تأملات في الخطابين

تأملات في الخطابين:

حافظ الأسد ما زال يحكمنا من قبره!

محمد خليفة

[email protected]

تمهلت يومين قبل أن اكتب رأيي بما قاله طاغية الشام  سواء في جامعة  دمشق , أو في ساحة الأمويين , لأني لم أصدق أننا أمام مشهد حي له صلة بالواقع , خصوصا خطابه العنتري في الشارع وهو مشهد سينمائي بالكامل جرى تمثيله وإخراجه بطريقة درامية , لأن ما استمعنا له لا يدل على أننا أمام رئيس دولة أو قائد يتمتع بحواس سليمة , وقادر على التعامل مع أزمة بمستوى ما يحدث الان في سوريا  . أنا أعتقد أن أولى الناس بتحليل الخطابين أمس وأمس الاول , هم الاطباء والمحللون النفسيون , لا المحللون السياسيون والمفكرون . هذا رجل غير سوي , لا يعيش الأزمة ولا يعيها بشكل سليم ولا يرى الأمور رؤية سليمة , ولا  يؤلمه شلال الدماء المتدفقة من الاف الشهداء والجرحى , ولا يرى حجم الكارثة التي سببها للبلد والشعب  , إنه يراها وفق مفاهيم حقبة غابرة انتهت وانطوت بكل مفاهيمها ومعاييرها وقوانينها الدولية , أعني حقبة الثمانينات والسبعينات التي كان الطاغية الأب خلالها يقتل ويدمر ويعتقل  بلا تردد ولا قلق من المجتمع الدولي , محميا بمعاهدة التحالف مع الاتحاد السوفياتي , وبنظام عربي ديكتاتوري يشد بعضه أزر بعض .  

إن المراقب والمحلل ليعجب فعلا من حال هذا الطاغية , هو شاب متوسط العمر  , ليس عجوزا ولا مصابا بالزهايمر  , تكوّن فكره في حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة , وهو أيضا مدني , لم يكن عسكريا محترفا  كأبيه , أتيح له إتمام تعليمه العالي في الغرب , واطلع على النظم الديمقراطية ,  والحداثة  , يجيد الانكليزية ويستطيع بها التواصل مع العالم شرقه وغربه , ولكنه رغم ذلك كله , ديكتاتور ومستبد وقمعي مثل عتاة العسكريين , ومتخلف الفكر والثقافة مثل أشد الطغاة  الشرقيين الرجعيين , عنيف عكس ما توحي صورته , حقود مثل أبيه , لم تصقل شخصيته ولم تتهذب لا في ستوات الدراسة ببريطانيا ولا في سنوات الرئاسة  وتعامله مع الساسة والزعماء والقادة .  مما يعني في المحصلة أننا أمام نسخة أخرى من الأب , أو العم , لا فرق , لم يفعل الزمن والمتغيرات الدولية شيئا  في شخصيته , ولا في فكره .

بشار الاسد صورة أخرى من أبيه , مثلما كان طاغية كوريا الهالك صورة من أبيه كيم إيل سونغ , تمثاثيل حجرية , مصبوبة في قوالب صلبة , لا تتغير ولا حتى في التفاصيل . ولذلك فقد قلت سابقا  وأقول اليوم إن الحاكم الفعلي لسوريا هو حافظ الاسد , يحكمنا من قبره , مثلما كان مصطفى كمال يجكم تركيا من قبره أكثر من ستين سنة ! , لهذا السبب اخترع الاب النظام الوراثي , وأرسى بنفسه مسارات النظام ومؤسساته , واتجاهاته وتحالفاته , وربما لهذا السبب أيضا لم يقو الابن على إجراء تغييرات عميقة في بنية النظام  واديولوجيته  , ولم يحاول , ولعله لم يفكر أبدا .

راجعوا خطاب الطاغية الهالك الذي القاه بمناسبة 8 اذار 1980 , في ذروة الصراع بينه وبين الشعب السوري ,لتجدوا أن الطاغية الحالي تحدث بنفس الطريقة  ونفس المعاني , مع فارق نسبي يميل لصالح الأول , لأنه كان متسقا مع عالمه وعصره إلى حد ما , بينما هذا  شاذ عنهما  شذوذا صارخا , ولن يجد من يسوغ له جرائمه سوى حلفائه الإيرانيين وملهمي أبيه الكوريين . وقد اتيح لي ذات مرة ان أتفرج على شريط فيديو  طوله ست ساعات يصور جلسة مباحثات  سرية بين حافظ الأسد  ومعمر القذافي  جرت عام 1980 أثناء التفاوض على الوحدة الثنائية بينهما , وشاهدت الاسد يتحدث عن كيم إيل سونغ بإعجاب وانبهار لا مثيل لهما , وخرجت بانطباع راسخ أن المثل الأعلى للأسد  في تفكيره السياسي كان هو الطاغية الكوري , والأرجح أنه قلده في كل شيء , واقتدى بخطواته خطوة خطوة .

