كي لا تتحول الكتلة الوطنية في سوريا إلى دكان

كي لا تتحول الكتلة الوطنية في سوريا إلى دكان!

مصطفى رستم *

منذ بداية العمل على تأسيس الكتله الوطنيه في سوريا, كنا متفقين على تكريس جهدنا لقيام حركة شعبية جدية ترفض أن تكون دكّاناً لمجموعة تحاول أن تدخل في سباق مع الآخرين الراغبين في ان يكون لهم عكاز يساعدهم في الظهور على الساحة الإعلامية, أملاً بأن يكون لهم موقع في البازارات السياسية والإعلامية للمعارضة, لذلك عزمنا منذ البدء أن لا نطرح اسم الكتله إلا في الحدود التي لا غنى عنها لتعريف المواطن بها وبأهدافها, وبالتالي صبت الجهود كلها للعمل الشعبي ومتطلباته.

لقد اقدمت الكتله الوطنيه على خطوات خاطئة " من وجهة نظري ", أولها كان دخولها في ائتلاف "وطن" قبل أن تتوفر شروط نجاح هذا الائتلاف وجدية اطرافه, بل قبلت تغيير بعض طروحاتها الصحيحة حتى تتواءم مع الآخرين, لا بل وقام الائتلاف دون ان يكون لي علم بقيامه ومعرفة بأطرافه, وقد أبديت ملاحظاتي وقتها مكتفياً بذلك, لأني عزوت ما تم إلى قلة الخبرة. صحيح أن الكتله أخيراً صححت موقفها وأعلنت انسحابها من ائتلاف ولد ميتاً, لكنها لم تقدم نقداً لموقفها يوضح الهدف مما فعلته: أين أخطأت وأين أصابت!!

جميع أعضاء الكتله كانوا متفقين وأظن أنهم ما زالوا كذلك حول الموقف من التدخل الاقليمي والدولي, الذي بدأ منذ رفضت السلطة مطالب جميع أطراف المعارضة لعقد مؤتمر للحوار وإبقاء الصراع سورياً بحتاً, بل إن السلطة أنكرت ولا تزال تنكر أن هناك معارضة أصلاً, وأقدمت على الحل الأمني. ورغم ان الشعب بقي لأشهر مصراً على سلمية الحراك, إلا أن القسوة الفظة التي واجهت بها السلطة الحراك الشعبي بغية جره إلى حمل السلاح " اعتقاداً منها أنها الأقوى ", نجحت تدريجياً في إجبار الكثير من الثوار سواء كانوا عسكريين بالانشقاق عن القوات المسلحة, ومدنيين بأن حملوا السلاح مضطرين.

منذ بداية الحل الأمني كخيار وحيد للسلطة بدأت فرص التدخل الإقليمي تتسع اكثر فأكثر إلى ان اصبحت السلطة لا تملك سوى هامش بسيط في استقلالية القرار, وكذلك الكثير من أطراف المعارضة الذين لا هامش لهم في استقلالية القرار. ورغم محاولات التأثير فيها " وقد أثرت فيها بعض اطراف المعارضة" بقيت الحركة الشعبية وحدها تحوز الهامش الأكبر من الاستقلالية باعتمادها على النفس, وكان شعارها اليومي " يا الله ما إلنا غيرك يا الله ". ورغم انخراط عدد لا بأس به من الثوار بالعمل المسلح, فإن القسم الأكبر من الحراك الشعبي متمسك بسلمية الحراك قولاً وفعلاً, وعندما نقول أن نقاط التظاهر وصلت إلى 800 نقطة, فهذا يعني أن مئات الآلاف من شعبنا يخرجون أسبوعياً بصدور عارية لا يحملون قطعة سلاح, ويسقط منهم أسبوعياً المئات والآلاف من الجرحى والقتلى والمعتقلين.

نعم, إن الطابع المسلح يتزايد, لكن الطابع السلمي ما زال يفرض نفسه.

لقد كان أعضاء الكتله متوافقين بالإجمال على رفض فكرة المؤامرة لأن للدول مصالح, وكل دولة تسعى لتحقيق مصالحها, وكلما ضعفت اطراف الصراع في سوريا, كلما زادت حاجتها للاعتماد على الخارج, وبالتالي فإن الصراع سيطول إلى الوقت الذي تقتنع فيه هذه الدول بأنها حققت القدر الممكن من مصالحها, وإلى الحد الذي يصبح فيه استمرار الصراع مهدداً لهذه المصالح.

