مخيّم لاجئين.. عمره أربعة آلاف سنة
مشاهدات من الشمال السوري المحرر (2)
مخيّم لاجئين.. عمره أربعة آلاف سنة
د. مؤمن مأمون ديرانية
تقف السيارة في نهاية طريق مزفّت قرب موقع أثري في الريف السوري المحرر، وينزل بعض الرجال يستطلعون المكان مشياً على الأقدام..
تبدأ المباني الأثرية بالظهور، وتصعد الطريق بهم قليلاً ثم تنزل ثانيةَ بعض الشيء، فتكشف وادياً واسعاً ينتشر فيه على مدّ البصر عدد كبير من المقابر الأثريّة القديمة، وكأنّما يدخلون المدينة المفقودة التي طالما شوّقتنا قصتها ونحن صغار.. لا يشاهدون مدينة تسكنها الأشباح وتعشّش فيها بيوت العنكبوت كما يتوقّعون، بل يُصعقون بمشهد أطفال يركضون ونساء يتوارين وشيوخ يتعكزون ورجال يقبلون عليهم رويداً والريبة والخوف ترتسم على وجوههم.
لقد التجأ هؤلاء البؤساء من عالم القرن الواحد والعشرين إلى عالم القرن الثاني قبل الميلاد، لعلهم يجدون الأمان في ذلك الزمن الأغبر بعد أن عدموه في عصر الحضارة وحقوق الإنسان.. التجؤوا من عالم الصامتين على ذبحهم، الموتى السائرين على الأرض، إلى عالم الموتى المدفونين تحت الأرض، لعل أولئك يفيقون ويتكلمون..
وما أن يتقدم الرجال نحوهم حتى يبادر أكثر هؤلاء البؤساء إلى الاختفاء في المقابر والسراديب خوفاً من غدر غادر، فقد لفحتهم كثيراً رياح الغدر. وما أن يرفع أحد الرجال آلة التصوير يريد التقاط صور ينقل بها معاناة هؤلاء المساكين إلى العالم لعله يتوقف عن صمته وإلى أهل الخير لعلهم يمدون يد عون إليهم، ما أن يرفع المصوّر آلة التصوير حتى يقفز إليه أكثر من واحد منهم فزعين يرجونه أن يتوقف، لأن طائرات "الميغ" ستأتيهم وتصب عليهم قذائفها إذا عُرف مكانهم، وما لجؤوا إليه إلا هرباً من جحيم القصف. تركوا ديارهم ولجؤوا إلى هذه المقابر الأثرية طلباً للأمان وهرباً من جحيم مدافع وصواريخ وطائرات النظام المجرم الذي لم يستخدم يوماً أيّاً منها ضد اليهود المحتلين وادّخرها لشعبه من المدنيين العُزّل.
جموع من الناس المشردين عن بيوتهم في ثياب رثّة يهيمون بين هذه الأطلال، أكثرهم من الشيوخ والنساء والأطفال، فالشباب خرجوا للقتال دفاعاً عن أهلهم. وقد نصبوا بعض "الشوادر" على هذه القبور لعلها تدفع عنهم شيئاً من بلل المطر وبرد الشتاء. أي غطاء يغطيهم في هذا البرد القارس وأي طعام يأكلون وأي ماء يشربون!
