الثورة السورية بين الشمس والقمر وأحلام المجوس
الثورة السورية
بين الشمس والقمر وأحلام المجوس
ربيع عرابي
لن نتكلم في هذه المقالة عن الغيب والتنجيم وحركة الأفلاك والأجرام السماوية، وتأثيرها في مجريات الثورة السورية وحاضرها ومستقبلها، ولن نعير إنتباها لكهنة السياسة وسحرتها ممن يخرجون الثعابين المزورة من أكمامهم ليخيفوا بها قطعان المتفرجين المبهورين، ويحولون المناديل البيضاء المبللة بدموع الضحايا من الأطفال والأرامل إلى حمامات سلام، ويصنعون من حطام الناس وممتلكاتهم سبائك ذهبية وودائع مصرفية، ويبيعون في أسواق عكاظهم الخطب العصماء والقوافي المعلقة.
إن من أصعب المسائل والقضايا التي تواجه الثورة السورية اليوم، سواء مع ذاتها ومكوناتها الداخلية، أو في علاقاتها مع الآخرين من أصدقائها وأعدائها، هي تحرير وتوضيح وتبيان المنهج الرباني الذي تسير عليه، لتقطع بذلك البيان الواضح الجلي، كل شك أو غموض أو جهل، أو محاولة للتعامي أو التغابي، تتصنعه هذه الجهة أو تلك.
إن قضية الثورة السورية الرئيسة والأولى والأهم، هي الإصرار والتأكيد على تقديم منهجها نقيا واضحا بعيدا عن التشويش والتغبيش، خاليا من التضليل والتزييف، لتتضح الرؤية لدى بعض مكوناتها المترددة المتحيرة، ولدى الآخرين الذين يرغبون بالتعامل معها اليوم أو في قادم الأيام على بصيرة وهدى ونور.
إن مشكلة عدم تقبل وفهم منهج الثورة السورية ليست غريبة ولا جديدة بقدر ما هي صادمة، فمنهج الثورة السورية ليس بدعا في تاريخ الأمة وحياتها، إلا أن استيلاء الباطل على مقدرات الأمة ردحا من الزمن جعل هذا المنهج غريبا عجيبا في نظر الكثيرين، وهي نفس المشكلة التي واجهت قريشا واليهود وكسرى وقيصر في صدر الإسلام.
وعرضت لنا السيرة نموذجا معبرا عن التخبط والتيه الذي يعانيه هؤلاء في فهم المنهج الذي تحتذيه الثورة السورية وفي أسلوب التعامل معه، فقد قال عتبة بن ربيعة يوما وهو جالس في نادي قريش الذي يضم سادتها وكبراءها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا ؟ وكان ذلك بعد إسلام حمزة، وازدياد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِطَةِ في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعِبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد، أسمع، قال : يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه.
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم، قال : فاسمع مني، قال : أفعل، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة فصلت إلى قوله تعالى : "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" فقام عتبة مذعورا ووضع يده على فم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول : أنشدك الله والرحم، مخافة أن يقع النذير.
من هنا لم يكن جديدا ولا عجيبا تصنيفُ العالَمِ كلِّه لمجاهدي وثوار بلاد الشام، على أنهم مجموعة من الحالمين أو الأغبياء أو صغار العقول أو المختلين عقليا أو المرضى النفسيين، الذين يحتاجون إلى الرعاية والعلاج إما في فنادق الثورة ومؤتمراتها، أو في سجونها ومعتقلاتها، حتى يثوبوا إلى رشدهم، وتتفتح مداركهم، ويتعايشوا مع الوسط الإقليمي والدولي المحيط بهم، فتشفى أرواحهم من المثل والقيم والمشاعر، وتتخلص عقولهم من النظريات والأوهام والمبادئ.
فمشكلة المجاهدين الثائرين في نظر هؤلاء، لا تتعدى كونها انحرافا عقليا ونفسيا، وفورة عاطفية، سرعان ما يتم إخمادها وامتصاص موجة الغضب والحماس لديها، ومعالجة بعض آثارها، لتعود الأمور كسابق عهدها من قبل، مع بعض التعديل والتحوير والتغيير.