وقد كان أعضاء الكتله الوطنيه متفقين أيضاً على أن مصلحة الوطن تقضي بالحفاظ على اكبر قدر من الاستقلالية, وبالتالي البقاء مع شعبنا دون الوقوع تحت تأثير الحاجة إلى المال, أو الظهور في الإعلام, وكلنا يذكر كيف رفضنا رفع أية لافتة باسم الكتله عندما حاول البعض في بعض المدن رفعها, كما كانت رؤيتنا متفقة على ان تحركات الجامعة العربية ومن بعدها كوفي عنان لن تقود إلى أي شيء, وهي رهن للقوى الإقليمية, ومن خلفها القوى الدولية. وإن كان هنالك مؤامرة كونية لأن السلطة مصرة على ذلك وكذلك المعارضة, فإن مواقف الطرفين تحمل قدراً من المفارقات العجيبة.

منذ البدء, وتحديداً أواخر نيسان 2011, أعطى الناتو الضوء الأخضر للسلطة بأن بوسعها استخدام السلاح ضد شعبها دون ان تخشى تدخلاً عسكرياً ضدها, وأن الغرب سيكتفي بالضغط الإعلامي والاقتصادي الذي يوقع الضرر بالجميع, سلطةً وشعباً, وما فتئ الناتو يؤكد موقفه هذا في كل مناسبة بعدم التدخل, ومع ذلك فإن أطراف المعارضة يتقاتلون فيما بينهم حول التدخل العسكري غير المطروح أصلاً من قبل الجهة التي تستطيع التدخل. وعندما أعلنت السعودية وقطر استعدادهما لتقديم السلاح للمعارضة سارعت كلينتون إلى الرياض لمنعهما من ذلك, ومع ذلك فإن السلطة ما زالت مصرة على أن الغرب يتآمر عليها, وهو وإن كان فعلاً يتآمر, فإن السلطة تنفذ حرفياً هذه المؤامرة من خلال استمرارها في الحل الأمني, لأن لسان حال المؤامرة هي: دع السلطة تغرق في دم شعبها حتى الموت, لتخلف مجتمعاً مثخناً بالجراح والأحقاد, وعندها سيكون أي بديل أقل من أن يشكل خطراً على اسرائيل لأمد طويل.

أما المعارضة فقد صبّت عداءً هائلا ً على الروس وتآمرهم مع النظام, وعندما تدقق في موقف طرفي الصراع, فإن كلاهما يرى أن هناك مؤامرة كونية عليه. إن شعبنا حسم المسألة ببساطة " ما حك جلدك مثل ظفرك ", وهو يعرف أن ثمن الحرية باهظ وهو مستعد لدفع الثمن بغض النظر عن موقف امريكا والروس وإيران وتركيا. إن السلطة تعاملت مع الجامعة وعنان بشطارة عمياء, تريد كسب الوقت. كسب الوقت لماذا؟...لكي تفرّق اكثر. ولو أنها راجعت نفسها كل بضعة اشهر لعرفت انها تفرّق اكثر. صحيح انها تقتل اكثر, ويبدو ان هذا يرضيها وتعتبره انتصاراً, لكن الصحيح أيضاً أنها تفقد سيطرتها وكذلك استقلاليتها. ويبدو انها لن تكتشف ذلك إلا بعد فوات الأوان, وهي ليست بصدد إدراكه أصلاً.

جميع اعضاء الكتله الوطنيه يعرفون أن قوى كثيرة تتجاذب اطراف المعارضة, وان اتفاقات كثيرة تمت وألغيت, وأن تجمعات كثيرة نشأت وماتت لأن القوى الخارجية لن تسمح باتفاق لا ترضى عنه, وكلنا يعرف أن الاجتماع المنوي عقده لن يفضي إلى نتيجة, وليس أكثر من " طبخة بحص ", وهذا يضر بالثورة اكثر مما يفيد. كذلك, لا مصلحة للكتله أن تكون أسيرة لما يجري في الخارج, بل ان تبقى ملتصقة بشعبها إذا كانت تريد فعلاً أن تكون ابنة الحراك الثوري, ورغم ان ضغوطاً كثيرة مورست عليّ لحضور اجتماع القاهرة, فقد رفضتُ وأصريتُ على الكتله ان ترفض, لكن يبدو ان بعضهم يرى ان الكتله بحاجة إلى إثبات وجودها, وان المشاركة تحقق هذا الغرض.

يحزنني كثيراً أن تكون الكتله شريكاً في اجتماعات القاهرة, بل وشريكاً تافهاً, وكذلك في اجتماع روما, ولم أرفض الحضور فقط, بل حذرتُ من الحضور, وكلهم قالوا أن احداً باسم الكتله لن يحضر, ومع ذلك ها هو البيان يظهر, وتوقيع الكتله عليه, وكما علمت أن مشاركتنا كانت تافهة جداً.

لا أيها السادة, إن الأمر بات يستحق المراجعة, وقوة اي حركة تكمن في قدرتها على مراجعة موقفها, وعلى نقد نفسها, بل وأن يكون النقد علنياً, وإلا فأنا اخشى ان تتحول إلى دكان صغير مثل بقية الدكاكين التي سيلفظها شعبنا.

* معارض ومعتقل سياسي

وعضو سابق في القيادة القطرية لحزب البعث