كلمة حق في الشيخ سعيد البوطي
إن وجدت
طريف يوسف آغا
ما أن أذيع خبر مقتل الشيخ (سعيد البوطي) في جامع الايمان بدمشق أول أمس الخميس 21 آذار 2013، والذي صادف (عيد الأم) في سورية وكذلك (عيد النيروز) عند الاخوة الأكراد، ماأن أذيع الخبر حتى تلاحقت المقالات والتعليقات والآراء حوله بين المعزية والمهللة وتلك الوسطية التي تنتقده سياسياً وتمدحه دينياً. وكوني سبق وأنكرت على الرجل تأييده للنظام الأسدي ومعاداته للثورة السورية المباركة، كما وكتبت فيه العام الماضي قصيدة بعنوان (رسالة تذكير)، فقد رأيت أن أضيف مقالي هذا للبقية.
لن أتناول الرجل هنا من خلال فكره أو كتبه التي منح عليها لقب (عالم)، فلا دراستي الجامعية ولامستوى علمي في الدين يسمحان لي بذلك. ولكني سأتناوله من خلال مواقفه السياسية المعلنة والدور الذي لعبه في الماضي والحاضر ومدى تأثيره على المجتمع السوري، ولابد لأقوم بذلك من مقدمة تاريخية قصيرة. حين وصل (الأسد الاب) إلى السلطة عام 1970 بانقلابه العسكري المسمى (الحركة التصحيحية)، كان يحمل معه مشروعاً بعنوان (ديكتاتور إلى الأبد). وبما أن مشروعاً كهذا يتطلب إخضاع الشعب السوري وتدجينه وأيضاً توجيهه، فقد رأى أن يقوم بذلك بالشكل التالي:
1- استعمال الشريحة المتخلفة والفقيرة من طائفته العلوية، وهي الشريحة الأوسع من الطائفة، في الجيش والأمن كسيف مجرد على رقاب الشعب لاخضاعه وتدجينه معاً. ولاشك أن اختياره كان موفقاً لأن تلك الشريحة من الطائفة (الكريمة) لم يكن بينها وبين الشعب السوري حباً مفقوداً عبر التاريخ. قسماً محدوداً فقط من هؤلاء أثروا ولكن أبقوا على تخلفهم، والقسم الأكبر بقي متخلفاً وفقيراً.
2- تقريب بعض رجال الدين السنة من ذوي الكلام المسموع عند الناس بدعمهم وإظهارهم إعلامياً وبكافة الوسائل صباح مساء، وكذلك بظهور الرئيس والمسؤولين معهم ممسكين بأيد بعضهم في المناسبات والأعياد. كل ذلك لاستعمالهم لضبط الناس وتوجيههم في الاتجاه المطلوب. ولاأجد مثالاً هنا أفضل من (كفتارو) في الماضي و(البوطي) في الحاضر.
وبتوزيعه الأدوار بالشكل السابق، كان (الأسد الأب) قد حول سورية إلى مزرعة بكل معنى الكلمة: حدودها هي حدود سورية مع الدول المجاورة، وهو وعائلته حصراً أصحابها، والشعب السوري بكل مكوناته هم قطعان الغنم حسب رؤيته. أما الفئة الثانية من رجال الدين فهم بمثابة (الغنم) من قادة تلك القطعان ممن يضبطون ويوجهون حركة البقية، ومن يخرج عن المسار المرسوم، تأتيه (كلاب الحراسة) من الفئة الأولى التي تنحصر مهمتها باعادة الشاردين بطريقتها الخاصة إلى داخل القطيع، ومن يتعذر إعادته، يذبح ويؤكل. ومن هنا نرى أن (رجال المخابرات) و (رجال الدين) في نظام الأسد إنما يكمل بعضهم الآخر مما يجعلهم شركاء كاملين في الجريمة مع رئيس العصابة.