يستأذنهم طبيب من الركب أن يستطلع إحدى هذه المقابر التي يسكنونها فلا يمانعون بعد أن اطمأنوا إليه.. ينزل درجاً إلى عمق المقبرة، فيجد رضيعاً ملفوفاً في رداء مهترئ ممدداً على أرض المقبرة تحت سطح الأرض بمترين أو ثلاثة، ولا يكاد يوجد هناك مقدار من الأكسجين يكفي لتنفّسه.. يحسّ بالعبثيّة والسخرية والمرارة وهو يوصيهم بتهوية المكان من أجل الرضيع الصغير.. هل كان عليه أيضاً أن يوصيهم بتغذيته جيداً وهم لا يجدون لقمة العيش! أم يوصيهم بتدفئته من هذا البرد القارس وهم جالسون في العراء لا تؤويهم إلا جدران هذه المقابر القديمة! يعود أدراجه يجرّ قدميه صاعداً الدرجات المتكسّرة إلى الخارج لا يدري يبكي من: الشهداء الذين يُذبحون أو يُقتلون أو تُهدّم بيوتهم على رؤوسهم، أم الجرحى الذين ينزفون حتى الموت أو يقضون بلا علاج، أم الأسرى الذين يسومهم المجرمون سوء العذاب في كل ساعة، أم المرابطين تحت قصف المدافع والصواريخ والطائرات التي تُغير عليهم في كل ساعة، أم اللاجئين الهاربين من الجحيم الذين لا يجدون مأوى ولا مأكل ولا مشرب! ومن يستطيع ألا يبكي هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء! ... وما أن يخرج من هذا القبو حتى يأخذوه إلى فتاة مريضة في أحد أطراف هذا المخيم الحجري، وقد فتك بها التهاب شديد في عظم الساق فأتلف ساقها وأقعدها، يطلبون العون في علاجها.
* * *
بعد هذا المشهد الأليم لا بد من كلمة، ليس والله تقليلاً من معاناة بعض أهلنا ولكن إنصافاً لمعاناة من هو أكثر بؤساً منهم، ورسماً لصورة غائبة بصورة حاضرة.
كثيراً ما تناقل الناس أخبار اللاجئين السوريين ومعاناتهم في تركيا، وفي لبنان، وفي الأردن، في مخيم الزعتري وغيره من مخيمات البؤس، وزاروا أهلنا في المخيمات وسالت الدموع ألماً عليهم، والحق أن وضعهم مؤلم ويستحق هذه الدموع ويستحق مد يد العون؛ العائلة الكاملة تقيم في خيمة أو غرفة وتعيش على الكفاف.. ولكن بالمقارنة مع أهلنا اللاجئين في الداخل الهائمين على وجوههم من أرض إلى أرض فراراً من الموت الذي ينصب عليهم أينما حلّوا، وقد انقطعت بهم السبل بلا مأوى ولا مأكل ولا مشرب، بالمقارنة مع هؤلاء فأهلنا في مخيمات الخارج على الأقل آمنون، لا تنزل عليهم القذائف "والبراميل"، ولديهم سقف يُظلّهم، ولا يموتون جوعاً.
إن الحقيقة التي لا مراء فيها أن لاجئي الداخل أوضاعهم مؤلمة، أكثر كثيراً من لاجئي الخارج، وأحوالهم تُبكي الحجر وتقطّع القلوب..
اللاجئون السوريون الداخليون أكثر عدداً وأصعب حالاً من اللاجئين الخارجيين بأضعاف، جاوزوا خمسة ملايين بالمقارنة مع نحو نصف مليون لاجئ في الخارج. وإذا كان أولئك تسكن العائلة منهم في خيمة أو غرفة، فهؤلاء المحظوظون منهم ينزلون في المساجد والمدارس، والآخرون يفترشون الحدائق والملاعب والطرقات، يلفحهم برد الشتاء القارس ويعضّهم الجوع، وفي أحسن الأحوال يتقاسمون لقمة العيش مع أهل الأحياء المحيطة، ولا يأمنون القصف الذي يلاحقهم من مكان إلى مكان، بالإضافة إلى الملاحقة والاعتقال للناشطين منهم.
* * *
شعب سورية المجاهد ماض في ثورته حتى النصر بإذن الله. والخيّرون يعملون دون كلل ولا ملل، بعض الخيّرين الثقاة في هذه المنطقة قد بادروا إلى إنشاء جمعية خيرية لإغاثة الناس ومساعدتهم والنهوض بالمنطقة، وقد بدؤوا بإحصاء هؤلاء اللاجئين والعمل على إغاثتهم، لكنهم يحتاجون من يقف معهم ويدعمهم، وسيجدون بإذن الله من يؤازرهم، فالخير في هذه الأمة إلى يوم الدين.