ولم يكن جديدا ولا عجيبا كذلك، اعتبارُ العالَمِ كلِّه جهادَ أبناء الشام، صراعا على المكاسب والأرزاق، ومحاولة لتغيير المعادلات الإقتصادية والسيطرة على رؤوس الأموال، وتحقيق مكاسب في عالم المال والأعمال، والإستيلاء على أكبر قدر ممكن من الكعكة الإقتصادية، وهي جميعها تعبيرات ومصطلحات تنضح بها وسائل إعلامهم ليل نهار، وتكشفها خططهم ومشاريعهم المستقبلية.
فتبنى تبعا لذلك علاقتهم مع الثورة ورجالها، على أساس إعادة توزيع الحصص، وتوازع مراكز النفوذ، وتقاسم الثروات ومصادرها، فالثورة بالنسبة لهؤلاء، ما هي سوى مشروع كبير ذو مراحل متتابعة تبدأ بالهدم والتدمير، وتمر بالعقود والمشاريع، لتنتهي بإعادة الإعمار والإستثمار وما يستلزم ذلك ويستوجبه من استحمار.
والثورة بنظر هؤلاء كلهم، ماهي إلا أموال وسبائك ذهبية وبراميل نفط تهرب وتخفى عن الأعين إلى حين، ثم تغير أسماؤها وعناوينها، ليتم توزيعها على أمراء الحرب والسياسة الجدد، ويستمر استنزاف طاقات الأمة، ونهب ثرواتها، والضحك على ذقون أبنائها.
ولم يكن جديدا ولا عجيبا أيضا، اعتبارُ العالَمِ كلِّه جهادَ أبناء الشام، صراعا على السلطة والنفوذ، سواء على المستوى الفردي أو الطائفي، فالثورة بالنسبة لهم صراع تحاول كل طائفة أو فئة من فئات المجتمع ومكوناته جر البساط من تحت أقدام منافسيها، وتبادل المواقع بين هذه الطائفة وتلك، ليصبح سادةُ الأمس عبيدَ المستقبل، وعبيدُ الأمس سادةَ المستقبل.
والثورة بالنسبة لهؤلاء ماهي إلا أداة لرفع ىسقف المطالب لفئة ما على حساب الباقين، وتحصيل مكاسب سياسية وسيادية عبر رفع مجموعات وخفض أخرى، وهو ما يمكن التعامل معه بسياسة التوازنات والمفاوضات والمبعوثين والوسطاء والمؤتمرات والضمانات، فما الثورة في حقيقة الأمر إلا أزمة تقاسم نفوذ سياسي، أعطيت اسم الثورة زينة لها وغطاء وتدليسا على الناس والأمة.
ورب سائل يسأل، وحُقَّ له أن يسأل، لِمَ لَمْ يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أحد هذه العروض المغرية، فيجعلها مطية لتحقيق أهدافه وغاياته النبيلة، ويسخرها لإنجاح خططه وآماله البعيدة.
لِمَ لَمْ يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم - وحاشاه - أن يكون فتى قريش المدلل، وأديبها الحالم المفوَّه، الذي تفرش له البسط الحمر، ويدعى إلى الولائم والحفلات، وتقام على شرفه الموائد والأعياد، ويزوج من جميلة من جميلات قريش، ويُحَوِّلَ أحلامَه وأوهامه إلى قصائد مذهبة تُعلق على جدران الكعبة، وينال بسببها الإطراء والتكريم والتبجيل، كمن سبقه وعاصره من الشعراء والحالمين، وحين يستولي على عواطف الناس ويأسر ألبابهم وأرواحهم بذوقه ورقته وأناقته ولباقته ومكانته وعطره، يمكن له أن يجرهم إلى بعض ما يصبو إليه من أفكار ومبادئ، بعد أن أصبح قدوتهم ورمزهم ومثالهم الحالم.
