روسيا: الرهانات والمقايضات ..
عقاب يحيى
زماااان يوم كان الاتحاد السوفياتي بجبروته وقوته كمنافس رئيس للمعسكر الرأسمالي كانت أنظار " حركات التحرر"، والحالمين بالتحرر، والعسكر الانقلابيين تتجه إليه كمعين لا بدّ منه.. يتجاوز ذلك ميدان التسليح، والتعاون الاقتصادي إلى الجانب السياسي، ومحاولة الاصطفاف في خندق الثورة العالمية، أو في الجبهة المنافسة للمعسكر الآخر..
كانت سياسة حرق المراحل، وفرض الذاتي مكان الموضوعي إنتاجاً لينينياً بامتياز أوجبته ظروف روسيا التي وصفها لينين ب"نصف رأسمالية ـ نصف إقطاعية" فلوى عنق جوهر الماركسية القائمة على نضج الظرف الموضوعي المنتج للاشتراكية، ودخل تلك المراهنة الخطيرة بتسبيق العامل الذاتي : البروليتاريا على الموضوعي في عملية قسرية كبيرة.. ثم سرعان ما بات الحزب هو التعبير عن العامل الذاتي والتجسيد له.. فاللجنة المركزية للحزب.. فالأمين العام الماسك لمعظم الصلاحيات : الواحد، الفرد، شبه المعبود، والمقدس.. وأرخت تلك التحولات بظلالها القاتمة على النظرية الموصوفة بالعلمية فتحنطت، ودخلت غيبوبة القدسي والاجترار، والتجويف ..
ـ العالم الثالث ـ إن صحت التسمية ـ استهوته تلك العملية لسببين متداخلين : الحاجة الماسة لبناء قاعدة مادية متينة بعد عقود الاستعمار النهبي، التدميري، ةالمركزة ، والأحادية في القرار والتخطيط والحكم، ووجد العسكر مفتوحو الشهية للحكم فيها باباً شرعياً لولوج الاستبداد المغلف بفلسفة إديولوجية، فكثرت الشعارات . ملت وضجت، وفرّخت الاستبداد المكين، والأحادية، والحزب القائد، الواحد، اليافطة والغطاء.. بينما أخطبوط النهب والقمع والفساد هو المضمون ...
****
سقط الاتحاد السوفييت والأسباب كثيرة، وبرز القرن الوحيد متوحشاً بزعامة المحافظون الجدد، وقد برزت أنيابهم في حروبهم الاستباقية التي كانت ساحاتها الرئيسة الوطن العربي والدول الإسلامية بشكل رئيس.. ونام " الدب الروسي" في أحضان المافيا النهمة المتوحشة، والأزمات الاقتصادية، وارتدادات الزلزال الكبير.. وصحوات يلتسين من سكره، ومرضه.. وجاء بوتين.. سليل الكاجي بي، الرياضي الطموح يحمل بعض تراث القياصرة المعجونة بتلك الامبراطورية العملاقة التي كانت تسمى روسيا القديمة، والاتحاد السوفياتي بجمهورياته الكثيرة الملحقة بروسيا" الأم"..
ـ حالم وتكتيكي هذا البوتين المعجون بالطموح والتكتيك.. العارف بأزمة الولايات المتحدة وحروبها ونتائج تلك السياسة الشرسة الفاضحة للمحافظين الجدد.. فراح يتمدمد.. وبذهنه تصدير الأزمة الداخلية للخارج، وابتلاع الجرائم المرتكبة في القضاء على ثورة الشعب الشيشاني المسلم بتصعيد الاتجاه القومي، والنفخ بحلم روسيا الامبراطورية المحمولة على أجنحة المقايضات الكبرى، واللعب في مناطق النفوذ.. وكانت بلدنا سورية أحد أهم ساحات التكتيك.. وقابلية المقايضة الكبيرة في الوقت المناسب ..
بوتين وطاقمه لا يهمه، كما يدعون ويصرحون، الشعب السوري ومطالبه، ودماءه، ولا دمار بلادنا.. وحجم الجرائم والقتل.. بل الإبقاء على المصالح الحيوية، واستخدام تلك العلاقة بالطغمة القاتلة للمقايضة والسمسرة .
ـ إدارة بوتين تصرح همساً لكل الوفود المعارضة ـ من هيئة التنسيق وما جاورها ـ بأن الذي يهمها هو الشعب السوري ومصالحه، وليس من يحكم، مع ضخّ تسريبات مخابراتية عن نية هنا، وتطور في اتلموقف باتجاه القبول بتنحية رأس النظام المجرم هناك.. بينما الوقائع تفقأ العيون . الوقائع تقول بلغة الدم : أن الضوء الأخضر الروسي ما يزال قوياً للطغمة كي تستبيح الحياة وكل المحرمات، وهي محمية بالفيتو الروسي، وبالمراهنة على احتمالات القضاء على الثورة بالقوة القمعية المفرطة.. لذلك لم تكتف بالدعم السياسي، بل بترسانة من الإمداد المتواصل بالسلاح المتنوع، ومختلف الوسائل اللوجستية.. إلى درجة أن تصريحات وزير الخارجية فاقت تبويق المعلم وبقية البواقين في نظام الطغمة..
****
اليوم، أو منذ مدة، والروس يعلمون جيداً أن صفحة حليفم ستطوى اليوم أو غداً، وانه ساقط لا محالة بفعل ضربات وتضحيات وتصميم الشعب السوري وثواره، وبفعل الذي يحدث على الأرض كحقيقة الحقائق.. يسربون الكثير من الأقاويل عن تغيّر في موقفهم، وعن " قابليتهم" لفكرة التنحي.. بينما تتواتر الأنباء عن لقاءات وحوارات مع الأمريكان للدخول في صفقات كبرى ليست بلادنا سوى طعم صغير فيها.. لترتيب الأوضاع الدولية، وتقديم الوضع السوري كمقبلات مغرية .
ـ العارفون ببواطن التركيبة الروسية الحاكمة يؤكدون أن المسألة لا تخص "غرامهم" بالأسد القاتل، ولا فقط بمصالحهم الاستراتيجية في المنطقة، بل بمحاولة استخدام بلادنا في استراتيجية الانبعاث القومي الروسي الذي يتغنى به بوتين وطاقمه، وأن هذا الانبعاث يجب أن يحصد النتائج في مباحثات الدرع الصاروخي مع الولايات المتحدة، وفي ترتيبات أخرى تخص أوربا والشرق الأوسط على العموم ..
ـ شعبنا المتألم جداً من طعنات السياسة الروسية لا يمكنه أن يهضم اليوم إقامة علاقات ودية مع الإدارة الروسية، والكثير من شبابنا ينظر لروسيا كعدو، ويطرح التعامل معها وفقاً لقاعدة الصديق والعدو.. ومع ذلك، وحرصاً على مستقبل بلادنا، وعلى التوازن في العلاقات الدولية، وجملة التشابكات في العلاقات السورية ـ الروسية التي تتجاوز ميدان التسليح الحيوي إلى غيره من الاتفاقات التجارية واللوجستية والاقتصادية، والعديد من لمشاريع الإنمائية والاستثمارية... فإن الثورة السورية معنية بدراسة هذا الملف بموضوعية، وبروحية المصالح العليا لبلادنا، وعلى قاعدة الوضوح، وإدانة الموقف الروسي وعواقبه.. وباتجاه التغيير الجوهري الذي يمكن التعامل معه وفقاً لضرورات العمل السياسي.