التعبئة والتجنيد
رسائل الثورة السورية المباركة (46)
الثورة السورية: المرحلة الثانية (12)
مجاهد مأمون ديرانية
نحن نخوض اليوم مع النظام حرباً لا يمكن أن يخرج منها الطرفان رابحَين، إنها معركة فناء أو بقاء لكل منهما فلا يمكن أن ينتصر فيها إلا واحد، لأنها معركة بين متناقضَين: الحرية والكرامة أو الاستبداد والاستبعاد، الشعب يصرّ على الأولى والنظام يصرّ على الثانية.
النظام حشد لهذه المعركة الفاصلة قواه كلها وجمع مجرميه، لعلهم بلغوا نصف مليون مجرم أو يزيدون، ثم قذف بهم جميعاً في المعركة لأنه علم أنها معركته الأخيرة، فإنه إنْ ربحها بقي وسَلِم -ولو إلى حين- وإن خسرها فمصيرُه الفناءُ المحتوم. مقابل تلك الجماعة الكبيرة من المجرمين وقفت جماعة أكبر، هي الشعب السوري الأبيّ الحر الذي أقسم أن لا يترك الشوارع إلا وبيارقُ النصر تخفق في سماء الوطن.
لقد نجحت الثورة في نشر الروح الثورية في طول سوريا وعرضها، هذا واحد من أكبر إنجازاتها كما قلت لكم من قبل، هل تذكرون؟ سأسترجع الفقرة التي تحدثت فيها عن "الروح الثورية" في مقالة "ما هي المكتسبات التي حققتها الثورة حتى اليوم؟"؛ قلت فيها: "لا بد لكل شخص أن يمرّ بمراحل عدة قبل أن نقول إنه مسكون بروح الثورة، وهذه المراحل هي بالترتيب: (أ) أولاً يقتنع بهدف الثورة، وهو إسقاط ومحاسبة النظام. (ب) بعد ذلك يقتنع بجدواها، لأنه ربما اقتنع بالهدف ولكنه شكّ في إمكانية تحقيقه. (ج) ثم يوافق على المشاركة فيها، فربما اقتنع بهدفها وبجدواها ولكنه باركها من بعيد ونأى بنفسه عنها. (د) ثم يزداد اقتناعاً وإصراراً بحيث يصبر على صعوباتها ومعاناتها ويستمر فيها. (هـ) أخيراً تصبح الروح الثورية لذلك الشخص من القوة بحيث تنتقل إلى غيره بالعدوى".
أنا لا أشك في أن ملايين الأحرار من أهل سوريا قد وصلت إليهم روح الثورة، ولكنهم ليسوا كلهم سواء في درجة تشبّعهم بها، فبعضُهم وقف عند المرحلة الأولى أو عند المرحلة الثانية... إلى آخر المراحل الموصوفة في الفقرة السابقة. سوف أفرز ملايين السوريين اعتماداً على مراحل التشبع بالروح الثورية كما يلي:
إذا تأملتم فإنكم تجدون أن الشعب السوري ينقسم إلى (1) مؤيد للثورة، و(2) مؤيد للنظام. الفريق الأخير هو الأقل عدداً ولكنه موجود ولا يجوز أن يبقى بلا علاج. إنه هدف للثورة في "مرحلتها الثانية"، وسأخبركم ماذا ينبغي أن نصنع معه في بعض المقالات الآتية بإذن الله. (3) وثمّة فريق ثالث بين الفريقين، فريق يتظاهر بالحياد أو يحاول أن يؤجل إعلان موقفه إلى مرحلة لاحقة، وهؤلاء أيضاً هدف للثورة، إنهم "جمهور التجنيد" الذي سأتحدث عنه بعد قليل.
الفريق المؤيد للثورة ينقسم إلى: (أ) جمهور سلبي، و(ب) جمهور إيجابي. الفريقان كلاهما موقنان بأن النظام فاسد شرير ومتفقان على ضرورة إسقاطه، ولكن أحدهما يشكّ في قدرة الثورة على تحقيق الهدف والثاني لا شك عنده في أن النظام ساقط لا محالة بإذن الله تبارك وتعالى. الفاصل بين الجمهورَين السلبي والإيجابي غير صارم ولا نهائي، ففي كل يوم يروح جماعة من هذا الطرف إلى ذلك الطرف ومن الثاني إلى الأول، بحسب الحالة النفسية والارتفاع في سلّم الأمل أو الانخفاض في سلّم اليأس. أنا أشبّه الطرفين بجماعة غرقت سفينتهم وعثروا على طوف إنقاذ، بعضهم اعتلاه فمَدّ يدَه إلى غيره ممن لا يزال في الماء فجذبه، ثم يضطرب الموج فيفقد الأول توازنه وينزلق إلى الماء، فيعود الثاني الذي كان في الماء أولاً فيساعده على اعتلاء الطوف، وتتكرر هذه العملية طول الوقت. إن النفوس تتغير فتُقبل وتدبر، والمعنويات تتفاوت فترتفع وتنخفض، فعلى من وجد في نفسه ثقة أن يبثّها ويوزعها على الآخرين، ومن غلبه اليأس في لحظة من اللحظات فليستمدّ الأمل من الذي غلب عليه الأمل.