لِمَ لَمْ يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم - وحاشاه - أن يكون ثري قريش والعرب، فيستحوذ على المال والتجارة، وهي ركيزة قريش وعماد وجودها، فتجتمع في يده تبعا لذلك زعامة بني هاشم الدينية وزمام المال والإقتصاد والثروة.
وكم من السهل بعد ذلك أن يخدر عقول الناس ببيت إبراهيم العتيق، وعمق الأصالة الدينية لقريش، وحمايتها وخدمتها للكعبة المشرفة، ويعمد أثناء ذلك إلى شراء الذمم والولاءات القبلية، وإسكات أفواه المخالفين والمعارضين بالدنانير الذهبية الفارسية منها والرومية، ولربما أعانه هؤلاء وأولئك على هذا الأمر، حتى إذا ما استتب له الأمر، وحاز في يده قوت الناس، وتحكم في أرزاقهم كان من السهل الهين عليه أن يفرض من المبادئ والعقائد والأفكار ما يشاء، وله في ذلك عبرة فيمن سبقه من ممالك تجارية قامت في تدمر والبتراء واليمن السعيد.
لِمَ رفض الرسول صلى الله عليه وسلم - وحاشاه - أن يتوج ملكا على مكة، ويعلن زعيما على قريش فيصبح الآمر الناهي فيها، ليبدأ من موقعه المسيطر ذاك، بتأسيس فرق الشبيحة والبلطجية من الحثالة الذين تمردوا على قبائلهم وعشائرهم، فلا خلق لهم ولا دين ولا ولاء إلا لمن يطعمهم ويسقيهم، وماكان أكثرهم في ذلك العصر، فقد كانوا يدعون بالصعاليك، ومنهم عروة بن الورد الشاعر.
وبعد أن تُنشأ هذه العصابات التي يمكن أن يُعطى لها أسماء شاعرية رمزية، مراعاة لعواطف العرب الجياشة وأحاسيسهم الدينية الرقيقة، فيطلق عليها مثلا : فلقة القمر ونور الهدى وحزب اللات والعزى، ومن خلالها وبها وبخناجرها، تُفرض الأتاوات على القبائل والعشائر، مقابل حماية دمائها وأموالها وأعراضها، وتُصنف القبائل والعشائر إلى موالية ومارقة، بيضاء وسوداء، وتُنسج حول ذلك الأساطير والخرافات، وتُبنى المقامات والمزارات والسراديب، ويُزَوَّرُ الأبطال والشهداء والإنتصارات والبطولات والأمجاد.
وهكذا تنشأ بقوة الأمر الواقع دولة جديدة خاضعة لهذه العصابات المسلحة، تنفذ ما تمليه عليها حرابها وخناجرها دون إنكار أو إعتراض، ويصبح من السهل بعد ذلك فرض مايُراد من عقائد وأفكار ومذاهب، سواء كانت عبادة الله الواحد الأحد، أوعبادة البقر، أو عبادة الشمس والقمر، وتغير تبعا لذلك أسماء هذه العصابات لتتفق مع الوضع المستحدث الجديد، لتصبح فلقة القمر فيلق بدر، ونور الهدى جيش المهدي، ويصبح حزب اللات والعزى حزب الله والأئمة، ويتحول فيلق المتعة إلى فيلق القدس.
إن سلوك أياً من هذه الطرق، كان سيؤدي إلى بناء نقطة استناد مركزية للدولة، لتشكل هي الولاية الأولى والنواة لما بعدها، وينضاف إليها مع الأيام ولايات أخرى متتابعة، فتصبح يثرب بعد ذلك الولاية الثانية، واليمن الثالثة، والبحرين الرابعة، والشام الخامسة، والعراق السادسة، وهكذا دواليك، وربما أدى ذلك في النهاية إلى زوال كسرى فارس وقيصر الروم، ليحل مكانهما إمبراطور قريش المعمم، الذي يجمع في يديه المال والجاه والجيش وسلطة البيت العتيق.
