العراق في ردهة الطوارئ

كاظم فنجان الحمامي

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

يرقد العراق كله الآن في ردهة الطوارئ بعد فشل الجراحة الترقيعية في صالات العملية السياسية المضطربة, فبدت على جسده علامات الإصابة الجلدية بفيروسات التجزئة, وارتفعت فوق سريره رايات الفلول المتحركة بدعم القوى الأجنبية المغرضة, في محاولة خبيثة لتقسيم إرثه, وتفريق قبائله إلى سنة وشيعة, وعرب وأكراد وكلدانيين وآشوريين وسريان وتركمان وشبك ويزيديين وصابئة, وتعالت في الوقت نفسه صيحات البقاء تحت خيمة العراق التي جمعت الأعراق كلها في أفيائها الوارفة.

لقد عشنا هنا فوق هذه الأرض المقدسة بتواد وانسجام. كلنا سنة وكلنا شيعة, لا نواصب ولا روافض بل إخوة, كلنا عرب وكلنا أكراد في عراق الأعراق, ليس منا من يسعى لتأجيج الصراع الطائفي ولا العرقي, وليس منا من يخون العراق ويستل خنجره ليطعنه في خاصرته. .

لكننا نقف الآن للأسف الشديد على أرصفة محطات المرحلة القلقة من مسارات التخبط وخطوط التأرجح والتفكك الذي وصلنا إليه في بداية العام الميلادي الجديد 2013, في ظل الإفرازات المعقدة, التي أنتجتها العملية السياسية المتعثرة منذ اليوم الذي ارتدت فيه ثوب التعددية الطائفية, لأول مرة في حياتها, قبل عشرة أعوام, وعبر مسيرتها القصيرة الحافلة بالتناحر والتنافر. .

قالوا لنا قبل عقد من الزمان: لا عيب في التعددية, على اعتبار إنها الواجهة الرئيسة للنظم التي تضع أقل القيود الممكنة على حرية التعبير والتنظيم والتمثيل للأفضليات السياسية, فاكتشفنا إنها لا تخلو من المثالب والعثرات, فلم يشعر بعضنا بمن يمثلهم أو يعبر عن مصالحهم, بسبب غياب المعيار الذي يجسد همومهم ومشاكلهم, ناهيك عن تباين الموارد السياسية لمختلف الأفراد والجماعات, واتضح لنا فيما بعد ان النظام التعددي قادنا من حيث ندري أو لا ندري إلى تفاقم قوة الكتل السياسية الكبرى, وتبوئها المواقع الطليعية في حلبة العملية السياسية, وهكذا توسع تمثيل الأغلبية على حساب انحسار تمثيل الأقلية, فتذبذب عندنا الشعور بالرضا في خضم التفاوت الكبير لمؤشرات القوة والضعف بين الأغلبية القوية والأقليات المهمشة, بيد أنها لم تكن مؤثرة على تأجيج حدة الصراع مثلما فعل بنا الغليان المكبوت في المراجل الطائفية المتفجرة بوقود التحريض الخارجي مدفوع الثمن, فتوسعت دائرة التنافر الطائفي شيئا فشيئا, حتى وصل بنا الأمر إلى ظهور ملامحه بين أقطاب المذهب الواحد, أو بين عناصر الفرقة الواحدة, كان المسلمون في العراق (سنة وشيعة) يشكلون في أيام الخير لحمة طيبة مع المسيحيين واليهود والصابئة, ويشكل العرب مع الأكراد والتركمان والقوميات الأخرى صورة رائعة من صور التآلف والتواد, وما أن هبت عليهم رياح التدين السياسي, التي أصبحت فيها الفتاوى الارتجالية هي القاعدة التي قامت عليها هياكل التعددية الجديدة حتى انقلبت الصورة رأسا على عقب, وتفجرت براكين العداء لأتفه الأسباب, فتعمق الشعور لدينا بعدم الرضا عن النظام التعددي القائم على المحاصصة الطائفية. .

كنا نأمل أن تعثر الأقطاب المشتركة في العملية السياسية على طريقها الفعال لإجراء المصالحة, وتهتدي لتخفيف حدة العداء بين بعضها البعض, وكان من الممكن أن تكون لمهارات القوى السياسية الأدوار الفاعلة في مد جسور التقارب والتلاحم نحو ضفاف الأمن والأمان. .

وكنا نأمل أن تسعى الحكومة نحو خلق مؤسسات مبتكرة لها طابع ديمقراطي واضح لتحقيق المصالحة السياسية, والتوفيق بين عوامل التباين والتنوع بين الجماعات المتصارعة, فولدت وزارة المصالحة الوطنية لتمنحنا بصيص أمل, لكننا لم نلمس منها النجاح المتوقع لإحراز الحد الأدنى من التوافق والانسجام بين الأطراف المتنافرة. .

لقد تفجرت الآن الخصومات الطائفية بتحريض واضح وصريح من أرباب الطائفية البغيضة, فتصاعدت لهجة المطالبة بالتقسيم والانفصال, وباتت تهدد آخر قلاع العملية السياسية, وتنذر بتسلل المليشيات الطائفية عبر الثغرات الحدودية للبلدان المستفيدة من تدمير العراق, حتى وصل بنا الحال إلى ما وصلنا إليه من تشرذم وضياع وقلق, ولم يبق أمامنا من فسحة أمل في إخراج العراق من ردهة الإنعاش السياسي, ونقله بسلام إلى بر الأمان إلا بالتشبث بأشرعة الدستور قبل أن تمزقها زوابع الطائفية, عسى أن ننجح من خلالها في توطين مصادر القوة سواء على مستوى السلطات التنفيذية أو التشريعية أو القضائية, أو على مستوى التوزيع الجغرافي للموارد, وبالتالي فإن الحد الأدنى من الإخلاص الوطني كفيل باختفاء واضمحلال أقوى أنماط التنافر السياسي أو الطائفي أو العرقي. .

ولابد لنا في الختام من الإشارة إلى أهمية الفصل الدستوري التام بين السلطات, إلى جانب العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم, والالتزام بالديمقراطية باعتبارها العقار السحري, الذي سيؤدي إلى تنوع البدائل أمام القوى الوطنية, ومن ثم التقليل من احتمالات انفراد أو تسلط طرف منها, واستحواذه على كل شيء مقابل لا شيء للطرف الآخر, ويقلل من حدة التعصب بين أقطاب المعارضة, ويغلق النوافذ والثغرات بوجه المخالب التخريبية, التي ماانفكت تسعى لتفتيت العراق وتجزئته, وتسعى لبث الفرقة, وزرع الفتن بين أبنائه. . .

والله يستر من الجايات