفعل ممارسات الإدارة الأمريكية المحافظة، والحربجية التي اتجهت بكليتها نحو بلاد العرب..والمسلمين..إن كان ذلك عبر الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني، والإذعان لجوهر المشروع الصهيوني، وسحق حقوق ونضالات الشعب الفلسطيني.. ثم في غزو أفغانستان والعراق.. وتدمير الدولة العراقية، وتسليم العراق علانية للنفوذ الإيراني، والمليشيات الشيعية..الأمر الذي خصّب الحاضنة الشعبية لتقوية الاتجاهات المتطرفة، والمذهبية، وخلق اسباباً جديدة لتوجه عديد الشباب نحوها، والانخراط فيها.
ـ ولئن كانت الثورات العربية في جوهرها تعبير حاد على انفجار الخزين ضد الشمولية، والتفرّد، والظلم، والخنوع للخارج، وتهشيم اي مشروع للتوحيد والنهوض، وحتى للبناء الذاتي القطري..فإنها وفّرت الأجواء لدخول كافة الاتجاهات على خطها.. ضمن ردود الفعل العنيفة التي تساوقت مع مساراتها، وحجم العنف الذي يمارس ضدها .
ـ سيقال الكثير هنا ـ والمعلومات عديدة ويعرفها الجميع ـ عن الفعل القصدي، التآمري للنظام السوري، والعراقي، وحتى الإيراني، وغيرهم في إطلاق سراح مئات المتشددين، وفي وجود عديد المخترقين، ومحاولات توجيه الصراع نحو الجانب الديني والمذهبي، ومصلحة هؤلاء جميعهم في تشويه الثورة، وحرفها عن أهدافها ومسارها الطبيعي..
ـ وكذا توفر معلومات غزيرة عن دور الجهات الإقليمية والخارجية في دعم الاتجاهات الإسلاموية بالمال والسلاح، وفي أثر التنافس والخلافات في إيجاد الكثير من الكتائب والقوى العسكرية المتنازعة، والتابعة للجهة الممولة.. وشيوع حالات الاتجّار، والفساد، والتقاتل، والصراع.. وبما مهّد الأرض لانتشار القوى الإسلاموية على حساب الآخرين والمعتدلين.. لدرجة الطغيان.. وعبرها نمو الاتجاه المتطرف جداً، والمتمثل في الدولة الإسلامية، وفي جبهة النصرة التي أثارت المزيد من الخلافات في الموقف منها بين قوى المعارضة.. وصولاً غلى ما يشبه الإجماع عن تصنيفها ضمن القوى المتطرفة، وكأنها الوجه الآخر لداعش ..
*****
ـ هذه العوامل، والأجواء، والأفعال فتحت الأبواب جميعها للقوى الأكثر تنظيماً، وامتلاكاً لمشاريع أنضج، وأكثر تجربة وثباتاً.. وكانت القاعدة هي الأم، والأهم الذي يملك الخبرة، والتنظيم الدولي، والقدرة المالية والقتالية.. فبرزت وهي تزيح من طريقها : بالتصفية والذبح جميع من يقف في وجهها لفرض سيادتها على الأرض بتلك الطريقة الرهيبة من القتل، والتدمير.. والتصفيات إلى أن أصبحت القوة الأكبر التي يهابها الجميع، ويهرب من أمامها لمجرد ذكر اسمها، أو اقترابها، ناهيك عن الجبن، والخيانات، والتواطؤات في الكتائب المسلحة التي كانت ضدها، أو تعلن ولاءها للجيش الحر ـ والحديث طويل، وفيه كثير الوقائع، والمبالغ، والاشتباه ـ بينما كانت مواقف المجتمع الدولي المتملصة، وغير الجادة في نصرة الشعب السوري، وتقديم العون الضروري تصبّ في طاحونة التطرف، وتغذيها بالكثير كل يوم .
ـ هنا يتضافر عاملان رئيسان، مهمّان :
عامل يرتبط بالممارسات الطائفية من قبل المليشيات الشيعية الرسمية، ومن خلفها إيران بمشروعها القومي الراكب على رايات دينية ـ مذهبية، والمستندة إلى تاريخ يمتدّ على مدار سنوات غزو العراق وتدمير الدولة العراقية وفرض المحاصصات الطائفية والتقسيم كأمر واقع، وما يشبه التصفية المنظمة للسنة العرب في بغداد، وحزام بغداد، وديالى وعديد المناطق، وشعور هؤلاء بانهم الهدف المقدّم للذبح، والإبادة، وتراكب هذا الفعل في خط تصاعدي مع ما يجري في سورية من فعل طائفي مبرمج، ثم الدخول العلني لحزب الله، وكثير غيره من المليشيات الطائفية، والشيعة في قتال الشعب السوري.. وصولاً إلى مشاركة إيران المباشرة وقيادتها للعمليات القتالية، والإبادية...
هذه الحرب السافرة بكل راياتها المذهبية، وفحواها، وزخمها، وترسانتها المدروسة.. نجحت ـ إلى مسافات مهمة ـ في نقل الصراع من كونه اجتماعي ـ سياسي ضد نظام فئوي استبدادي إلى مذهبي، وبدّلت مضامينه من المطالبة بالحرية والكرامة.. إلى رفع الرايات لدولة وإمارة إسلامية...
ـ والعامل الثاني يرتبط بمواقف الإدارة الأمريكية على الخصوص، والمجتمع الدولي على العموم.. عبر سلسلة طويلة من مواقف الميوعة، والتملّص، والصمت، والتواطؤ، وعدم وجود قرار واضح، والامتناع عن دعم الثورة بالمطلوب كي تحسم معركتها، أو فرض حل سياسي يستجيب لأهداف الشعب السوري وتضحياته الغزيرة.. وشعور الأغلبية العظمى بأن تدمير البلد، وإفناء شعبه.. وتهجيره، وترحيله.. وتفريغه، وإبقاء نزيفه مستمراً، والدفع بكل الوسائل لتعميم الحرب المذهبية الرهيبة.. أحد الأهداف الرئيسة للصهيونية التي تجد ترجماتها في مواقف الإدارة الأمريكية من حيث النتيجة والمصبّات ..ثم تركيز الحرب على ما يعرف بالإرهاب.. وإنشاء حلف دولي له، وعمليات القصف التي تطال عديد المدنيين، واستثناء النظام من المعاقبة، ومن توجيه الضربات له..
ـ هذه الوضعية تشكل الحاضنة المساعدة لنمو التشدد، وإقبال كثير الشباب الذي لم يكن مقتنعاً يوماً بالفكر الداعشي للانخراط فيها، حتى ليقال أن كثيرين من ضباط الجيش العراقي السابق، ومن اتجاهات وطنية وقومية التحقت بداعش إما طلباً للحماية من موت يحمله حقد أسود، أو كردّ فعل على الجرائم التي ترتكب ضد السنة العرب، أو ثأراً لما حلّ بكثير العوائل..أو اصطفافاً مذهبياً لا يجد اقنيته إلا عبر داعش,,
ـ لذلك فمواجهة التشدد بعيداً عن وعي أسبابه.. أو من خلال" الحلول" الأمريكية الحربجية لن تكون فاعلة ومجدية ما لم تنطلق من مكوّناته، وعوامل انتشاره..