إنها خطط لا تخيب أبدا، ولطالما اتبعها القادة الملهمون منذ أقدم العصور، منذ عهد سرجون الأول الأكادي قبل خمسة آلاف سنة، إلى يومنا هذا الذي يتحكم فيه القياصرة والأكاسرة الجدد، ومن ورائهم يهود هذا العصر بمصائر الأمم والشعوب، عبر المال والإقتصاد والإعلام والمدافع والطائرات، رافعين راية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولعل قريشا على كفرها وضلالها ومعاندتها للحق، كانت أصدق قلبا ولسانا من أعراب هذه الأيام ورومها ومجوسها، فحين قال أبو طالب للرسول صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم، كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فقال أبو جهل : نعم وأبيك، وعشر كلمات، قال : تقولون : لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم ثم قالوا : أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا، إن أمرك لعجب.
لقد رفضت قريش الأمر صادقة مع نفسها، لأنها علمت أن القضية ليست شعارا يرفع، ولا مناورة سياسية عابرة، أوخطابا حماسيا تعبويا، بل هو تغيير جذري وحاسم في المنهج، سيؤدي بلا شك إلى قلب المفاهيم والموازين وتصحيح المعادلات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، وإعادة بناء البنية الأساسية للمجتمع على أسس جديدة ومفاهيم جديدة، وهو مالم يكن ليقبل به كبراء قريش آنذاك وأسيادهم في فارس والروم ويهود على حد سواء.
إن التغيير المطلوب والمرغوب والمقبول من هؤلاء جميعا، إنما هو دين تفاوضي يسمح بتبادل المصالح والمنافع بين أكابر المجرمين على حساب الضعفاء والبسطاء من الناس، هو الدين الذي يقررُ فيه قيصرُ عددَ الآلهة ونوعَها وجنسَها ولباسَها وتاريخَها، ويعيد صياغة الآيات الإلهية وفق مصالح الدولة العليا، وينسج لها تاريخا وحكايات وروايات ماأنزل الله بها من سلطان، هو الدين الذي يؤلفه ويزور تَوراتَه عزرا الوزير الفارسي فيملؤه بالأساطير والسحر والكهانة البابلية، ممزوجا بكم هائل من الفسق والفجور والقذارة الأخلاقية، فيترقى مكافاة لجهوده في التزوير والتحريف والتخربف ليصبح عزيرا ابن الله.
إنه الدين الذي تتكاثر فيه المقامات والمزارات والسراديب، لنفس الشخص في كل البلاد، وهو الدين الذي يعبد فيه إساف ونائلة تكريما لهما على فجورهما في وسط البيت العتيق، وهو الدين الذي يسرق به ومن خلاله عرق الناس وجهدهم وكرامتهم ومالهم وعرضهم وكل ما يملكون تحت عناوين الخمس والمتعة والمقاومة والممانعة وولاية الفقيه وما إلى ذلك، إنه الدين والمنهج الكسروي القيصري اليهودي المجوسي، ونسخه المعاصرة الأمريكية والروسية والمجوسية والصهيونية والأعرابية.
إن الخلاف بين منهج النبوة وحملة رايته في بلاد الشام وبين هؤلاء هو خلاف في المنطلق والطريق والوسيلة والأسلوب والهدف، وهذا ما فهمته قريش وأعراب الجاهلية واستوعبه كسرى وقيصر في العصور الخالية، وهو ما لم يفهمه ويستوعبه كسرى وقيصر هذا العصر وأذيالهم من أعراب هذا الزمان.
إن ما لم يستوعبه حتى الآن قياصرة وأكاسرة ومجوس ويهود هذا العصر أن الثورة السورية هي خريجة مدرسة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وحفيدهما محمد صلى الله عليه وسلم، فهي تسير واثقة على خطا سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي ومصعب بن عمير القرشي.
