خوازيق السياسة الفلسطينية (2)

الحركات العسكرية وزيادة الطين بلة!!

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

لا عيب ابتداء في إنشاء التكتلات والأحزاب السياسية، بل إنه من الضرورات السياسية في أي مجتمع، ووجود الأحزاب فيها وتعددها ظاهرة صحية، شريطة أن تكون متساوقة مع الأهداف العليا التي تعلنها، وتزداد الحاجة إلى وجود الأحزاب في ظل الأوضاع السياسية المتردية، والتي تتطلب تغييرا جذريا حقيقيا، لتلم الشعث وتجبر ما انكسر في حياة الناس من أحلام، وتعيد ترميم الوطن وصورته، وتتابع مسيرة التقدم والبناء، فهل كانت أحزابنا السياسية أحزابا كما يتطلب المنطق لها أن تكون؟؟

وسيقتصر الحديث في هذه الوقفة على  الحركات التي تطلق على نفسها عسكرية، وما هي النتائج التي حققتها على مدى ما يزيد عن ثمانين عاما؟

لقد قامت الثورة الفلسطينية عام 1936 واستمرت حتى عام 1939 ولم تسفر عن نتائج على الأرض، سوى أنها وقعت في فخ الخديعة من بعض القادة العرب، وانتهت إلى التفتت والتناحر بين قادتها، واشتعلت الفوضى والقتل والتصفيات والاغتيالات، وبقي الانتداب البريطاني مسيطرا ومتمكنا بعد أن أفرغ الثورة وأهدافها من محتواها، وأوصل الناس إلى حالة من الإحباط واليأس. وتناسخ هذا الواقع في كل ثورة عسكرية حدثت بعد ذلك؛ ففي عام 1965 اشتعلت الثورة المسلحة الفلسطينية وأسفرت نتائجها عن الاعتراف بالكيان الغاصب وقضم الأرض الفلسطينية والتخلي عن حلم التحرير وعودة اللاجئين والرضا بالواقع والهزيمة النفسية، ومسح كل التضحيات ومسخها في مجموعة مكتسبات شكلية تمثلت في رتب لا وزن لها ورواتب ومناصب زائفة.

لقد تعرضت هذه الأحزاب أو الحركات العسكرية لكثير من عمليات الابتزاز السياسي من الأنظمة التي انطلقت من أراضيها في كفاحها المسلح ضد الغاصب، وخضعت لشروطها، وأصبحت هذه الحركات غير أمينة على فكرة أو هدف وطني، فحماية لتأمين بقعة أرض تنطلق منها استعدت أن تكون أبواقا وأدوات لتلك الأنظمة وإذا ما تغيرت آراؤها وخالفت النظام انقلب عليها وسام أفرادها القتل والتشريد، فهجرت الثورة من الأردن ولبنان واستقرت وانتهت إلى أسد جريح في الجزائر وتونس وقبرص، ومؤخرا تضطر إحدى هذه الحركات لهجرة موطنها البديل سوريا لترحل إلى غير فضاء جغرافي ضاق بها ذرعا وقصّف بنادقها وأحالها أرقاما مسجلة في لوائح المساعدات والأعطيات أو أعطاها أرقاما دورية للاغتيالات والملاحقات والإقامة الجبرية، وفي أحسن الأحوال تحولت إلى عبء اقتصادي ليمول اغترابها من أموال هذا الشعب، وهكذا فشلت تلك الحركات في صياغة إستراتيجية للتحرير مستمرة ومقاومة العفن العربي أولا.

لقد دخلت الفصائل الفلسطينية بعد العودة إلى أرض فلسطين بعد اتفاق أوسلو في عملية تناحر سياسي مقيت، أدى بها إلى التعامل مع بعضها كأفراد يرضون بعضهم بوزارة هنا أو سفارة هناك، وصرنا نسمع عن وزارت سيادية وأخرى هامشية، وصدقوا اللعبة ومنطقها الزائف، ونسي الجميع أنهم يمارسون ما يمارسون تحت سقف متدن من أوسلو الكارثي، وتقاسموا تلك المنافع الوهمية مدة غير بسيطة حتى وقع التناحر والتطاحن بين أكبر فصيلين سياسيين، فصار الوضع أشد إيلاما، ومارس كل طرف في جمهوريته منزوعة الروح أوهام الدكتاتورية العربية، فمنع كل طرف أتباع الطرف الآخر من الوظائف والعمل في المؤسسات، وقاموا باعتقالهم وإهانتهم بالضرب والشتائم، وصارت الحرب بين الأخوة حربا سياسية وإعلامية، وحربا أريق فيها كثير من الدماء، وتقطعت أوصال ما تبقى من وطن منحته لنا أوسلو اللعينة، وصار لكل كيان مصطلحاته ضد الآخر، وارتمى أحدهم في حضن أمريكا وإسرائيل، فعاش تحت سيطرتهم الأمنية المطلقة ومساعداتهم الابتزازية، وأما الآخر فارتمى مجهدا في حضن أنظمة هي الأخرى تدور في فلك أمريكا كتركيا وإيران ومصر، بالإضافة إلى الدعم السياسي الملاحظ من الاتحاد الأوروبي، ولكنّ الطرفين لم يخرجوا عن طوع الساسة الأمريكيين، والذين خطوا لهم خطوطا متعرجة للسير فيها، وهكذا انتهى الوطن كومة من رماد محترق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وماتت الحركة وشقي الناس بأوهام وآلام الطرفين، وانتهينا إلى زيف الفلسطيني المقاوم وعبث الفلسطيني المفاوض، فلا مقاومة مشتعلة وحقيقية ولا مفاوضات مقبولة وواقعية، وصار الطرفان يهتف كل منهما في سره (امشي الحيط الحيط، وقول يا ربي الستيرة) على رأي المثل الشعبي.

وهكذا أوصلتنا الحركات المقاومة من علمانية وإسلامية لأن نكفر بالجهتين ونلعن سياساتهم وما اقترفته أيديهم تجاه هذا الشعب الذي ما فتئ يصب أنهار الدماء رخيصة من أجل وطن الزنابق والحرية، وإذا بأحلامه تغتال ويفتك بها، ويعظم الأمر سوءا، ويزداد الطين بلة.

ولكن، ما هو دورنا أيها السادة هل نظل صامتين ونبتلع خوازيق السياسة الفلسطينية؟ سؤال لا بد من أن يسأله كل واحد منا لنفسه، ليضع نفسه موضعها "فما المرء إلا حيث يضع نفسه"، ولا يستقلّ أحدنا بقيمة نفسه، وحذار من أن نخدع أو نصلب ثانية في أوهام السلاح الذي صوبناه بمهارة نحو صدورنا فقتلنا الورد والليلك وأشعلنا الجنون وأحرقنا ما تبقى من روما الحبيبة!!

إن أقل الواجب هو الانفضاض عن تلك الأطراف وإعلان البراءة من كل أعمالهم، فما عادت شعاراتهم تخدع عاقلا منصفا يرى الحقيقة ساطعة كالشمس، ومن قال غير ذلك أو اعتقد خلاف الحق الذي ينطق بالألم فهو أعمى البصيرة والبصر؟ لا يستحق إلا الشفقة والدعوة له بأن يشفيه الله من أليم ما تربع عليه من خوازيق السياسة الفلسطينية المجنونة.