حين يتحول حزب النخبة إلى حزب جماهيري ؟!
زهير سالم*
بل هل يمكن لحزب النخبة أصلا أن يكون حزبا جماهيريا ، وماذا يحدث عندما يكون ؟ سؤال أمسك عن الجواب عنه رغم المعاناة منذ عقود .
ويجب أن يكون واضحا أنه حين يصبح حزب النخبة جماهيريا يتوقف عن كونه حزب نخبة ، ويتحول إلى حزب جماهيري ، إن لم يسبق إلى وضع الأسس التي تحمي نخبويته بوعي وإصرار وتصميم ..
إنه ليس من غرض هذا المقال أن يعطي الأولوية لحزب نخبوي على حزب جماهيري ، ولا العكس ، وإنما الغرض بيان أن الوفاء لقواعد التأسيس وأهدافه تقتضي كثيرا ، وليس قليلا ، من الحذر والتدقيق لكي لا يتقمص حزب مسلاخ آخر فيضيع أوله وآخره . ربما يصح للتمثيل فقط وليس للإدانة أو الإشادة أن نمثل لحزب النخبة في لحظة من لحظات التاريخ بجماعة الإخوان المسلمين ، وأن نمثل لأحزاب الجماهير بالحزب الشيوعي وقاعدته من ( البروليتاريا ) أو حزب البعث العربي الاشتراكي، وقواعده التي قامت حسب الادعاء على العمال والفلاحين .
ففي ستينات وسبعينات القرن الماضي كانت بعض الجماعات الدعوية في سورية تشكو شكوى حقيقية وجادة من ( نخبويتها ) ، بكل المعاني وعلى كل المستويات . كانت أكبر التجمعات الضاربة تحت راية هذه الجماعات : ( جهاز الجامعة ) و( جهاز الثانوي ) و ( جهاز الخريجين ) . وكان من بعض الأهداف المطروحة لدى هذه الجماعات مع ضعف تقدير للعواقب ، مغادرة ( القوقعة النخبوية ) أو النزول من ( البرج العاجي ) إلى حيث يكون ....
بقليل من التأمل كانت العملية ستبدو أشبه بنشر غصن الشجرة الذي يجلس عليها المرء من قبل جذعها الداخلي . بعد أحداث الثمانينات في سورية كان هناك من فتح الباب للطوفان على مصاريعه وقعّد بعض القوم للواقع الجديد ونظّر ، وقطّع عن وعي وإدراك عرى كل العواصم التي تعصم من الانزلاق والضياع . حتى كان في بعض قوانينهم أن ثلاثة أعوام من الاختباء في ( مخبأ ) مظلم تكفي لتعطي صاحبها حقوقا متقدمة في الرؤية والقرار والاختيار ...
للنخبوية في تجليات الحياة العامة خلفياتها المتعددة منها النخبوية الاجتماعية ، ومنها النخبوية الاقتصادية ، ومنها النخبوية العلمية والفكرية وليس الثقافية فقط . قد يكون من العجب أن يجد النوع الأول والثاني داعميه في وسط جماهيري حتى ولو تناقض هذا الدعم المبطن بمعان مزخرفة مع مصالحه الأساسية .
أما حين نتحدث عن نخبوية علمية أو فكرية فإن الأمر سيكون أكثر صعوبة وأقل حظا في المشروعية الجماهيرية . وسيكون الأمر أخطر ما يكون في إطار حركة إسلامية ، تحمل مشروعا إسلاميا ، بمقاصد وأهداف شرعية يضبطها ضابط عام مثل ( حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله ..) وحتى هذا الضابط الصادر عن أحد عمالقة الفقه الإسلامي ، وجد من من يسيء فهمه ، ومن يسيء إسقاطه ، ومن يعترض باسم الفقه نفسه عليه . وأبسط ما يوضح العبارة في هذا السياق أن ( ال ) التعريف في قوله المصلحة هي ( ال العهدية ) التي تشير إلى المصلحة الشرعية المعتبرة بشروطها ، وليست ( ال الجنسية ) التي تدل على مصلحة الفرد أو الجماعة على إطلاقها ...