إنها ثورة الفقراء والمساكين والموظفين وضعاف النفوس والمستعبدين ورجال الأعمال الصادقين المخلصين والمجاهدين والعابرين، فالثورة السورية على خطى أجدادها الصحابة الكرام، لم تات لنصرة فئة على فئة أو طائفة على طائفة، أو شعب على شعب، أو بلد على بلد، بل جاءت نصرة للمظلومين مهما كانوا وأينما كانوا على الظالمين من أي عرق ولون ودين كانوا.
وإن المكانة والمنزلة في الدنيا، إنما يقررها مدى الإلتزام بمصالح البلاد والعباد والتي هي غاية الإستخلاف في الأرض، فقد تكون الولاية الأولى من نصيب مكة أو المدينة أو دمشق أو بغداد أو الفسطاط أو قرطبة أو استنبول، وقد يحمل الأمانة الأمويون أو العباسيون أو العثمانيون، وقد يقود الأمة خالد أو سعد أو عمرو القرشيون، أو طارق البربري، أو صلاح الدين الكردي، أو قطز الخوارزمي، أو محمد الفاتح التركي، وقد يكون من ورثة النبي صلى الله عليه وسلم الزهري القرشي، والبخاري وليد بخارى، والشاطبي والقرطبي من شاطبة وقرطبة الأندلس، وقد يكون من علماء لغتها سيبويه الفارسي.
فجميع بلدان الأمة هي الولاية الأولى، وجميع المدن هي عواصمها، وجميع قادتها وعلمائها و مفكريها هم رموزها، فلا مكان في ظل منهج النبوة لدول متقدمة وأخرى نامية وثالثة متخلفة.
إن منهج النبوة ومن سار على دربه وحمل رايته فيما بعد، هو الذي حطم الحواجز والحدود والقيود، من أواسط صين اليوم شرقا وحتى شمال باريس غربا، فكان للإنسان في جبال التبت، وفي جبال الألب، وفي صحراء العرب، وحدائق الشام والأندلس، وفي سهوب آسيا وأدغال أفريقيا، نفس الحقوق والواجبات، ونفس المكانة والمنزلة والتصنيف، وأطاعت الأمة ونصرت وحاربت تحت لواء محمد بن القاسم الثقفي، كطاعتها ومناصرتها ليوسف بن تاشفين الصنهاجي الحميري، ومحمود قطز الأوزبكي، ومحمد الفاتح التركي.
إن منهج النبوة ومن سار على دربه، هو الذي مزق ملك كسرى، فانهارت بتمزقه دويلات المناذرة والبحرين واليمن وغيرها، لتصبح كلها ولايات أولى في دولة النبوة، بعد أن كانت أصفارا على الشمال في مملكة فارس المجوسية، وهو الذي أسقط تاج قيصر فانهارت دويلات الغساسنة والأقباط وقرطاجة وقادش وغيرها، لتستعيد منزلتها في تاريخ البشرية بعد أن حولها الرومان إلى ماض غابر منسي.
هذا هو الفرق بين منهج الشيطان وآياته المجوسية اليهودية، ومنهج الرحمن وأوليائه والمجاهدين في سبيله وتحت لواء نبيه وكتابه، فمنهج الشيطان وآياته وأحزابه مهما اختلفت الأسماء واللافتات والشعارات، هو إخضاع البلاد والعباد، وتحويلهم إلى إمعات تسبح بحمد قادتها، وتسجد لصورهم، وتطوف حول مقاماتهم ومزاراتهم وسراديبهم المكذوبة.
أما منهج الحق، منهج الثورة السورية وريثة النبوة وحاملة رايتها، فهو منهج جهاد الباطل وإعلاء الحق والعدل والخير، وهو منهج الرباط ومدافعة الشيطان وأوليائه، وهو المنهج الذي جعل الله عز وجل موطنه وأرضه وحصنه الحصين في بلاد الشام إلى قيام الساعة، وجعل حملته والسائرين على دربه هم المكلفين بتحرير طهران والقدس وسائر البلاد من رجس اليهود والمجوس والأكاسرة والقياصرة الجدد.