اختيار (البوطي) من قبل النظام ليقوم بمثل هذا الدور لم يكن عبثاً، بل فيه عملية احتيال ثلاثية الجانب: ضحك على لحى الأغلبية السنية لأنه منها من جهة، وعلى لحى الأقلية الكردية لأنه منها أيضاً من جهة ثانية، وأخيراً على لحى أهل العاصمة دمشق من جهة ثالثة كونه من سكانها وإن كان غير مولود فيها. ومايجعلني هنا أستغرب إطلاق لقب (عالم دين) على هذا الرجل، بغض النظر عما يحمله من شهادات وما له من كتب وتلاميذ ومريدين، هو مهادنته لنظام وحشي لم يعرف التاريخين القديم والحديث له مثيل. فهو عايش مجزرة حماة 1982، وهي الأسوأ في تاريخ الانسانية المعاصر، وقبلها مجزرة تدمر 1980، وبقي على ولائه لذلك النظام. وهو يعرف مايدور في سجونه من جرائم تعذيب واغتصاب يندى لها الجبين وبقي على ولائه. وهو شهد حادثة خلع الاشاربات والحجابات الشهيرة عن رؤوس نساء دمشق في بداية الثمانينات على يد شبيبة وشبيبات (رفعت الأسد)، وبقي على ولائه. ثم، ولما مات (باسل الأسد) عام 1994 في حادث سيارة، شهد شهادة زور حين أقسم بأنه (في الجنة)، وكررها حين مات (الأسد الأب) عام 2000. ثم عايش مجزرة سجن صيدنايا عام 2008 في عهد (الأسد الابن)، وبقي على ولائه، وكل هذا قبل اندلاع الثورة المباركة. إن واحدة فقط من هذه الأحداث والحوادث كافية لأن تدفع أي عالم دين (حقيقي)، وليس (خلبي)، لاعلان وقوفه ضد الحاكم، فالعلماء هم من ينادون ويذكرون الناس دائماً بأن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وليس من يشرحون لهم أصول الوضوء فقط.
طبعاً لم يكتف الرجل بكل هذا، بل ذهب إلى أبعد مما يتصوره أحد حين شبه مؤخراً جنود وشبيحة الأسد الذين يذبحون الأطفال بصحابة رسول الله (ص)، وشبه (الأسد) نفسه بأمير المؤمنين وأفتى بأن على الجميع القتال تحت رايته، وأن السجود على صورته ليس كفراً. قد يقول البعض أن مهادنة الحاكم الظالم أحياناً من قبل رجال الدين قد تعود بالفائدة على الأمة. أسأل هؤلاء: مالذي فعله (البوطي) أو غيره لمنع عائلة (الأسد) من فعل مافعلت بالشعب السوري؟ بل هل بقي شئ أكثر من هذا لتفعله ومنعها؟ الحقيقة هي أن عالم الدين الحقيقي لايمكن أن يقبل بأن يحسب على رجالات نظام كهذا ولاتحت أي مبرر، فعلماء الدين الحقيقيين هم من لم ترهم على شاشات الاعلام أو هم من تم اضطهادهم أو قتلهم أو سجنهم أو تهجيرهم خارج سورية، والأسماء هنا بالمئات أو ربما بالآلاف. وبالتالي فمجرد ارتباط اسم عالم دين بحاكم من طراز (الأسد)، فان هذا يخرجه تلقائياً من لائحة (علماء الدين) إلى لائحة (مشايخ السلطان).
لايهم كثيراً الآن من قتل (البوطي)، وإن كنت أرى بصمات النظام وفائدته واضحة في هذه العملية، المهم أن الرجل كان بالتأكيد بحاجة لعلم من نوع مختلف عما أفنى عمره فيه. بحاجة لذلك العلم الذي يقول له أن من يقترب كثيراً من الوحوش المفترسة، سيأتي يوم تفترسه فيه. كلمة الحق التي أقولها فيه هي أني لم أجد في مواقفه المنحازة لنظام لايمت للانسانية بصلة مايدعو للأسف على رحيله وبهذا الشكل الدموي، والذي إنما يجسد مقولة (يمهل ولايهمل).
فماذا تقولون بعد ذلك؟