علينا أن نذّكر أن (النخبوية الفقهية ) لا تتجلى في حفظ نص أو متن أو نيل وشهادة من معهد أو جامعة . إن تعريف الفقه وهو ( الفهم العميق النافذ ) لحكم الشرع في واقعة ما ، في إطارها الزماني والمكاني ، أخذا بالاعتبار ما يحيط بها ويرافقها وما يترتب عليها ، وليس فقط كما هي مدونة في كتاب فقه تاريخي لفقيه جليل مهما تكن إمامته و مكانته ...
ثم كان هذا البلاء ...
يعلن كثير من منتسبي الحركات الإسلامية من براءتهم الصادقة مما يجري اليوم على كثير من الأرض باسم الله .. والقرآن .. والإسلام .. والمشروع الإسلامي ، ويلتفت الكثير منهم حول أنفسهم يتساءلون : أنى هذا ..؟! ومن أين جاء ؟ وهل يعقل ؟! وكيف السبيل إلى رده ؟..
في تاريخ الإسلام جاء بنو أسد من العراق إلى عمر ( رضي الله عن عمر ) يشتكون سعد بن أبي وقاص ( أحد العشرة المبشرين ، وخال رسول الله ، الذي جمع له رسول الله والديه يوم أحد يقول : ارم سعد فداك أبي وأمي ..) وأعجب ما في شكواهم كان : ( أنه لا يحسن لا يصلي ...فتأمل !!!) أليس هذا الذي نسمعه ونراه اليوم في عالم الإسلام ...
ثم كان ما كان من أمر جند الفتنة يوم الدار ، ثم يوم الجمل ، ثم يوم صفين يوم أرادوا أن يعلّموا عليا أبا الحسن رضي الله عن أبي الحسن أمر الإسلام ...
في الحقيقة إنه في أول يوم يقرر فيه حزب (نخبوي ) مؤسس على العلم الراسخ والفقه والفهم النافذ أن يتحول إلى حزب جماهيري بحيث يصبح إعراب جملة مثل ( خرق الثوبُ المسمارَ ) موضوعا تحسمه ديمقراطية الأيدي المبرمجة على الرفع والخفض أوتوما تيكيا ، يكون هذا الحزب قد أطلق النار على وجوده وعلى مشروعه معا ، وصار من بعض ما يحتمل السيل مما تعرفون ...
وأخيرا وماذا عن الديمقراطية بعدُ...؟!
إن من الأهداف العملية للأحزاب السياسية في الحياة الديمقراطية الحصول على صوت الناخب ، وتأييد قاعدة أكبر في إطار الحياة العامة ، تساعدها على تحقيق مشروعها مهما يكن شأن هذا المشروع ، فأين يقع ما سلف في إطار التمسك بحزب نخبوي مشرف ومستشرف لا يخوض مع الخائضين ، ولا يسلك مسالكهم ، ويأبى الكثير من طرائقهم ...؟!
ليس الغرض من هذا المقال مصادرة الخيار الديمقراطي كخيار مجتمعي عام لتحقيق الأهداف العامة في ظل من الشرعية المدعومة باختيار الأكثرية ..
ولايدعو هذا المقال بفرض ( وصاية ) أي ( وصاية ) على عقول وقلوب الناس لا على خلفية دينية ولا مدنية ..
بل يدعو إلى أن يحتفظ حزب النخبة الدعوية العلمية الفقهية بنخبويته ، وأن يتمسك بدوره في فرد لوحاته الإرشادية على كل طريق لكل السالكين وبلا مقابل ، ولا انتظار أجر ولو حتى في تصويت في صندوق انتخاب . لوحات إرشادية تحمل مع دلالاتها المباشرة قوة إقناعها ، وروح صوابيتها ...
المجتمعات الكبيرة المفتوحة وكلما ارتقت مستويات الوعي فيها كانت الأقدر ، على نفي خبثها ، وسدد خللها ، وإصلاح خطئها بينما في التجمعات والأحزاب التي مهما كبرت تبقى صغيرة كثيرا ما يحدث أن تتغول الخلايا السرطانية على الجسد الحي فتضعفه ثم تقتله ولعل هذا الذي يجب أن نحذره إن كنتم تحذرون ...
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية