على هامش تشكيل مخابرات الثورة السورية ؟!

د. حمزة رستناوي

[email protected]

*بداية مجرد التلفظ بكلمة مخابرات لدى عموم الشعب السوري هو أمر مرتبط بالخوف و التعذيب و الارهاب..الخ . و يلزم الكثير من الاشتغال في السياسة و الثقافة حتّى يستطيع الشعب السوري محو هذه الذاكرة السيئة التي تعزّزت طوال الحقبة الأسدية من تاريخ سوريا.

*المخابرات وفقا للتجربة المريرة و الذاكرة الجمعية للشعب السوري ارتبطت بالسلطة و فرض منطق القوة,و هي حالة غير طبيعية ألفناها للأسف , و لكن هذا الميراث السلطوي للمخابرات سيستمر بشكل أو آخر حتى ما بعد السقوط المحتمل للسلطة الأسدية , و هذا الميراث يغوي الناس بمعزل عن الزمان و الجغرافيا  , بشبهة امتلاك السلطة , و السلطة أشبه بالأفيون من الصعب تقيدها ضوابط ذاتية و أخلاقية , بل إن تقييد سلطة المخابرات في الدولة الديمقراطية الحديثة ينبع من الاشراف المباشر عليها من قبل سلطة سياسية منتخبة , و كذلك الزام جهاز المخابرات بالعمل كمؤسسة من مؤسسات الدولة , و ضمن القوانين الناظمة , و ضمن صلاحيات السلطة القضائية المستقلة.

*بالتأكيد إن سوريا المستقبل - كأي دولة في العالم - بحاجة لجهاز استخبارات يكون في خدمة الدولة و الشعب السوري , و مبررات وجود جهاز مخابرات هي ذاتها مبررات وجود أي جهاز استخبارات في الدول الأخرى و لا حاجة للتفصيل في ذلك.

*تناقلت وسائل الاعلام إصدار بيانين موثقين بمقاطع فيديو موضوعهما تشكيل جهاز مخابرات خاص للثورة السورية :                                               - البيان الأول بتاريخ  8-10-2012 يعلن فيه عن تأسيس "جهاز المخابرات العامة للثورة السورية " و رابط الفيديو:

">

و يظهر فيه شخص مقنع ترتدي لباس أسود و هو يقرأ البيان.

-أما البيان الثاني فقد صدر منذ أيام أي بتاريخ  19 -11-2012 و يعلن فيه في  البيان رقم واحد عن  تشكيل " جهاز المخابرات العامة للثورة السورية " و رابط الفيديو :

">

 

و يظهر فيه شخص مقنع يرتدي لباس أسود  يتلو بيانا , و أمامه على الطاولة قرآن كريم و مسدس , و يحيط به سبعة أشخاص مسلحين ببنادق ومقنّعين و يرتدون لباس أسود كذلك .

*الفاصل بين إعلان البيانين حوالي الشهر و النصف , و كلاهما يعلنان تأسيس / تشكيل "جهاز المخابرات العامة للثورة السورية "؟  و لا يشير البيان الثاني إلى البيان الأول ,أو يعطي أي توضّيح بشأنه , مما يقتضي الالتباس و التساؤل ؟؟!

*لا نختلف حول ضرورة وجود دعم و تنسيق استخباراتي لأي قوات عسكرية مقاتلة , و هذا يشمل القوات المقاتلة لإسقاط السلطة الأسدية (الجيش الحر) و قد ذكر البيانان شيئا حول هذا , و كان لافتا تأكيدهما على البقاء على مسافة واحدة من قوى الثورة السورية , و كذلك وجود إشارات وطنية ايجابية على مستوى الخطاب من قبيل : إعادة بناء سوريا الانسان و الحضارة – الاحتكام للقوانين و تخصيصهم شرعة حقوق الانسان – اعتماد الخبرة و الكفاءة و النزاهة و الانتخاب الإدارة.

*إن أي جهاز مخابرات من المفترض أن يعمل تحت إشراف سياسي , حتى لا يتمادى و يتحوّل إلى سلطة غير مقيدة و منافسة , و إذا كنا في هذه المرحلة نتلمس وجود سلطة سياسية ممثلة (بالائتلاف الوطني لقوى المعارضة و الثورة ) قد تكون العنوان الأبرز لتمثيل الثورة في هذه المرحلة , فما علاقة "إدارة مخابرات الثورة السورية " بالائتلاف ؟! و كذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار عدم وجود جهة سياسية أو اطار سياسي وطني يمثّل القوى الثورية المسلحة في الداخل فهذا يعقّد المشهد أكثر , و في حال تشكيل حكومة منفى كما يجري الحديث حاليا فهل ستكون "إدارة مخابرات الثورة السورية " تحت اشراف وزارة الدفاع و حكومة المنفى المؤقتة مثلا ؟!