 لقد أعلن السفاح الابن في خطابه الجديد الحرب على شعبه , على السوريين كافة , ويريد أن يرقص على جثث شهدائنا رقصة الانتصار , ويشرب نخبه من دمائنا ,  ويبدي استعداده للضرب بيد من جديد على المتطاهرين والمحتجين , ويصف التظاهرات بالفوضى , ويجعلها قرينة للارهاب , متراجعا عن مواقفه السابقة التي أبدى فيها تساهلا مع المتظاهرين السلميين ,  ولم يسبق له أن هدد في السابق بمثل الوضوح الذي هدد به في كلمته الجديدة , الأمر الذي يعني إفلاسه التام وافتقاره لأي رؤية أو مشروع للاصلاح أو حتى رغبة في الحوار مع المعارضة التي اتهمها بالخيانة والعمالة , واستعاد أيضا لغة السبعينات في تسمية الإخوان المسلمين , ما يقطع الطريق على أي إمكانية للتصالح معهم حاليا حسب ما أشيع أخيرا , وهو وعد فقط بحكومة تضم شخصيات ممن يصنفهم هو معارضة , لا يمثلون أحزابا , والأرجح أنهم معارضة مفبركة أو مسبقة الصنع تناسب مقاييسه , أي أننا أمام لعبة الاستغماية نفسها , حيث يحاور النظام نفسه أمام المرأة , ويشكل معارضة من شخصيات بعثية أو موالية له شخصيا , دون ان تكون بعثية , ويطلب منها ممارسة دور المعارضة , لكي يقول للعالم الخارجي أنه يجري اصلاحات .

بشار الاسد تجاهل بغباء المساعدة الكبيرة التي قدمتها له الجامعة العربية  من خلال المبادرة , لإنقاذه وإعادة الشرعية له دوليا وعربيا , وهي طوق نجاة حقيقي له , تجاهلها , ورد عليها بصلف وغباء , وفي نفس الوقت هاجم الدول العربية , وتنكر للمساعدات المادية والسياسية الضخمة التي قدمتها لسوريا في الحقبة التي اعقبت 1967 وختى منتصف الثمانينات , ثم عادت وتجددت في التسعينات بعد حرب الخليج . وأكد في حديثه عن خيانة العرب لسوريا تبنيه موقفي القذافي وصدام  واعتبر موقف الجامعة من سوريا شبيها بموقفيها من العراق وليبيا , أي أنه يعتبر مواقف العرب من هذين البلدين خيانة للعروبة , وينعي الجامعة التي أصبحت برأيه أداة المؤامرات الخارجية على العرب .  لقد ذكرنا بخطاب السادات ضد العرب بعد زيارته للقدس , وخطاب القذافي في أثناء الحصار على ليبيا والذي أعلن فيه تبرؤه من الجامعة والعروبة معا وانتماءه لأفريقيا , وخطابات صدام التي هاجم العرب فيها خلال سنوات القطيعة والحصار أيضا ... ولا شك أن بشار الاسد يشعر الان بقوة الحصار المضروب من حوله مثله مثل الثلاثة الذين انتهوا  بالقتل , حيث يسير على أثارهم ودروبهم  المتعرجة الوعرة ... !!! 

بشار الاسد يزداد عزلة وانغلاقا , ويزداد اعتمادا على البطش وألة القتل للاستمرار في السلطة على رقاب السوريين وجماجمهم , ولا يحسن قراءة المشهد الدولي . يعتقد أن انكفاء الادارة الامريكية للداخل حاليا , وانشغال اوروبا بأزماتها الاقتصادية , وتفكك المنظومة  العربية وضعف مواقفها سياسيا , وضعف وتشرزم المعارضة السورية في الخارج  من ناحية , واستبسال إيران وروسيا في دعمه من ناحية مقابلة يكفيان ليمنحاه فرصة كافية للقضاء على الثورة وذبح الناس  خلال الفترة القادمة , وإعلان أن الأزمة " خلصت " ,  دون أن يستطيع ملاحظة أن القمع الدموي في الشهور الماضية  لم يؤد إلا لتأجيج أوار الثورة وتوسيع نطاقيها الاجتماعي والجغرافي , وأن العالم بأكمله تقريبا لم يعد يعترف به أو يقبل التعامل معه . والأهم من ذلك , لم يستطع أن يدرك ويعي أن الشعب السوري لم يعد يقبل العودة إلى بيت الطاعة , والعبودية , وأنه مصمم على الاستمرار في الثورة مهما كانت التضحيات والأكلاف ودرجة البطش حتى يسقط هو ونظامه بكل مؤسساته ورموزه .  لا يدرك أن العالم كله لن ينفعه ولن ينقذه ما دام الشعب السوري قد حسم الأمر