الشعب ما زال يريد
معين الطاهر
قد يتساءل بعضهم عن مآل الربيع العربي، مشككين في كونه ربيعاً من حيث المبدأ، مستندين إلى إخفاقات مر بها، والحروب والانقسامات التي جرت في أكثر من قطر عربي. وكانت السنوات الأربع حبلى بالأحداث الجسام منذ انطلاقة الربيع العربي، بدأتها ثورة تونس، لتتبعها ثورة 25 يناير في مصر، والتي انطلق بعدهما سيل من الاحتجاجات والحراكات الشعبية في أجزاء واسعة من العالم العربي، منادية بالإصلاح السياسي، والحرية والديمقراطية والنزاهة، ومحاربة الفساد والاستبداد ونهج التوريث في الجمهوريات التي تحولت إلى إقطاعات عائلية، وصولاً إلى الهتاف الشهير "الشعب يريد إسقاط النظام".
نجحت الثورة الشعبية السلمية في إسقاط بن علي وحسني مبارك في تونس ومصر، وأدت التظاهرات المليونية في اليمن إلى تنحي الرئيس علي عبدالله صالح، فيما سقط معمر القذافي في ليبيا، بعد صراع دموي، وتدخل للطيران الحربي الغربي. وفي سورية، تحولت التظاهرات السلمية، تدريجياً، إلى العمل المسلح، نتيجة قمع النظام لها، واستخفافه بها، ما أدخل البلاد والعباد في دوامة حرب أهلية، انجرت إليها أطراف عربية وإقليمية.
لم يزهر الربيع طويلاً في مصر، فبعد انتخابات ديمقراطية، فاز فيها الرئيس محمد مرسي
بأغلبية بسيطة، أثبتت الدولة العميقة قوتها، ولم تتح للنظام الوليد فرصة لالتقاط أنفاسه. واعتقد "الإخوان المسلمون" أنهم قادرون على إحداث تغيير تدريجي في النظام، بالتحالف مع الجيش وشرائح من الدولة العميقة، وإقصاء القوى الأخرى، مكررين بذلك الخطأ نفسه الذي ارتكبوه إثر ثورة 1952، عندما وافقوا على قانون حل الأحزاب. اعتقدوا أن الاعتدال في مواجهة قوى الثورة المضادة، والتحالف مع أجزاء منها، سيحمي ثورة 25 يناير التي انفض جزء من ثوارها عن النظام الجديد. حققت الثورة جزءاً من أهدافها، لكنها لم تتمكن من بناء نظامها، ولم تستطع أن تشكل جبهة وطنية عريضة لحمايتها، ولا أن تحدث تغييراً جذرياً في السياسات الخارجية والداخلية، ولا أن تستعيد الدور المصري في قيادة الأمة العربية، والدفاع عن قضاياها، وفي مقدمتها قضية فلسطين. أسقطت رياح الانقلاب العسكري زهور الربيع العربي في مصر، قبل أن تتحول ثماراً ناضجة، منهياً بذلك تجربة مصر الديمقراطية ودورها الإقليمي.
في تونس، تمكنت "النهضة" من استخلاص بعض دروس التجربة المصرية، وكان لقيادتها المتزنة والمستنيرة دور مهم في المحافظة على الاستقرار الداخلي، لكن ذلك لم يمنع أركان النظام السابق من العودة إلى الحكم، في انتخابات ديمقراطية، تم فيها تداول السلطة بيسر. ولكن، تبقى الأمور مرهونة بخواتيمها، وفيما إذا كان "نداء تونس" سيحافظ على سير العملية الديمقراطية، أم سينقلب عليها.
يلاحظ أن الربيع العربي اتخذ طابعاً دموياً في الدول التي تعاني من انقسامات مذهبية، أو جهوية وقبائلية، كما في سورية واليمن وليبيا. إذ تفسح هذه الانقسامات المجال لحروب أهلية، ولتدخلات قوى إقليمية في الصراع، وتحرف آفاق الصراع عن أهدافه الحقيقية بالثورة والإصلاح. وتنتج بيئة خصبة لنمو حركات تكفيرية، أو مذهبية، تسرق الثورة من أصحابها الحقيقيين. ولعل الدرس المستخلص، هنا، ضرورة الحل السياسي للصراعات في هذه الدول، والخروج من دوامة القتال أو التلويح به. ويجب أن تقترن إرادة التغيير في هذه الدول بضرورات التوافق بين مكونات المجتمع المختلفة، على قاعدة رفض المغالبة والإقصاء ومحاربة الفساد والاستبداد، والحفاظ على وحدة الوطن.
هز الربيع العربي مفاهيم الاستبداد والفساد، ورسخ قيم الحرية والديمقراطية والتحرر، وتمكن من إسقاط أنظمة وهز أخرى، وحمل الجميع على التفكير بأن الواقع العربي المرير لا يمكن أن يستمر، وأن الشعب قادر على التغيير، حين تتوفر ظروف داخلية وإقليمية مناسبة. أما النخب في عالمنا العربي فلم تكن على مستوى الثورة التي حدثت، وأدى انقسامها والنزاع القومي الإسلامي إلى تمكن الثورة المضادة من تحقيق غاياتها.
لا يضعف هذا كله، على الإطلاق، من فرضية أن الربيع العربي كان ثورةً بحق، تجاوزت الحدود القُطرية، وانتقلت عدواها من قُطر إلى آخر، رافعة وحاملة الشعارات والأهداف نفسها، بغض النظر عما حدث بعد ذلك من تراجعات وإخفاق. وحسبنا أن نذكر أن العالم ما زال يحتفل، حتى اليوم، بذكرى الثورة الفرنسية التي أطاحت الملكية، وبشعاراتها في الحرية والمساواة، على الرغم من إخفاق هذه الثورة فيما بعد، وتصفية قياداتها وتحولها إلى إمبراطورية.
ما زالت أهداف الربيع العربي باقية في مدارك الجمهور العربي الذي زادت التحديات التي يواجهها أمام إشعال منطقتنا بحرب قوات التحالف وقوات الخلافة. إلا أن الشعب ما زال يريد التغيير، وإرادته حتماً ستنتصر.