ثم إننا نجد أن أولئك الذين اقتنعوا بهدف الثورة وغلبت عليهم الثقة بأنها سوف تحقق هدفها ينقسمون إلى "جمهور حقيقي" نراه في الشوارع و"جمهور كامن" لم يصل إلى الشوارع حتى الآن، فقد وقف عند المرحلة الثانية ولم يتجاوزها.
هذا "الجمهور الكامن" يضم -هو وجمهور المحايدين- ملايين من الناس. إنهم "مستودع بشري" عملاق يستحق أن نمنحه قدراً عظيماً من الاهتمام، وهم هدف هذه المقالة.
* * *
إن النظام يحارب الثورة بتجفيف مواردها البشرية لأنه يعلم أن قوة الثورة بجمهورها، فكلما زادت الأعداد في الشوارع زادت الثورةُ قوةً وعنفواناً وزاد ضغطها على النظام، وكلما قلت الأعداد ضعفت الثورة. النظام قوّته هي السلاح: المدافع والدبابات والقناصات والرشاشات، ونحن قوتنا هي البشر. لقد أخرج النظام من الثورة إلى اليوم عدة آلاف بالقتل، وأخرج من الثورة عشرات الآلاف بالاعتقال، وأخرج من الثورة مئات الآلاف بالحصار. في الظاهر يمكن أن يتسبب إخراجُ تلك الأعداد الهائلة من ساحات المظاهرات في إضعاف الثورة، وإن يكن إضعافاً وهمياً غيرَ حقيقي كما قلت لكم في مقالة سابقة، لأن المتظاهر الممنوع من التظاهر بالقوة هو متظاهر مع وقف التنفيذ، أي أنه جاهز للمشاركة في الثورة بمجرد انتفاء المانع، ومن المعلوم بَداهَةً أن المانع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.
مع ذلك فإن الثورة مطالَبة بأن لا تستسلم لخطة النظام الخبيثة. علينا أن نُثبت له أن خطته فاشلة بأن نقذف في الشوارع أعداداً أكبر مما كان فيها قبل أن ينفّذ حملته الأمنية القمعية الشرسة. كلما اعتقل وحاصر فمنع الناس من التظاهر علينا أن نأتي بآخرين. كيف؟ من المستودع البشري العملاق للثورة، من الجمهور "الكامن" الذي وصفته قبل قليل: (أ) بتحويل الجمهور السلبي إلى جمهور إيجابي، و(ب) بتحويل الجمهور المحايد إلى جمهور ثوري... أو باختصار: بالتعبئة والتجنيد.
التعبئة مصطلح عسكري معناه استدعاء جنود الاحتياط للالتحاق بمراكز الخدمة، هل سمعتم أن بشار الأسد أعلن التعبئة قبل أسبوعين؟ هذا لأن النظام يعاني من جفاف في قدراته البشرية، لقد استنفد ضغطُ الثورة على النظام تلك الطاقات إلى حدودها القصوى، وهو يقترب بها من درجة الانهيار. سأعود إلى موضوع التعبئة التي أعلنها النظام في مقالة لاحقة (تفريغ الجيش)، لنبق الآن في موضوعنا، التعبئة الثورية: (أ) نريد أن نستدعي إلى الخدمة في صفوف الثورة جنودَها الاحتياطيين، أي أن علينا أن ننقل الجمهور الكامن إلى جمهور فاعل. (ب) ونحن بحاجة أيضاً إلى التجنيد؛ سوف نستهدف جمهور "المحايدين" الذين وصفناهم قبل قليل ونطبق عليهم خطة التجنيد لكي ننقلهم من موقع الحياد إلى دعم الثورة والمشاركة فيها.