لقد عرضت أمانة المنهج هذه على السموات والأرض والجبال، عرضت على الشمس والقمر والنجوم والكواكب والبحار والأنهار، فأبين أن يحملنها بل وأشفقن من حملها، وحملها الإنسان ففرط فيها وأضاعها بجهله وغروره، فظلم نفسه وظلم من حوله، ففسد وأفسد، واستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وقتل وأسر وشرد وعذب وهجَّر، إلى أن من الله على البشرية بمحمد وأمته، لتحمل الراية جيلا بعد جيل حتى تسلمتها الطائفة المنصورة اليوم في بلاد الشام.
لقد طالب الرسول صلى الله عليه وسلم قريشا بكلمة واحدة، فوافق أبو جهل على عشر، ثم نكص على عقبيه خاسئا حسيرا، رافضا منهج الحق مصرا على الباطل، ليكون جواب الرسول صلى الله عليه وسلم قاطعا واضحا جليا ناصعا، في تحمل الأمانة وأداء الواجب : "يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته".
لقد حمل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمانة التي أبى الكون حملها، وأشفقت الشمس والقمر من عبئها، وحمل صلى الله عليه وسلم مسؤوليتها وتبعاتها، فأدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده، فدانت العرب والعجم لراية لا إله إلا الله، لا بكهانة ولا بسحر ولابسلطة مال ولا بسطوة ملك.
ومن هنا فإن مخاوف بعض آيات الشيطان من تهاوي عواصم ضلالهم وفسادهم وسحرهم وكهنوتهم، نتيجة لإنتصار الثورة السورية هي مخاوف في محلها، وحق لهم أن يخافوا وترتعد فرائصهم، طالما خرجت سيوف الحق من أغمادها، ونزلت رايات العزة إلى ساحاتها، فهي السيوف التي حررت من قبل العراق والري (طهران) والشام ومصر وجالت خيولها في باريس وحول روما وطهرت القسطنطينية، ورفعت راياتها في جبال سويسرا وحول فيينا وعلى شواطئ الراين.
وننصح الذين لا زالوا يصدقون وساوس شياطينهم وآياته المجوسية، حالمين بأن تصبح الشام ولاية من ولايات حقدهم الدفين سواء كانت الولاية الأولى أو الأخيرة أو الخامسة والثلاثين، ننصحهم نصيحة مشفق صادق، أن يفيقوا من أحلامهم الكاذبة، ووساوسهم الواهمة، قبل أن يفوت الأوان وتحل ساعة العقاب، ولات ساعة مندم.
فدماء الملايين من شهداء فارس، التي سفكها الصفويون القدامى في حملاتهم الدموية لنشر نسختهم المجوسية من التشيع السبئي اليهودي بحد السيف، والتي لازال الصفويون الجدد يتابعونها حتى اليوم، لازالت هذه الدماء الزكية، تستصرخ المجاهدين في بلاد الشام طالبة نصرتهم وعونهم ومددهم، والأخذ على يد ظالميهم.
وقد كتب الله عز وجل أن تكون الشام حاملة راية البيت الحرام والروضة الشريفة والمسجد الأقصى، وأن تكون وريثة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين، وأن تكون مأوى وموطن وأرض ورباط الطائفة الغالبة الظاهرة المنصورة، وأن تكون مقبرة اليهود والمجوس والروم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإن على جميع أكاسرة وقياصرة ومجوس ويهود هذا العصر، وأذنابهم من المستعربين المستغربين، أن يتأكدوا أن الثورة السورية ليست حلما من الأحلام، ولا كابوسا مزعجا ينتهي باستيقاظ صاحبه، بل هي بشارة محمد صلى الله عليه وسلم ولدت في الشام، وستحيا في الشام، وستكبر في الشام، ليعم خيرها عواصم الدنيا شرقها وغربها، رغم أنف آيات المجوس وحاخامات يهود، ومن ساندهم من شياطين الإنس والجن.
والله غالب على أمره.