وما زال القومجيون غاطسين في قيعان الاسترجاع

عقاب يحيى

ما كل ما يتمنى المرؤ يدركه        تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

القومجيون العرب ما زالوا يردحون نفس خطاب الأربعينات والخمسينات، بل يضيفون عليه أبعاداً ثلاثية تشخيصية يعتبرونها تطوراً اكتشافيا خارقا لهم : تلاوين المؤامرة وفصولها الغرائبية، وموقع الاستبداد من الحلم القومي الطويل، المستمر، ودور المجرم بشار في ريادة الحلم الذي كان ....

ـ نعم كان حلماً كبيراً، مشروعاً ذلك الذي نهض في نهاية الأربعينات، وارتقى إلى مسافة الرؤية في بداية الخمسينات، وعرف أول تجسيداته، وإن بشكل مبتور ومستعجل في الوحدة السورية المصرية.. ثم غفا، فنام طويلاً، فاستنقع، فنحر على أيدي حملته، والمدعين بأنهم أصحاب تحقيقه، الذين كشّروا عن أنياب طائفية، وحاراتية، ومافيوزية، وأمنية، واجتثاثية حتى النخاع.. وقتلوا الحلم والمشروع، وروح الشعب، وداسوا جميع قضايا الأمة المقدسة وأوصلوها إلى قاع القاع، وكانت فلسطين الشاهد والضحية، ومثلها ما حدث للعراق، ولمجمل الشعارات الكبيرة المرفوعة .

ـ وانطلاقاً من ثابت ـ لا يتغير ـ بات الكلام عن المؤامرة الأبدية وفصولها متراساً ورأس حربة، وسبيلاً لتغطية العورات الداخلية بغرابيل التكرار، وثقوب الواقع الذي يفقأ العيون .

ـ نعم تآمروا.. وكانت اتفاقية "سايكس ـ بيكو" تاج التقطيع وخيانة العهود، لكن التجزئة لم تكن من فعلهم فقط، وعدم القدرة على وأدها، او تجاوزها لم تجيء من المتآمر بقدر ما كانت نتاج فعل تلك القوى التي وصلت السلطة باسم الشعارات والمبادئ والوحدة وفلسطين.. حين أبرزت قطريتها المكينة تحت دعوات الاستبدال، وحين غاصت في الأحادية، والانشقاقات والتصفيات، وصولاً غلى الارتداد عن أبسط الأماني، وخيانة الأمانة فالتحول إلى غول أمني ـ فئوي ـ عنفي يأكل الأخضر والأماني في الشعب والتاريخ والمستقبل ..

ـ نظام الطاغية الأكبر الذي أقامه على جماجم بقايا المشروع القومي النهضوي.. لم يتورع عن ارتكاب جميع الموبقات ضد القضايا القومية، ويكفي أن نذكر الدخول إلى لبنان، وموقفه من الحرب العراقية ـ الإيرانية طوال سنواتها الثمانية والنصف، ودوره أثناء العدوان الثلاثيني على العراق وقواته الموجودة في حفر الباطن، والمقايضة بفلسطين وغيرها ثمناً للتحكم والديمومة.. ومع ذلك ظلت الأبواق تبوّق وكأن شيئاً لم يحصل، وظلت المعزوفات تردد ألحانها القديمة المشروخة، بل، ومع فرض التوريث العجيب، المشوّه، والملغوم ارتفع صوت العزف درجة الاحتضان لكل شعارات الدجل، ودعوات الإصلاح الكاذبة، والتمريرية ..

ـ وحين قامت ثورة الحرية والكرامة.. بعد امتلاء الكأس مرات كثيرات.. حدث ما يشبه الدوخان لهؤلاء.. تمتموا في البداية بعبارات حق الشعوب في الحرية، والإصلاح، وبعضهم كتب بخجل الحبر بعض المقالات عن" واجب الرئيس الإصلاحي بالاستجابة لمطالب شعبه"، وهناك من " تجرّأ" ووضع خارطة طريق للإصلاح والمطلوب.. ثم استفاق العقل الغاطس في الماضوية وقد اكتشف" المؤامرة" التي تحاك ضد سورية من شعبها فعاد هؤلاء إلى مألوفهم : أبواقاً، ومرددين وردادين، ولأنهم اعتادوا" الحج" إلى دمشق أكثروا من زياراتهم لنيل بركة السلطان وتقديم واجبهم الاستعراضي، وبعضهم كان يحمل معه زوادته القديمة جدا ليفتحها وينثر منها بعض الخطابات وقصائد المديح التي تتطاير في القاعات الفسيحة فلا يبقى منها حتى الصدى اللحظي، ثم يعودون محملين بالهدايا والوعود بالنصر الأكبر، وبقبر مؤامرة الشعب على الطغمة ..

ـ يغمضون أعينهم عن جرائم الإبادة والتدمير . عن البنية الفئوية المريضة التي تجيش التطييف لاستخدامه، وتحفر خنادق عمودية عميقة بين الشعب بأمل أن يطاوعها فيحترب، فيقهقه مجون الغل كعادته، وقد اكتشف، وعمم ما قاله في بداية الثورة : فتنة ومؤامرة..فيرددها هؤلاء في مياههم الراكدة، ويسارعون الخطا لحفل التصريحات التي تعيدهم إلى " المربع الأول" وكأنهم في زمان غير الزمان.. وكأنّ الأعوام الطوال أغمضت العقول والعيون على الواقع فلم يعودوا يروا سوى القابع في قيعان الذاكرة المحكية، والروايات التي ألفوا سردها.. يوم كانوا.. وكنا.. ويوم.. تآمروا وقاومنا.. ويوم جاء الوريث محملاً بوعود التهشيم فصفقوا طويلاً، وبعضهم بلع ريقه الإعجابي، ثم نام دهراً في قيعان الاسترجاع .

ـ نعم هناك مصالح كبرى لدول كبرى، وهناك صهيونية وإسرائيل.. والطفل يعرف ذلك من كثرة الترداد.. لكن : هناك ثورة حرية وكرامة . ثورة شعب مزق الخوف وهزم الخضوع لانتزاع الحرية. وهناك عصر جديد بكل معطياته ومفاعلاته، وهناك تطور كبير في مفاهيم الأمة والقومية والعروبة والوحدة والانتماء والمساواة والهوية..ومفرزات في الواقع أكبر من كل الأحلام الراقدة، المفوتة .. وهناك أمة ضجّت من الاستبداد والأحادية، فأعلن شبابها الثورة..قرعوا رؤوسنا : أن استفيقوا، وحقنوا دماءنا بنسغهم فأحيونا.. إلا هم هؤلاء الذين أدمنوا الغطس في القيعان ..