* * *
والآن تعالوا نترجم الفكرة العامة التي ناقشناها قبل قليل إلى خطة عمل:
(1) نريد أولاً أن نحارب اليأس وأن نُبقي جمهور الثورة في صحة نفسية مناسبة للاستمرار والصبر على طول الطريق وصعوبته. هذه المهمة مكلَّفٌ بالقيام بها وبتنفيذها كلُّ من يعيش في عافية نفسية ومن يغلب عليه التفاؤل والأمل، سواء أكان يعيش في سوريا أم خارجها، بالتواصل الشفهي أو بالتعليق والكتابة في المنتديات والصفحات أو في المراسلات الخاصة والمحادثات العامة.
(2) علينا بعد ذلك أن ننشر الروح الثورية لتصل إلى من لم تصل إليهم حتى الآن. هذه هي مهمة الفريق الذي وصل إلى مراحل متقدمة من التشبع بالروح الثورية، فاقتنع بالثورة وشارك فيها وصبر عليها؛ هؤلاء قَدَرهم أن يكونوا طليعة الثورة وأن يُقنعوا بها غيرهم.
(3) أرجو أن توافقوا على اعتبار التعبئة والتجنيد "فريضة ثورية" من فروض العين لا من فروض الكفاية، أي أن تكون واجباً فردياً على كل واحد من الثوار الفاعلين، فلا يَقُلْ أحدٌ منكم: إن غيري يصنع ذلك فيُسقط العبء عني. لو قال كل واحد هذه المقالة فسوف يموت المشروع قبل أن يولد.
(4) لا تحاولوا استهداف أشخاص بعيدين لضمهم إلى الثورة، فهذا الإجراء غيرُ آمن. ابدأ من الدوائر القريبة التي تحيط بك، دائرة الأقارب ودائرة الأصحاب، ولا بد أن تجد عدداً غير قليل منهم صالحاً لدعوته إلى الثورة وإقناعه بالمشاركة فيها، من أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات، ومن الرفقاء والأصدقاء ومن الزملاء في العمل، على أن لا تدعو إلا من تثق به لئلا يشي بك فتصبح هدفاً للاعتقال لا سمح الله.
(5) أقترح أن لا يُتعب أي منكم نفسه فيتحدى مقارعة الصخر. ستجدون في جمهور "المحايدين" قريبين من فكرة الثورة وبعيدين، وبما أن الوقت لا يسمح بتضييعه على الشخص البعيد فابدؤوا بالأقرب فالأقرب، ولعلكم حينما تنقلون شخصاً من الحياد القريب إلى التأييد ينتقل الذي بعده تلقائياً من الحياد البعيد إلى الحياد القريب.
(6) نريد خطة زمنية. يقول علماء الإدارة إن أي خطة لا معنى لها دون تأطيرها وتحديدها بالزمن، فإذا أعلنت شركة ما عن إجراءات تفصيلية لمضاعفة أرباحها فهذه ليست خطة ما لم تخبرنا بمدة التنفيذ، وبغير ذلك لن توجد أداة لقياس النجاح والفشل، لأنها لو ضاعفت أرباحها بعد عشرين سنة فسوف تقول: ألم أقل سأضاعف الربح؟ لقد نجحت الخطة! الإطلاق لا يصلح، نريد أن نحدد هدفاً لكل مشارك في الثورة: عليك بأن تضم إلى الثورة شخصاً واحداً على الأقل كل أسبوع، وإن استكثرتم الهدف واستقصرتم المدّة فليكن شخصاً كل أسبوعين.
الأسبوعان مدة طويلة وكافية لتنفيذ خطة من هذا النوع، إنهما كافيان تماماً -والله أعلم- لتجنيد شخص محايد أو لنَقْل متشكك إلى صفوف الواثقين. لا تستقلّ الأسبوعين، فلو أن كل واحد من جمهور الثورة طبق الخطة بنجاح فسوف يصبح الواحدُ أربعةً في نهاية الشهر الأول وستة عشر في نهاية الشهر الثاني... (الواحد يصبح اثنين بعد أسبوعين وكل منهما يصبح اثنين بعد أسبوعين آخرين، إلخ). فإذا كان جمهور الثورة الذي يشارك في المظاهرات الفعلية اليوم مئة ألف (أو لنقل إنه مئة وعشرون ألفاً لتسهيل الحساب) فسوف يبلغ أربعة ملايين متظاهر بعد عشرة أسابيع. لا بد -بالطبع- من إخفاقات، ولا بد من تسريبات إما بالاعتقال أو بالانسحاب الطوعي، لكن النتائج سوف تبقى مذهلة رغم كل شيء بإذن الله.
توكلوا على الله، قولوا "الله" يا رجال وابدؤوا بتنفيذ الخطة منذ اليوم.