* إن أي جهاز مخابرات (عسكري) من المفترض أن يعمل و ينسّق في اطار قيادة عسكرية محدّدة , و واضح أن القوى المسلحة للثورة السورية غير موحّدة و تقاتل بشكل مستقل و ضمن تنسيق و تعاون بحدود دنيا , و قد أعلن في الشهر الأخير عن تشكيل المجالس العسكرية الثورية , و كذلك اعلن عن تشكيل جبهات قتال و قطاعات في خطوات توحيدية من غير واضح بعد مدى فعاليتها , و كل هذا يُصعّب من مهام أي عمل استخباراتي ( وطني جامع ) طالما أن التشكيلات المقاتلة غير موحّدة , و طبيعي جدا أن كل تشكيل أو جهة مقاتلة على الأرض تقوم بتجميع معلومات استخباراتيّة عن العدو و تتعامل معها بنفسها و لحماية نفسها.

*إذا كنا أمام " إدارة المخابرات العامة للثورة السورية " فهذا يعني من التسمية أنها مخابرات لخدمة سوريا كوطن و ثورة ضد الاستبداد الأسدي , فلا أرى من مبرر لوضع القرآن الكريم مع المسدس في البيان الثاني كشعار , قد يساء فهمه و توظيفه , خاصة أن الثورة  هي ثورة لكل السوريين المؤمنين على الطريقة الاسلامية أو غيرها .مع التذكير مثلا بكون شعار الأخوان المسلمين هو القرآن الكريم و المسدس حيث من طقوس انتساب العضو الجديد لتنظيم اللإخوان المسلمين في السبعينيات و الثمانينيات من القرن الماضي هو القسم على القرآن و المسدس , ما قصدته هو أن الشعار (القرآن و المسدس) يحتوي اشارة لجماعة دون غيرها من المسلمين , و كذلك لحزب سياسي معيّن دون غيره. لذلك كان من الأنسب تحييد هكذا شعارات ,و البحث عن الوطني المشترك الجامع , و كذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار الجدل الدائر حاليا في سوريا حول طبيعة الدولة السورية المنشودة هل هي دولة دينية أم دولة مدنية ؟  الطريقة التي خرج بها بيان (إدارة المخابرات العامة للثورة السورية) مُلتبس ذو اشارات مختلفة , مع التذكير بأن نقدي السابق لا ينقص من احترام القرآن الكريم ككتاب مقدّس و كمرجع للعقيدة . 

*لماذا لا يكون الشعار المفترض قرآن كريم و غصن زيتون مثلاً؟

*أتفهم أن يقوم الأشخاص الذين يلقون البيانين بإخفاء أسمائهم الحقيقة و إخفاء وجوههم , لدواعي أمنية و حرصا على سلامتهم. و لكن لا تخطئ العين أن في مشهدي اعلان البيانين عن تشكيل(إدارة المخابرات العامة للثورة السورية) شيء يدعو للتخوف و عدم اللارتياح للمُشاهد , فمفردات الرجل المقنع الذي يلبس الاسود و المجهول الاسم  يحيلنا على الصعيد النفسي إلى أجواء أقبية مخابرات السلطة الأسدية الاستبدادية و عناصر حزب الله و بيانات تنظيم القاعدة ..الخ.

*في عصر الاعلام المفتوح و العولمة يستطيع فرد أو بضع افراد إذاعة بيان و نشره عبر اليوتيوب و الفضائيات , يستطيعون فيه قول ما يشاءون , و إن أهمية أو الوزن الفعلي لأي حدث من هذا القبيل مرتبط بوزن و معرفتنا بشخصية المعلنين و كذلك تقبّل الآخرين و ردود أفعالهم حول الحدث.

*في البيان الثاني ورد خبر تعيين السياسي السوري بسام جعارة - المقيم في لندن -  كمدير للمكتب السياسي و العلاقات العامة.  من المفترض أن جهاز الاستخبارات يعمل في اطار سياسي وطني , و عسكري ميداني , من المفترض أن يكون جزءا من هذا الاطار السياسي العسكري ,و ليس مستقلا عنه , و لا أرى حاجة لممثل سياسي لجهاز المخابرات الوليد  في الخارج , من المفترض – و نأمل قريبا - وجود سفير و سفارة لدولة سورية الديمقراطية  في لندن يكون بديلا عن سفير السلطة الأسدية البائدة , بهذه الصفة و ليس غيرها.

* ما سبق كتابته ينطلق من مبدأ النقد الذاتي بغية تجاوز القصور الممكن في الثورة السورية و تطوير صلاحيتها باتجاه اسقاط النظام الاستبدادي الاسدي و بناء سوريا دولة ديمقراطية حديثة  لجميع أبنائها.